سورة الأنبياء

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قوله تعالى: { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } الآية:

قال بعضهم: دنا أوان الانتباه، وهم في غفلة معرضون عن طريق التوبة والتيقظ والانتباه.

قال عبد العزيز المكي: الاقتراب يدل على مضي الأكثر، ومضي الأقل عن قريب كما مضى الأكثر، ومضى الأكثر في ساعة على غفلة من الناس، ومضى الأقل في طرفة عين على غفلة منهم، وتبقى الحسرة والندامة على ما مضى في الغفلة، وليس تنبيه القلوب لما بقي، لأن القلوب عميت لارتكاب الذنوب واقترافها والمداومة عليها، وقلة المبالاة بما وعد عليها.

وقال يحيى بن معاذ: جاز لك أن تحاسب نفسك وقد مضى أكثر عمرك، وتنزجر عن

الغفلة وقد نوديت ودعيت إلى الأنبياء نداء لم يبق لأحد معه عذر وهو قوله { اقترب للناس حسابهم } فرحم اللّه عبدا حاسب نفسه قبل أن تحاسب، ووزن نفسه قبل أن

توزن، وانتبه عن غفلته قبل أن ينبه أولئك هم الأبرار.

٣

قوله تعالى: { لاهية قلوبهم } الآية: ٣

قال ابن عطاء: معرضة عن طريق رشدهم.

قال أبو بكر الوراق: القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها، والغافل عن

الآخرة وأهوالها. قال اللّه تعالى: { لاهية قلوبهم }.

قال بعضهم: غافلة عن مسالك اليقين، وطريق المتقين.

قال أبو عثمان: غافلة عما يراد بها ومنها.

قال المرتعش: غافلة عن منافعها، مقبلة على مضارها.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: لاهية قلوبهم عن المصادر والموارد، والمبدأ والمنتهى.

٧

قوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } الآية: ٧

قال سهل: سلوا أهل الفهم عن اللّه، والعلماء به وبأوامره وأيامه.

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: أهل الذكر: العالمون بحقائق الذكر والعلوم ومجاري

الأمور والناظرون إلى الأحكام بأعين الغيب.

١٠

قوله تعالى ذكره: { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم } الآية: ١٠

قال سهل: العمل بما فيه حياتكم.

قال بعضهم: في هذه الآية خاطب كلا على مقدار طاقته والأنبياء مخاطبون منه على

جهة، ولنبينا صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين أخص الخطاب وهو قوله: { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }، وقوله: { وإنك لعلى خلق عظيم }، والأولياء مخاطبون

منه على جهة وهو قوله: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }، والمؤمنون مخاطبون

على جهة وهو قوله: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }.

١١

قوله: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } الآية: ١١

قال أبو بكر الوراق: في الظلم خراب العمران كما

قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' الظلم ظلمات

يوم القيامة '. فإذا أظلم القلب عن المعرفة والإخلاص خرب، وعلامة خراب القلب

عصيان الجوارح وتعديها وميلها إلى ما فيه من الهلاك، لذلك قال اللّه عز من قائل:

{ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } ومعناها: كانت غافلة عنا، متبعة لهواها.

١٨

قوله تعالى: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه } الآية: ١٨

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: الوعظ للأكابر. ومنهم من له مشار مقذوف، كقوله:

{ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه }.

٢٢

قوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا } الآية: ٢٢

قال السياري: حثك في هذه الآية على الرجوع إليه، والاعتماد عليه، وقطع العلائق

والأسباب عن قلبك.

٢٣

 وقوله: { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } الآية: ٢٣

قال ابن عطاء: كيف يسئل من له الحجة على خلقه، والقهر عليهم.

وسئل ابن حماد عن قوله: { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } لم لا. كيف لا يسئل

عما يفعل وهم يسئلون. لم لا يسئل؟ قال: لأن أفعاله من غير علة.

٢٧

قوله تعالى ذكره: { لا يسبقونه بالقول } الآية: ٢٧

قال القاسم: لا يسبقونه قصدا ولا فعلا، لأنهم مربوطون بما ذكرهم، مقموعون بما

عرفهم لئلا يفترى عليهم أحد.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: ذكر الأنبياء وسائر الخلق بصفاتهم ونعوتهم. قيل:

إنه خلقهم كي يوقنوا ويعلموا أنهم لا يسبقونه بالقول والفعل، وهم بأمره يعملون.

سمعت محمد بن الحسين بن الخشاب يقول: سمعت أبا القاسم النقاش يقول:

سمعت فهدان بن المبارك يقول: الطريق إلى اللّه أكثر من نجوم السماء، وذلك لأن

القلوب تتقلب فكل تقليبة منها طريق إلى اللّه، والقلب لا يسكن عن تقلبه إلا قلوب

الموقنين فهي ساكنة إلى اللّه وساكنة بين يدي اللّه تنتظر ما يؤدبها الرب إليه فتصرف عن

آداب لها لا بتقديم قول ولا فعل. أما سمعت اللّه تعالى يقول لما مدح الملائكة { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون }.

قال سهل: جعل الكرامات كلها للمتقين من عباده ثم وصفهم فقال: { لا يسبقونه بالقول)

* أي: لا اختيار لهم مع اختياره { وهم بأمره يعملون } اتباع السنة في الظاهر،

ومراقبة اللّه في الباطن.

٢٨

,قوله تعالى: { وهم من خشيته مشفقون } الآية: ٢٨

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: الخوف للجهال، والخشية للعلماء، والرهبة على

الأنبياء، وقد ذكر اللّه الملائكة فقال: { وهم من خشيته مشفقون }.

٣٥

قوله تعالى: { كل نفس ذائقة الموت } الآية: ٣٥

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: من كان بين فناءين فهو فاني.

وقال: من كانت حياته بنفسه، يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه، فإنه

ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل، وهو الحياة على الحقيقة.

قوله عز وجل: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } الآية: ٣٥

قال سهل: { نبلوكم بالشر } فهو متابعة النفس في الهوى بغير هدى، ' والخير '

العصمة من المعصية، والمعونة على الطاعة. وقيل: { نبلوكم بالشر } وهو: الأمراض

والمصائب والمحن. ' والخير ' وهو: الأمن والعافية والدعة، وكل هذا فتنة لأنها تشغل

عن الحق وتقطع عنه.

٣٧

قوله تعالى: { خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون } الآية: ٣٧

قال الواسطي رحمة اللّه عليه في هذه الآية: قال ذلك إظهارا لعجزهم، وتعريفا

لقدرته قال: { فلا تستعجلون }.

قال الحسن: زجرهم عما جبلهم عليه.

٤٠

قوله تعالى: { بل تأتيهم بغتة فتبهتهم } الآية: ٤٠

قال بعضهم: من يبهته شيء من الكون فهو لمحله عنده وغفلته عن مكونه، ومن كان

في قبضة الحق وحضرته لا يبهته شيء لأنه حصل في محل العبيد من منازل القدس.

٤٢

قوله تعالى: { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } الآية: ٤٢

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: أي من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن، ومن

يظهر عليكم ما سبق فيكم. { بل هم عن ذكر ربهم معرضون }: أي ذكره إياهم في

الأزلية بالنجاة والهلاك.

وقيل في هذه الآية: من يأخذهم ويمنعهم من تصريف ما صرفهم، وتسيير ما

سيرهم، وتدبير ما دبر لهم، فسائر يسير بأنوار رحمته، وآخر يسير بميزان سخطه.

وقال ابن عطاء: من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن وهل يقدر أحد على

الكلاءة سواه؟

وقال الحسين: أي من يأخذهم عن تصاريف القدرة، ومن يحجبهم عن سوابق

المقضى.

قوله تعالى: { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا }.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: من أصحبه اللّه أنواره فهو متبوع بآثاره وأنواره،

وآثاره وأنواره تسير إلى العبد في أوقاته، لأن العبد يصحب ويتبع آثار أنواره بذاته،

وفرق بين أن يقول: أصحبه اللّه أنواره، وبين أن يقول: صحب العبد أنواره بذاته.

٤٧

قوله تعالى: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } الآية: ٤٧

قال القاسم: الأعمال والموازين شتى، والعدل ميزان اللّه في الأرض، فمن وزن

أعماله بميزان العدل فهو من العابدين، ومن وزن حركاته بميزان العدل فهو من المخبتين،

ومن وزن خطراته وأنفاسه بميزان العدل فهو من العارفين، وميزان العدل في الدنيا

ثلاثة: ميزان النفس والروح، وميزان القلب والعقل، وميزان المعرفة والسر. فميزان

النفس والروح: الأمر والنهي، وكفتاه الوعد والوعيد. وميزان القلب والعقل: الإيمان

والتوحيد، وكفتاه الثواب والعقاب. وميزان المعرفة والسر: الرضا والسخط، وكفتاه

الهرب والطلب. فمن وزن أفعال النفس والروح بميزان الأمر والنهي بكفة الكتاب

والسنة ينال الدرجات في الجنان، ومن وزن حركات القلب والعقل بميزان الثواب

والعقاب بكفة الوعد والوعيد أصاب الدرجات ونجا من جميع المشقات، ومن وزن

خطرات المعرفة والسر بميزان الرضا والسخط بكفة الهرب والطلب نجا من الذي هرب،

ووصل إلى ما طلب، فيصير عيشه في الدنيا على الهرب، وخروجه منها على الطلب،

وعاقبته إلى غاية الطرب، فمن أراد الوصول إلى المسبب فعليه بالهرب من السبب، فإن

السبب حجاب كل طالب.

٥٠

قوله تعالى: { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } الآية: ٥٠

قال ابن عطاء: مبارك على من يسمعه، مبارك على من يتعظ به، ومبارك على من

ينزل بهمته وقلبه عليه، مبارك على من آمن به وصدق ما فيه، فمن لم ير على سره

وقلبه ونفسه آثار بركات القرآن فليعلم ببعده عن مصدر الخواص، ودخوله في ميدان

العوام من الأشقياء.

٥١

قوله تعالى: { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } الآية: ٥١

سئل الجنيد رحمة اللّه عليه متى آتاه رشده؟ قال: حين لا شيء. وقال: آتاه سوابق

الأزل لإظهاره كما أظهر على الخليل في السخاء، والبذل، والأخلاق، في بذل النفس

والولد والمال في رضا الحق، فلا يشتغل إلا به، ولا يفرح إلا به، ولا يلتفت إلا إليه

فقال اللّه تعالى: { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل }.

وقال ابن عطاء: اصطفاه لنفسه قبل أن أبلاه بخلقه.

وقال بعضهم في قوله: { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل }: قال: لما ولد إبراهيم

بعث اللّه تعالى إليه الملك فقال: يا إبراهيم إن اللّه يأمرك أن تعرفه بقلبك، وتذكره

بلسانك. قال إبراهيم: قد فعلت، ولم يقل: أفعل.

٦٦

قوله تعالى: { أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } الآية: ٦٦

قال ابن عطاء: دعا اللّه عز وجل عباده إليه، وقطعهم عما دونه بقوله: { أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } كيف تعتمده وهو عاجز مثلك، ولا تعتمد

من إليه المرجع وبيده الضر والنفع.

قال حمدون القصار: استغاثة الخلق بالخلق كاستغاثة المسجون بالمسجون.

٦٩

قوله تعالى ذكره: { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } الآية: ٦٩

قال ابن عطاء: سلام إبراهيم من النار بسلامة صدره لما حكا اللّه عنه { إذ جاء ربه بقلب سليم } خاليا عن جميع الأسباب والعوارض، وبردت عليه النار لصحة توكله

ويقينه، وثقته، حيث ناداه جبريل هل من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.

٧٨

قوله تعالى: { ففهمناها سليمان } الآية: ٧٨

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: أفهم اللّه سليمان مسألة من العلم فمن اللّه عليه بذلك،

وأعطاه الملك فلم يمن عليه وقال: { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } بل

أراه حقارته في ثلاث مواضع حين سأل الملك واختاره عرفه قلة ملكه، وخسته

حين ألقى على كرسيه جسدا، وحيث قال: { فسخرنا له الريح } أراه أن الملك الذي

أعطاه ريح لأنه لا يدوم والملك هو الذي يدوم، وحين قال له آصف وهو الذي عنده

علم من الكتاب { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } وحيث قال: { هذا عطاؤنا فامنن } أي أعط من شئت لحقارته وخسته.

٧٩

قوله تعالى: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } الآية: ٧٩

قال محمد بن علي: جعل اللّه الجبال تسلية للمحزونين وأنسا للمكروبين، ألا تراه

يقول: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن }.

وقال بعضهم: الأنس الذي في الجبال هو أنها خالية عن صنع الخلائق فيها بحال،

باقية على صنع الخالق لا أثر فيها لمخلوق فتوحش. والآثار التي فيها آثار صنع حقيقي

من غير تبديل ولا تحويل.

٨٣

قوله تعالى ذكره: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر } الآية: ٨٣

حدثنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن شاذان قال: حدثنا عبد اللّه بن جعفر بن علي

الموصلي، قال: حدثنا الحسن بن داود قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن أنس قال: جاء

رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله عن قول أيوب: { مسني الضر } فبكى النبي

صلى اللّه عليه وسلم وقال:

' والذي بعثني بالحق نبيا ما شكى فقرا نزل إليه من ربه، ولكن كان في بلائه سبع

سنين، وسبع أشهر، وسبع أيام، وسبع ساعات، فلما كان في بعض ساعات وثب

ليصلي قائما فلم يطق النهوض فجلس ثم قال: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين '.

قال صلى اللّه عليه وسلم: ' أكل الدود سائر جسده حتى بقي عظاما نخرة فكانت الشمس

تطلع من قبله

وتخرج من دبره '، ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' ما بقي إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه

لا يخلو من

ذكر اللّه جل وعز، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب اللّه له الفرج بعث إليه

الدودتين إحداهما إلى لسانه، والأخرى إلى قلبه، فقال: يا رب ما بقي إلا هاتان

الجارحتان، قلبي ولساني أذكرك بهما. وقد أقبلت هاتان الدودتان إحداهما إلى قلبي،

والأخرى إلى لساني، يقطعاني عنك ويطلعاني على سري: { مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } '.

قال أبو عبد الرحمن السلمي: وإني بريء من عهدة هذا الحديث، وليس يشبه هذا

كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم.

قال ابن عطاء: استعذب الأولياء البلاء للمناجاة مع المولى لذلك قال الحسين بن

علي: ذكر اللّه على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء.

وقال جعفر: خرج منه هذا الكلام على المناجاة مستدعيا للجواب من الحق ليسكن

إليه لا على حد الشكوى.

وقال النصرآباذى: الخلق كلهم في ميادين فضله يتروحون، وألسنتهم منبسطة

بالشكوى فصيحة به.

قال جعفر: لما سلط اللّه البلاء على أيوب وطال به الأمر أتاه الشيطان فقال: إن

أردت أن تتخلص من هذا البلاء فاسجد لي سجدة فلما سمع ذلك فقال: { مسني الشيطان بنصب وعذاب } ومسني الضر حين طمع الشيطان في أن أسجد له.

وقال أيضا: لما تناهى أيوب في البلاء واستعذبه صار البلاء وطنا له، فلما اطمأنت

إليه نفسه وسكن عنه البلاء شكره الناس على صبره، ومدحوه عليه فقال: ' مسني

الضر ' لفقد الضر وأنشد في معناه:

* تعودت مس الضر حتى ألفته

* وأسلمنى حسن العزاء إلى الصبر

*

* وصيرني يأسى من الناس راجيا

* لسرعة لطف اللّه من حيث لا أدري

*

وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: قال اللّه لأيوب: لولا أني جعلت تحت كل شعرة منك

صبرا لما صبرت وكنت مع هذا تشكو وتقول: { مسني الضر }.

وقال ابن عطاء: تبدد همه، وليس في العقوبات شيء أشد من تبدد الهم فمرة كان

يطالع في بلائه العقوبة، فيقول: لعلي فيه معاقب، ومرة كان يطالع الكرامة فيقول:

لعلي ما دفعت إليه كرامة من اللّه، ومرة يطالع الاستدراج ويقول: لعلي في صبري

مستدرجا، فلما تشتتت عليه الخواطر، قال: مسني الضر من تشتت هذه الخواطر لأن فيه

شبه التحير.

وقال بعضهم: كان أيوب قائما مع الحق في حال الوجد فلما كشف عنه البلاء

وأظهره، وكشف ما به قال: { مسني الضر }.

وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: عمل الدود في جسده فصبر فلما قصدوا قلبه غار عليه

لأنه موضع المعرفة، ومعدن التوحيد، ومأوى النبوة والولاية، وقال: { مسني الضر }

افتقارا إلى اللّه مع ملازمة آداب النبوة.

وقال ابن عطاء: لما أراد اللّه كشف ضر نبيه أيوب أحب أن يكون من أيوب فيه حركة

لإقامة العبودية أبلاه بما الصبر فيه مذموم. وهو الغيرة، فخاف أن يكون قد جعل العدو

على أهله سبيلا فقال: { مسني الشيطان بنصب } فنودي في سره مسك الضر يا أيوب.

فقال صلى اللّه عليه وسلم معتذرا عما قال: { مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } على

معنى الاستفهام

' أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين؟ '.

وقال سهل في قوله: { أني مسني الضر } قال أظهر اللّه في أيوب عليه السلام

البلاء، وأعطاه الصبر فلما أن قام بأحكام الصبر ورثه الرضا بالبلاء فصار شكواه إليه

مناجاة له في مس البلاء.

وقال ابن خفيف: كان أيوب مستترا بحال الصبر عن البلاء، فلما أراد اللّه إظهاره

للخلق ضج فقال: { مسني الضر }.

وقال أبو علي المغازلي: أوحى اللّه إلى أيوب في حال بلائه، يا أيوب: إن هذا البلاء

قد اختاره سبعون نبيا قبلك فما اخترته إلا لك. فلما أراد اللّه كشفه عنه قال: آه مسني

الضر.

وقال سهل: الضر على وجهين: ضر ظاهر، وضر باطن، فالباطن حركة النفس عند

الوارد واضطرابها، والظاهر الآلام. وإذا تحرك الباطن تحت الوارد انزعج الظاهر

بالصياح والدعاء.

وقال الحسين: تجلى الحق لسره، وكشف عنه أنوار كرامته فلم يجد للبلاء ألما فقال:

{ مسني الضر } لفقدان ثواب البلاء والضر، إذ صار البلاء لي وطنا وعلى نعمة.

وقال بعضهم في قوله: { مسني الضر }: أي أنت أرحم بي من أن يمسني معك

الضر.

وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: ليس من صفات البشر أن يتجلد على البلاء إلا بالنظر

إلى المبلى، إذ ذاك يصير البلاء عنده نعمة، وإنما معنى هذه الآية: أيمسني الضر وأنت

لي؟ هذا ما لا يكون.

وقال غيره: نال كل عضو منه البلاء إلى موضع البداء فنادى الضر في الباقي منه

على العافية لا عن موضع البلاء فقال: { مسني الضر } نداء، لا شكوى. وأنشد

شعرا:

* ولو مضى الكل مني لم يكن عجبا

* وإنما عجبي للبعض كيف بقي

*

* أدرك بقية روح فيك قد تلفت

* قبل الفراق وهذا آخر الرمق

*

قال الواسطي رحمة اللّه عليه في قوله: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } طاعتك خاصة نداء فذكر ضره ومحبته، وفزع إلى ما عرف من صفته

ونعته، كما فزع محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى قوله: ' أعوذ برضاك من سخطك '

فاستجبنا له

وكشفنا ما به من ضر لأدبه في وقت السؤال، وقلة حيلته في وقت الدعاء.

وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: أنت أرحم بي من أن ترينيه ضرا بعد أن جعلتني في

حقيقة الرضاء، وهو الوقوف معك بلا طلب زيادة أو نقصان.

سمعت منصور بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت

أبا جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في قوله

{ مسني الضر } قال: حبس عني الوحي أربعين يوما فخشى الهجران من ربه، والقطيعة

فقال: { مسني الضر }.

سئل الجنيد رحمة اللّه عليه عن قوله { مسني الضر } قال: عرفه فاقة السؤال ليمن

عليه بكرم النوال.

٨٤

قوله تعالى: { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر } الآية: ٨٤

قال بعضهم: استجاب دعاءه، وفتح عليه أبواب الرضا لئلا يعارض بعد ذلك في

حال، لا مستكشفا للبلاء ولا متلذذا به لأن كلاهما مواضع العلل والرجوع إلى النفس

وتربيتها.

وقال أبو بكر بن طاهر: أجاب اللّه دعاء أيوب عليه السلام بكشف الضر عنه، وذلك

الضر هو ما كان يجد من ضعف نفسه عن القيام بخدمة مولاه، فرد اللّه إليه قوته ليقوم

له بحسن الخدمة، وهو كشف الضر.

قوله تعالى ذكره: { رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } الآية: ٤٨

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: أي موعظة للمطيعين عند نزول المحن بهم، وتحريضا

على الرضا وحسن الدعاء من غير تصريح به بل إظهارا للحال.

٨٧

قوله تعالى ذكره: { وذا النون إذ ذهب مغاضبا } الآية: ٨٧

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: مغاضبا على نفسه في ذهابه فظن أن لن نأخذه بغضبه

وذهابه.

وقال ذو النون: أخفي ما يخدع به العبد من الألطاف والكرامات ورؤية الآيات.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه في قوله: { إذ ذهب مغاضبا } قال: لا تكونوا من بني

المبادرة والمقابلة، وكونوا من بني الرحمة بالتصريف والفضل.

قال القاسم في قوله: { فظن أن لن نقدر عليه } توهم أن لن نقضي عليه العقوبة

وذلك لحسن ظنه بمولاه.

قال فارس في قوله: { إذ ذهب مغاضبا } قال: كان غضبه على قومه بخلافهم له

على جواب الدعوة { فظن أن لن نقدر عليه }: أي لن نقدر على الانتقام منهم. ليعلم

أنه ليس للطاعة ولا للمعصية عنده قدر.

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: ظن أن لن نقدر نريه قدر نفسه في سخطه على عبادنا.

وقال في قوله: { إني كنت من الظالمين }: أي من الجاهلين، أنك لا تقرب بطاعة،

ولا تبعد بمعصية.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه في قوله: { وذا النون إذ ذهب مغاضبا } إلى قوله

{ ننجي المؤمنين } إذا عرفوا أحسنوا الدعاء وأحسنوا طريقة السؤال بدأ بالتوحيد لا إله

يقدر على ما فعلت إلا أنت سبحانك نزهه عن الظلم وقرفوا عليه في فعله به ونسب

الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا.

٨٨

قوله تعالى ذكره: { وكذلك ننجي المؤمنين } الآية: ٨٨

قال الجنيد: من همومهم وكروبهم بالإخلاص والصدق والافتقار، والالتجاء،

وحقيقة حسن الاعتراف وإظهار الاستسلام.

٨٩

قوله تعالى ذكره: { وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا } الآية: ٨٩

قال جعفر: لا تجعلني ممن لا سبيل له إلى مناجاتك، والتزين بزينة خدمتك.

وقال أيضا: فردا عنك، لا يكون لي سبيل إليك.

قال ابن عطاء في قوله: { لا تذرني فردا } أي خاليا من عصمتك.

وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: أي لا تجعلني غافلا عنك معرضا من ذكرك.

٩٠

قوله تعالى ذكره: { ويدعوننا رغبا ورهبا } الآية: ٩٠

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: أمر اللّه تعالى الأنبياء بالخشوع وهو الوقوف بين

الرغبة والرهبة وحقيقة سكون، يشير إلى الرضاء قال اللّه تعالى: { ويدعوننا رغبا ورهبا)

.*

قال بعضهم: الرهبة أرق من الخشية والخوف لأنه من شروط المسألة { يدعوننا رغبا ورهبا }.

قال بعضهم: رغبة فينا، ولا رهبة من سوانا، فقيل رغبة في لقائنا، ورهبة من

الاحتجاب عنا، وقيل: رغبة في الطاعات، ورهبة من المعاصي.

قوله تعالى: { وكانوا لنا خاشعين } الآية: ٩٠

قال أبو يزيد رحمة اللّه عليه: الخشوع خمود القلب عن الدعاوى.

وقال بعضهم: الخشوع زمام الهيبة.

وقال بعضهم: إذا أردت أن يعرف الخاشع فخالفه، فإن كان خاشعا فزاده لك رأفة

وشفقة عليك وإن لم يكن خاشعا انتقم لنفسه وغضب لها.

٩٤

قوله تعالى: { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } الآية: ٩٤

قال أبو بكر الوراق: العمل الصالح هو الخالص الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا

يكون فيه طلب ثواب ويكون معاملة على مشاهدة.

١٠١

قوله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } الآية: ١٠١

قال الحسين بن الفضل: سبقت العناية، فظهرت الولاية.

وقال ابن عطاء: سبق منه الاختيار، فظهر منهم إلى رضاء البدار.

وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: من سبق إليه من الحق إحسان، فإنه لا يزال يتقلب في

ميادين المحسنين إلى أن يبلغ إلى أعلى مراتب أهل الإحسان بقوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }.

وقال بعضهم: سبقت العناية لأهل الهداية فبلغوا بها إلى شرف الولاية.

قال بعضهم: سبق الامتنان لأهل الفضل والإحسان فاستحقوا بها القرب والوصول.

قال بعضهم: إذا سبقت للعبد من اللّه السعادة فغفلته كلها أذكار، وإذا سبقت للعبد

من اللّه الشقاوة فإذا كان كلها غفلة، وأنشد:

* من لم يكن للوصال أهلا

* فكل إحسانه ذنوب

*

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: أولئك قوم هداهم اللّه فهذبهم بذاته، وقد سهم

بصفاته، فسقطت عنهم الشواهد والأغراض، ومطالعات الأعواض، فلا لهم إشارة في

شواهدهم، ولا عبارة عن أماكنهم، وحجبهم عن الاستقرار في المواطن فلا هم، هم

بأنفسهم ولا هم حاضرين في حضورهم بحضورهم.

قال النهرجوري في هذه الآية: قال اللّه: { سبقت لهم منا الحسنى } ولم يقل

((سبقت لهم منهم الحسنى، فما سبق من إحسانه إليهم سابقه حلم بالسعادة لهم فتح

أبصارهم النظر إلى الأكوان معتبرين، وفتح أسماعهم بسماع خطابه، وأجرى ألسنتهم

بذكره، وزين قلوبهم بمعرفته، وخاطبهم كما خاطب الأنبياء، وركب فيهم العقل للتمييز

فهذا قوله: { سبقت لهم منا الحسنى }.

وقيل في هذه الآية: الحسنى: العناية السابقة وهي خمسة أشياء: العناية، والاختيار،

والهداية، والعطاء، والتوفيق. فبالعناية وقعت الكفاية، وبالاختيار وقعت الرعاية،

وبالهداية وقعت الولاية، وبالعطاء وردت الخلعة، وبالتوفيق وقعت الاستقامة. والحسنى

هذه السوابق.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: نور قلوبهم بالطمأنينة وسكنت نفوسهم إلى الرحمانية

بإزالة وحشة رؤية الأفعال من سرائرهم.

١٠٢

قوله تعالى: { لا يسمعون حسيسها } الآية: ١٠٢

قال الواسطي: هم أهل الحقائق لا يحسون بضجيج أهل الدنيا لأنهم مصدودون

عنها بما ورد على سرائرهم من وهج الحقائق، ويترددون في منازلهم لا يقطعهم

عن ذلك قاطع لانغماسهم في بحور الحقيقة.

١٠٣

قوله تعالى: { لا يحزنهم الفزع الأكبر } الآية: ١٠٣

قال: نداء القطيعة الذي ينادي به ((يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود

فلا موت)) وقوله: { اخسئوا فيها }.

قوله تعالى ذكره: { وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون } الآية: ١٠٣

قال ابن عطاء: للقلوب شهوة: وللأرواح شهوة، وللنفوس شهوة، وقد جمع لهم

في الجنة جميع ذلك، فشهوة الأرواح القرب، وشهوة القلوب المشاهدة والرؤية وشهوة

النفوس الالتذاذ بالراحة.

قوله تعالى ذكره: { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } الآية: ١٠٣

قيل ميعاد أهل الجنة فيها الوصلة، وميعاد أهل النار فيها القطيعة.

١٠٥

قوله تعالى ذكره: { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } الآية: ١٠٥

قال سهل: أضافهم إلى نفسه وحلاهم بحلية الصلاح؟ معناه: لا يصلح لي إلا ما

كان خالصا لي لا يكون لغيري فيه أثر وهم الذين أصلحوا سريرتهم مع اللّه، وانقطعوا

بالكلية عن جميع ما دونه.

١٠٦

قوله تعالى ذكره: { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } الآية: ١٠٦

قال يحيى بن معاذ: هو تصفية أربعة من أربعة: تصفية القلب من الحسد والخيانة،

واللسان من الكذب والغيبة، والخلق من أكل الحرام والشبهة، والنفس من الريبة. ففي

هذه الأشياء بلاغ لقوم عابدين.

قال سهل: لم يجعل البلاغ لجميع عباده، بل خصه لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا

اللّه جل وعز وبذلوا له مهجتهم لا من أجل عوض، ولا لأجل نار، ولا لأجل جنة،

بل حبا له، وافتخارا بما أهلهم من عبادتهم إياه.

١٠٧

قوله تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } الآية: ١٠٧

قال أبو بكر بن طاهر: زين اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه

رحمة، ونظره

إلى من نظر إليه رحمة وسخطه ورضاه وتقريبه وتبعيده، وجميع شمائله وصفاته رحمة

على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين أجمع عن كل

مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى اللّه يقول: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } فكانت حياته رحمة، ومماته رحمة كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ' إذا

أراد اللّه رحمة

أمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا '.

١١٠

قوله تعالى: { إنه يعلم الجهر من القول } الآية: ١١٠

قال الحسين: كيف يخفى على الحق من الخلق خافية، وهو الذي أودع الهياكل

أوصافها من الخير، والشر، والنفع، والضر فما يكتمونه أظهر عنده مما يبدونه، وما

يبدونه قبل ما يكتمونه. جل الحق أن تخفى عليه خافية من عباده بحال.

ذكر ما قيل في سورة الحج

﴿ ٠