سورة الحج

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله تعالى: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } الآية: ١

قال بعضهم: وجوه التقوى مختلفة، فمتق اتقى اللّه بجهل، ومتق اتقاه بعلم، ومتق

اتقاه بعجب، ومتق اتقاه برؤية قيام اللّه تعالى على عباده، ومتق اتقاه عن كل ما سواه،

وأول درجة التقوى أن لا ترى نفسك فيه، ولا تدخل تحت رق أحد.

قال بعضهم: التقوى لا يسترقك شيء دون مولاك، وهو الحرية، وكل من طلب

الجزاء، لم يكن متقيا، وإن كان وعد عليه.

وقال بعضهم: أفضل العبادة التقوى فإنه الطريق إلى اللّه والوسيلة به.

٢

قوله تعالى: { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } الآية: ٢

قال جعفر: أسكرهم ما شاهدوا من بساط العز وسلطان الجبروت، وسرادق الكبرياء

حتى ألجأ النبيين إلى أن قالوا: نفسي. نفسي.

٣

قوله عز وجل: { ومن الناس من يجادل في اللّه بغير علم } الآية: ٣

قال سهل: تخاصم في الدين بالهواء والقياس دون الاقتداء فعند ذلك يضل ويبتدع.

٥

قوله تعالى: { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا }

الآية: ٥

قال الواسطي رحمه اللّه تعالى: اندرج ما علم منه بما بسط له وفتح عليه وضرب له

مثلا { وترى الأرض هامدة }: أي ساكنة عن الثبات، جافة عن الخضرة، فإذا أنزلت

عليها الماء اهتزت وربت: أي ظهرت عليه، وروت، وربت: وأنبتت. إن الذي أحياها

بالنعوت لمحيي بالعلوم في الدنيا، وبالأرواح في الآخرة.

١١

قوله تعالى: { ومن الناس من يعبد اللّه على حرف } الآية: ١١

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: على رهن ارتهنه فاطمأن إليه كذلك.

قال يحيى بن معاذ: الناس من مخافة فضيحة الدنيا وقعوا في فضيحة الآخرة، ومن

أجل نفوسهم أهلكوا أنفسهم بنفوسهم.

وقال بعضهم: على طمع أن يرى ثواب عمله، أو يجازى على قدر أعماله، منهم

يرى فضله وأفعاله.

وقال بعضهم: المغرور من غرته رؤية فعله فظن أنه يصل بعمل إلى ربه، ولا يرى

فضل اللّه عليه إن وفقه لخدمته، أو يسر عليه سبيل طاعته، فعبد اللّه على طمع الثواب

طالبا منه ثواب أعماله.

قوله تعالى: { خسر الدنيا والآخرة } الآية: ١١

قال بعضهم: الخسران في الدنيا ترك الطاعات، ولزوم المخالفات، والخسران في

الآخرة: كثرة الخصوم والتبعات.

قال بعضهم: خسران الدنيا تضييع الأوقات، وخسران الآخرة بالسكون إلى الجنان،

والاشتغال بها.

١٢

قوله تعالى: { يدعوا من دون اللّه ما لا يضره وما لا ينفعه } الآية: ١٢

قال ابن عطاء: من ركن إلى شيء سوى الحق فقد ركن إلى ما يضره ولا ينفعه،

ومن اعتمد على اللّه فقد اعتمد على الضار النافع الذي منه الكل.

١٨

قوله تعالى: { ومن يهن اللّه فما له من مكرم } الآية: ١٨

قال السياري: من قدر اللّه عليه الإهانة في السبق لا يقدر أحد على كرامته؛ لأن

لباس الحق لا يزول ولا يحول، وهو على الدوام.

قوله تعالى: { إن اللّه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات } الآية: ٢٣

قال: هم الذين صدقوا اللّه في السر واتبعوا سنة محمد صلى اللّه عليه وسلم ولم يبتدعوا

بحال.

٢٤

قوله تعالى: { وهدوا إلى الطيب من القول } الآية: ٢٤

قال ابن عطاء: الطيب من القول: هو النصيحة للمسلمين.

وقال بعضهم: الطيب من القول: قراءة القرآن.

٢٥

قوله تعالى: { سواء العاكف فيه والباد } الآية: ٢٥

قال محمد بن علي الترمذي: الفتوة أن يستوي عندك الطارئ والمقيم، وكذا تكون

بيوت الفتيان من نزل فيه فقد تحرم بأعظم حرمة، وأجل ذريعة، ألا ترى اللّه جل وعز

كيف وصف بيته فقال: { سواء العاكف فيه والباد }.

٢٦

قوله تعالى ذكره: { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا } الآية: ٢٦

قال ابن عطاء: وفقناه لبناء البيت، وأعناه عليه وجعلناه منسكا له ولمن بعده من

الأولياء والصديقين إلى يوم القيامة وبينا فيه آثاره، وأمرنا الخليل عند بنائه أن لا يرى

فعله ولا بناء، ولا يشرك بنا في ذلك شيئا.

قال بعضهم: قوله عز وجل: { وطهر بيتي }: وهو قلبك ((للطائفين فيه)) وهو

زوائد التوفيق، ((والقائمين)) وهو أنوار الإيمان، ((والركع السجود)): الخوف والرجاء.

فإن القلب إذا لم يسكن بالمعرفة خرب.

وإذا سكنه غير مالكه أو من يسكنه مالكه

خرب.

وطهارة القلب يكون بالاتفاق عن الاختلاف، وبالطاعة عن المعصية، وبالإقبال

عن الإدبار، وبالنصيحة عن الغش، وبالأمانة عن الخيانة، فإذا طهر من هذه الأشياء

قذف اللّه فيه النور فينشرح وينفسح فيكون محلا للمحبة والمعرفة، والشوق والوصلة.

سمعت منصور بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا القاسم يقول: سمعت أبا جعفر الملطي

يقول: عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد عليهم السلام في قوله

{ طهر بيتي للطائفين } قال: طهر نفسك من مخالطة المخالفين والاختلاط بغير الحق،

والقائمين هم قواد العارفين المقيمون معه على بساط الأنس والخدمة، { والركع السجود}: الأمة والسادة الذين رجعوا إلى البداية عن تناهي النهاية.

٢٧

قوله تعالى: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } الآية: ٢٧

قال ابن عطاء: رجالا استخلصناهم للوفود علينا فليس يصلح لكل أحد أن يكون

وفدا إلى سيده والذي يصلح للوفادة فهو اللبيب في أفعاله، والكيس في أقواله،

والعارف بما يبديه، وما يرد، وما يصدر.

سمعت محمد بن عبد اللّه بن شاذان يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: قال

ذو النون رحمة اللّه عليه وعليهم أجمعين: فأما الحج فزيارة بيت اللّه فريضة على كل مسلم في دهره مرة واحدة من استطاع إليه سبيلا. وفي الحج مشاهدة أحوال الآخرة.

((ومنافع كثيرة)) في زيادة اليقين في مشاهدتها ووجود الروح والراحة والاشتياق إلى

اللّه، ولزوم المحبة للقلب والطمأنينة إلى اللّه، والاعتبار بالمناسك، والوقوف على معانيها

وحقائقها، وذلك أن أول حال من أحوال الحج العزم عليه، ومثل ذلك كمثل الإنسان

الموقن بالموت والقدوم على اللّه فيكتب وصيته، ويوصي ويتحرى فيه لطاعة اللّه عز

وجل ومرضاته، ويخرج من مظالم عباده ما أمكنه، ويخرج خروج الميت من دار الدنيا

إلى دار الآخرة لا يطمع في العود إليها أبدا فيركب راحلته، وخير الرواحل التوكل

ويحمل زاده وخير الزاد التقوى ويكون في سيره كأنه محمول إلى قبره فإذا دخل

السارية كأنه أدخل قبره، وعديله عدله في نفسه، وإخوانه من المسلمين ومن ولاه اللّه

أمرهم واسترعاه حقهم كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ((كلكم راع وكلكم مسؤول

عن رعيته)).

وأنيسه العمل الصالح والذكر، فإذا بلغ موضع الإحرام فكأنه ميت ينشر من قبره،

ونودي لوقوفه بين يدي اللّه ربه وذلك قوله تعالى: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا)

* إلى قوله: { ليشهدوا منافع لهم } والتلبية إجابة النداء بقوله: ((لبيك اللّهم

لبيك لبيك لا شريك لك في وحدانيتك، وإلهيتك، وربوبيتك. لبيك إن الحمد والنعمة

لك فيما أنهضتنا لزيارتك، وأخرجتنا إلى بيتك، وأهلتنا لذلك، والملك لا شريك لك

فيه لا يعتمد في ملكك على أحد سواك. والاغتسال للإحرام كغسل الميت، ولبس ثياب

الإحرام كالكفن فإذا وقف في الموقف أشعث أغبر كأنه أخرج من قبره والتراب على

رأسه، ودفعه بدفع الإمام، وسيره بسيره كشفاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى ربه والخلق

معه

يستشفعون به فيشفع ويشفع، ويسيرون بسيره.

وينصرفون بانصرافه، والمزدلفة كالجواز

على الصراط.

ورمي الجمار كرفع البراة فمن قبل منه فاز ونجا ومن لم يقبل منه ورد

عليه هلك. والصفا والمروة ككفتي الميزان.

الصفا: الحسنات، والمروة: السيئات.

فهو يعدو مرة إلى هذه الكفة، ومرة إلى هذه الكفة ينتظر ما يكون من رجحان أحد الشقتين. ومنسكا: الأعراف بين الجنة والنار. والمسجد الحرام: كالجنة التي من دخلها

أمن من بوائق الآفات. والبيت كعرش اللّه، والطواف به كطواف الملائكة بالعرش،

وحلق الرأس اشتهار بالعمل، كل امرئ يكشف رأسه بعمل، فالمؤمن يباهي به، والمنافق يفتضح به، ونعوذ باللّه من ذلك.

وسئل بعضهم ماذا أسأل في الحج وفي الموقف؟ قال: سله قطع نفسك عنه بترك كل ما يقطعك عن القربة، واستعمال كل ما يوجب الزلفة وأنشدت في معناه:

* لست من جملة المحبين

* إن لم أجعل بيته المقاما

*

* وطوافي إحالة السر فيه

* وهو ركني إذا أردت استلاما

*

ثم قال: اجعل البيت قلبك، واجعل مكة طرفا لقلبك، واجعل طوافك حوله طوافا من سرك تجد اللّه كوجود البيت إن كنت هكذا وإلا فأنت ميت.

قال: وجاء رجل إلى الجنيد رحمة اللّه عليه يستأذنه في الحج على التجريد فقال:

جرد قلبك من السهو، ونفسك من اللّهو، ولسانك من اللغو، ثم اسلك حيث شئت.

٢٨

قوله تعالى ذكره: { ليشهدوا منافع لهم } الآية: ٢٨

قال ابن عطاء: ما وعدوا من أنفسهم لربهم وما وعده اللّه لهم من القربة والزلفة.

وقال جعفر: هو ما يشاهدونه في ذلك المشهد من بر الحق بأن وفقهم لشهود ذلك

المشهد العظيم، ثم منافعهم ما وعد لهم عليه من الزيادات، والبركات، والإجابات،

واللّه على كل شيء قدير.

- وقيل كان أبو سعيد النيسابوري يحج من نيسابور ويحرم منها ويصلي عند كل ميل

في البادية ركعتين فقيل له في ذلك فقال: إن اللّه جل جلاله يقول { ليشهدوا منافع لهم } وهذا منافعي في حجتي.

قوله تعالى: { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } الآية: ٢٨

قال أبو عثمان رحمة اللّه عليه: أدب أدب اللّه به عباده أن لا يطعموا الفقراء إلا مما يأكلون، ولا يجعلوا للّه ما يكرهون وهو أن يشاركهم في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم

بقوله: { كلوا منها وأطعموا }.

وقال ابن عطاء البائس: الذي تأنف من مجالسته ومواكلته، والفقير من تعلم حاجته إلى طعامك وإن لم يسأل.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه في قوله: { ذلك ومن يعظم حرمات اللّه فهو خير له عند ربه } قال: أن لا تلابس محرما ولا تخالف أمره ونهيه.

وقال أيضا: من تعظيم حرمته أن لا يلاحظ شيئا من كونه، ولا طوارق محنته، وأن

لا تلاحظ خليلا ولا كليما ولا حبيبا ما دام يجد إلى ملاحظة الحق سبيلا.

قال فارس: حرمات اللّه: صفاته. فمن تهاون بحرمات الأمر والنهى فقد تهاون بالذات، وهو نفس النفاق.

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: الحرمة على ثلاثة أوجه:

القطع عن المخالفة، ثم القطع عن الموافقة، ثم القطع عن لذة المشاهدة.

قال بعضهم في قوله: { ذلك ومن يعظم حرمات اللّه } قال: لا يعظم حرمات اللّه إلا

من حرمه اللّه، ولا يعظم اللّه إلا من عرفه، ومن عرفه خضع له، وخشع من

خضوعه، وخشوعه المتولد من تعظيمه لربه تعظيم حرمات المؤمنين.

قال: من يعظم حرمات اللّه فهو خير له عند ربه، ومن جهل قدره أعجب بنفسه وعلمه، وتعظم وتكبر في نفسه، واحتقر رأيه عبر به، وذلك من جهله بنفسه. وجهله بنفسه تعظيم قدرته في قدرته وإنعامه وتفضله.

٣٢

قوله تعالى: { ذلك ومن يعظم شعائر اللّه فإنها من تقوى القلوب } الآية: ٣٢

قال سهل رحمة اللّه عليه: تقوى القلوب هو ترك الذنوب، وكل شيء يقع عليه اسم الذنب.

وقال جعفر: تقوى القلوب ما يرد الجوارح عن المخالفات.

وقال الحريري: تقوى النفوس ظاهر، وتقوى القلوب باطن.

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: من تعظيم شعائر اللّه إظهار التوكل والتفويض واليقين والتسليم فإنها من شعائر الحق في أسرار أوليائه فإذا عظمه وعظم حرمته زين اللّه ظاهره بفنون الآداب.

٣٤

قوله تعالى: { وبشر المخبتين } الآية: ٣٤

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: المخبت الذي امتلأ قلبه من المحبة، وقصر طرفه عما

دونه، كما أن الغريق شغله نفسه عن كل شيء سوى نفسه. كذلك المخبت شغله مولاه عن كل ما سواه.

سمعت منصور بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندراني يقول: سمعت

أبا جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه جعفر بن محمد رضي اللّه عنهم في

قوله: { وبشر المخبتين } قال: من أطاعني ثم خافني في طاعتي وتواضع لأجلي بشر

من اضطرب قلبه شوقا إلى لقائي، وبشر من ذكرني بالنزول في جواري، وبشر من

دمعت عيناه خوفا لهجري بشرهم ' أن رحمتي سبقت غضبي '.

وقال أيضا: بشر أمتك بالشفاعة.

وقال أيضا: بشر المشتاقين إلى بالنظر إلى وجهي.

وقال أيضا: المخبتين في التواضع كالأرض تحمل كل قدر، وتواري كل نجس وخبث.

٣٥

قوله تعالى ذكره: { الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } الآية: ٣٥

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: هل رأيت ذلك الوجل عند سماع ذكره، وعند سماع كتابه أو خطابه؟

أو هل أخرسك الذكر حتى لم ينطق إلا به؟ وأصمك حتى لا تسمع إلا منه هيهات.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: الوجل على مقدار المطالعة وبما يريه مواضع السطوة،

وربما يراه مواضع المودة والمحبة.

قوله تعالى وتقدس: { والصابرين على ما أصابهم } الآية: ٣٥

قال أبو علي الجوزجاني: التاركين الجزع عند حلول النوائب والمصائب.

سئل بعضهم ما الإشارة في شعث المحرم؟ قال: ترك التصنع لها ليشهد الحق منك الإعراض عن العناية بنفسك فيشهد صدقك في بذلها لمجاهدته.

٣٦

قوله عز ذكره: { والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه } الآية: ٣٦

قال أبو بكر الوراق: الحكمة في البدن وما ذكر اللّه من شعائره فيه وحصول

الخيرية، هو تطهير بدنك من جميع البدع والمخالفات، وقتلها بسيوف الخوف والخشية،

وأن تجعل التقوى شعارها، والرضا دثارها فإذا فعلت ذلك كان لك فيه أوائل الخيرات

وهو أن يفتح لك السبيل إلى اللّه وإلى الخيرات، وينور قلبك بنور اليقين ويطهر سرك عن طلب كل شيء سوى اللّه.

٣٧

قوله تعالى: { لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } الآية: ٣٧

قال النصرآباذى: منال الحق قال اللّه: { لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم }.

وقال سهل رحمة اللّه عليه: ذلك هو التبري والإخلاص

قوله تعالى: { وبشر المحسنين } الآية: ٣٧

قال الأنطاكي: للمحسن علامات،

أولها: أن لا يظلم وإن ظلم لا ينتصر ولا

يغضب، وإن غضب لا يأثم قد أتعب نفسه فالناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل،

ويكون قلبه وجلا عند الذكر، وصابرا على ما يصيبه من الشدائد. قال اللّه: { وبشر المحسنين }.

٣٨

قوله تعالى: { إن اللّه يدافع عن الذين آمنوا } الآية: ٣٨

قال ابن عطاء: يدفع بالكفار عن المؤمنين، وبالعصاة عن المطيعين، وبالجهال عن العلماء.

وقال بعضهم: يدفع عن المحقين رعونات الدعاوى قال بعضهم: يدفع عن المؤمنين هواجس أنفسهم ووسواس الشيطان.

٤٥

قوله تعالى: { وبئر معطلة وقصر مشيد } الآية: ٤٥

قال الواسطي: إن الربوبية إذا تجلت على السرائر محقت آثارها، ومحت رسومها

وتركتها خرابا. قال اللّه تعالى: { وبئر معطلة وقصر مشيد } فالقصر المشيد هو الإنسان،

والبئر المعطلة هي السرائر المأخوذة إلى الحق التي تركت الاعتراض على اللّه وضمت

جوارحها كلها فيما يرد عليه من الحق فلذلك فضل قوله.

٤٦

وقال سهل: يدفع عنهم بنور السنة ظلمات البدعة قوله تعالى: { فإنها لا تعمى الأبصار } الآية: ٤٦

قال سهل: اليسير من نور القلب يغلب الهوى والشهوة، فإذا عمى بصر القلب عما

فيه غلبت الشهوة، وتوارت الغفلة فعند ذلك يصير البدن مسخطا في المعاصي غير منقاد للحق بحال.

٥٢

قوله عز وعلا: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } الآية: ٥٢

قال سهل: من قرأه وهو يلاحظ الحق فإنه يكون بريئا مصونا من إلقاء الشيطان،

ومن قرأه وهو يلاحظ نفسه أو يشاهد الخلق فإن ذلك محل إلقاء الشيطان.

٥٤

قوله عز وعلا: { فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم } الآية: ٥٤

قال سهل رحمة اللّه عليه: صدق الإيمان وحقيقته يورث الإخبات في القلب،

والخشوع في البدن، وكثرة التفكر وطول الصمت، وهذا من نتائج الإيمان فإن اللّه يقول: { فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم }.

٥٦

قوله تعالى: { الملك يومئذ للّه يحكم بينهم } الآية: ٥٦

قال ابن عطاء: الملك للّه على دوام الأحوال، وبجميع الأوقات ولكن للعوام الملك يومئذ لآية القهارية والجبارية فلا يقدر أن يجحد ما عاين

٥٨

قوله تعالى: { ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا } الآية: ٥٨

قال أبو عثمان: هو القناعة بما أعطى

وقال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: ثقة باللّه، وتوكلا عليه، وانقطاعا عن الخلق.

قال بعضهم: { ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا } قال أبو عثمان: قال: هو أن تملكه نفسه

فلا تغلب عليه نفسه، وتكون تحت قهره.

وقال بعضهم في قوله: { ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا }

قال: تصحيح العبودية على المشاهدة، وملازمة الخدمة على السنة.

قال الجريري في قوله: { ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا }

قال: هو تصحيح التوحيد بالفردانية، ومعانقة التجريد بالسمع والطاعة.

٦٢

قوله تعالى: { ذلك بأن اللّه هو الحق } الآية: ٦٢

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: هو الحق فحقق حقيقته في سرك، ولا ترجع منه إلى غيره فما سواه باطل.

٦٣

قوله عز ذكره: { ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } الآية: ٦٣

قال بعضهم: أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة ففتح إلى قلوب أوليائه وعباده عيونا من ماء الرحمة فأنبت المعرفة فاخضرت القلوب بزينة المعرفة وأثمرت الإيمان،

وأينعت التوحيد، وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيدها، واشتاقت إلى ربها فطارت بهمتها

فأناخت بين يديه، وعطفت عليه، وأقبلت إليه، وانقطعت عن الأكوان أجمع إذ ذاك آواها الحق إليه، وفتح لها خزائن أنواره، وأطلق لها القترة في بساتين الحق ورياض الشوق والأنس.

٦٦

قوله تعالى: { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } الآية: ٦٦

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: أحياكم بمعرفته، ثم يميتكم أوقات الغفلة والقترة، ثم

يحييكم بالجذب بعد الفترة ثم يقطعكم عن الجملة، ويوصلكم إليه حقيقة، إن الإنسان لكفور يعد ما له وينسى ما عليه.

٧٢

قوله تعالى: { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } الآية: ٧٢

- قال أبو بكر بن طاهرك تتبين في شواهد المعرضين عنا آثار الوحشة والظلمة

المخالفة؛ لأن ظواهره إنما أشرقت بالسرائر، والسرائر أشرقت بأنوار الحق فمن كان سره

في ظلمة والإنكار كيف تلوح آثار الأنوار على شاهده؟ وكل شاهد شاهد الأكوان والأعواض فهو في ظلمة حتى يشاهد الحق ولا يشاهد معه غيره، إذ ذاك تلوح عليه

أنوار مشاهدة الحق قال اللّه تعالى: { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر }.

٧٣

 قال عز وعلا: { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه } الآية: ٧٣

سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء رحمة اللّه عليه وعليهم

في قوله: { وإن يسلبهم الذباب } قال: دلهم بهذا على مقاديرهم فمن كان أشد هيبة وأعظم ملكا لا يملكه الاحتراز من أهوال الخلق وأضعفه ليعلم بذلك ضعفه، وعجزه،

وعبوديته، وذلته لئلا يفتخر على أبناء جنسه من بني آدم بما يملكه من الدنيا.

قوله تعالى: { ضعف الطالب والمطلوب } الآية: ٧٣

سمعت منصور بن عبد اللّه يقول سمعت أبا بكر بن طاهر يقول في هذه الآية

{ ضعف الطالب } أن يدركه، والمطلوب أن يفوته.

٧٤

قوله عز وعلا: { وما قدروا اللّه حق قدره } الآية: ٧٤

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر أحد قدره،

وقد عجز من معرفة قدر الوسائط والرسل والأولياء والصديقين، ومعرفة قدره. أن لا

يلتفت منه إلى غيره ولا يغفل عن ذكره، ولا يفتر عن طاعته إذ ذاك عرفت ظاهر قدره،

وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو.

٧٧

قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم } الآية: ٧٧

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: اخضعوا وانقادوا لأوامره، وسلموا لقضائه وقدره،

تكونوا من خالص عباده، وافعلوا الخير ابتغاء الوسيلة لعلكم تفلحون تجدون الطريق

إليه.

وقال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: واعبدوا ربكم في أداء الفرائض، واجتناب المحارم.

وقال فارس: احتملوا البلايا في الدين والدنيا بعد أن جعلكم اللّه من أهل خدمته،

ورزقكم حلاوة مذاق صفوته.

قوله تعالى وتقدس: { وجاهدوا في اللّه حق جهاده } الآية: ٧٧

قال بعضهم: المجاهدة على ضروب: مجاهدة مع أعداء اللّه، ومجاهدة مع

الشيطان، وأشد المجاهدة مع النفس والهوى وهو الجهاد في اللّه. كما روى عن النبي

صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ' رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ' وهو مجاهدة

النفس

وحملها على اتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.

٧٨

قوله عز وعلا: { هو اجتباكم وما جعل عليكم } الآية: ٧٨

قال ابن عطاء: الاجتبائية أورثت المجاهدة، لا المجاهدة أورثت الاجتبائية.

قوله تعالى وتقدس: { ملة أبيكم إبراهيم }.

قال ابن عطاء: ملة إبراهيم هو السخاء والبذل، والأخلاق السنية، والخروج من

النفس، والأهل، والمال، والولد أمر اللّه العوام أن يتبعوا ملة إبراهيم في الشريعة،

وأمر الخواص أن يتبعوا ملته في بذل المال والنفس والولد لمولاه، وتوافقونه موافقة

الحنين في كل الأوقات.

قوله تعالى: { هو سماكم المسلمين من قبل } الآية: ٧٨

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: زينكم بزينة الخواص قبل أن أوجدكم، لأنكم في

القدرة عند الإيجاد كما كنتم قبل الإيجاد، سبقت لكم من اللّه الخصوصية في أزله.

قوله تعالى ذكره: { واعتصموا باللّه هو مولاكم } الآية: ٧٨

قال النوري: الاعتصام باللّه هو خلو القلب والسر عما يشغل عنه، والاشتغال

بموافقته، والإقبال عليه. قال اللّه: { واعتصموا باللّه هو مولاكم } أي هو الذي يغنيكم

به إن أقبلتم على الاعتصام.

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: الاعتصام هو العجز، والثقة بالقوى، والرجوع إليه،

والالتجاء به، { فنعم المولى ونعم النصير }.

قال جعفر: نعم المعين لمن استعان به، ونعم النصير لمن استنصره.

وقال بعضهم: المستعين به من يكون خالصا له، ومفوضا إليه، ومتوكلا عليه. واللّه

ذكر ما قيل في سورة المؤمنون

﴿ ٠