سورة فاطر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله عز وجل: { الحمد للّه فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا } الآية: ١

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: الذي جعل ما أنعم على عباده من أنواع نعمه دليلا

هاديا إلى معرفته فقال: { فاطر السماوات والأرض } لتستدل بأن من فطرهما هو فاطر

ما فيهما فتسغني بعلمك بفطرته الأشياء اجمع عن الرجوع إلى غيره في سبب من الأسباب.

قوله تعالى: { يزيد في الخلق ما يشاء } الآية: ١

قال ابن عطاء: حسن المعرفة باللّه وحسن الاقبال عليه وحسن المراقبة له والمشاهدة

إياه. فقال جعفر: صحة النحيرة، وقوة البصيرة.

قال أبو عثمان: الفهم عن اللّه والإقبال عليه.

قال بعضهم: { يزيد في الخلق ما يشاء } محبة في قلوب المؤمنين، وقيل: { يزيد في الخلق ما يشاء } التواضع في الاعتراف والسخاء في الأغنياء والتعفف في الفقراء

والصدق في المؤمنين والشوق في المحبين والوله في المشتاقين والمعرفة في الوالهين

والفناء في العارفين.

٢

قوله تعالى: { ما يفتح اللّه للناس من رحمة } الآية: ٢

قال أبو عثمان: ما يفتح اللّه لقلوب أولياءه من القربى والإحسان والأنس لو اجتمع

الخلق كلهم على أن يمسكوه عن ذلك لعجزوا عنه وما امسكوا، ومن أغلق اللّه قلوبهم

عن الإنابة إليه والقرب منه فلو اجتمع الناس على أن يفتحوه ما قدروا على ذلك

وعجزوا عنه.

٣

قوله تعالى: { هل من خالق غير اللّه } الآية: ٣

قال ابن عطاء رحمة اللّه عليه: من علم أنه لا رازق للعباد غيره ثم يتعلق قلبه

بالأسباب فهو من المبعدين عن طريق الحقائق.

قال القاسم: يرزقكم من السماء الهداية، ومن الأرض أسباب الغذاء والحفظ

والبقاء.

٦

قوله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } الآية: ٦

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: { فاتخذوه عدوا } بما نصركم عليه واحذروا أن

يغلبكم فإنه إنما يدعو حزبه، وحزبه هم الراكنون إلى الدنيا والمحبون لها والمفتخرون بها.

وقالت رابعة رحمة اللّه عليها: أرجى آية في كتاب اللّه عندي { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } قال. كأنه يخاطبنا فيقول: أنا حبيبكم فاتخذوني حبيبا.

قوله عز وعلا: { نما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } الآية: ٦

قال سهل رحمة اللّه عليه: حزبه أهل البدع والضلالات والأهواء الفاسدة والسامعين

ذلك عن قائلها.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: حذرهم حزبه ومتابعته وأمر بطرده بضياء المبادرة في

العهود، وحفظ الحدود، ورعاية الود، يطرد الوسواس كما أن ضياء النهار يطرد الكلاب

من المجالس. وأنشد:

* ومن رعى غنما في أرض مسبعة

* ونام عنها تولى رعيها الأسد

*

١٠

قوله تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } الآية: ١٠

قال سهل رحمه اللّه: العمل ظاهر الدعاء والصدقة، وباطنه عمل بالعلم والاقتداء

بالسنة يرفعه أو يوصله للإخلاص.

وقال ابن طاهر بن أبي بكر: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح } يرفع

الكلام الطيب.

١٥

قوله تعالى: { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى اللّه } الآية: ١٥

قال سهل: لما خلق اللّه تعالى الخلق حكم لنفسه بالغناء ولهم بالفقر فمن ادعى الغناء

حجب عن اللّه، ومن اظهر فقره إلى اللّه أوصل فقره بغنائه ويصح إظهار الفقر في

ثلاثة، فقرهم القديم، وفقرهم في حالهم، وفقرهم في موت أنفسهم من تدبيرهم،

ومن لم يكن كذا فهو مدع في فقره.

قال يحيى بن معاذ: الفقر خير للعبد من الغنى لأن المذلة في الفقر والكبر مع الغنى،

والرجوع إلى اللّه بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: من استغنى باللّه لا يفتقر، ومن تعزز باللّه لا يذل.

قال الحسين: على مقدار افتقار العبد إلى اللّه يكون غناه باللّه في كل شيء والفقر

إليه في كل شيء والرجوع إليه في كل شيء.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: افقر الفقراء من ستر الحق حقيقة حقه والغنى من

كاشف الحق حقيقة حقه له.

قال سهل رحمة اللّه عليه: أنتم الفقراء إليه في كل نفس، ينبغي للعبد أن يكون

مفتقرا إليه بالسر ومنقطعا إليه من غيره حتى تكون عبوديته محضة، والعبودية هي الفقر

والذل والخضوع.

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: قد عجزت عن علم العبودية كيف تدرك علم الربوبية،

والربوبية: العلم والقدرة والقهر، والمشيئة، والعبودية العجز والفاقة والضعف والضرورة

ولا يستطيع أن يدفع الضرورة من ضعفه ومن عجزه، ولا يقدر على دفع فاقته.

قال ذو النون رحمة اللّه عليه: الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة.

سمعت يوسف بن إسماعيل يقول: سمعت أبا بكر بن إسحاق يقول: سمعت الجنيد

رحمة اللّه عليه يقول: رأيت محمد بن عبد الوهاب فقال لي: يا أبا القاسم أيش أنت

فقلت أنا الفقير فقال الفقر سر اللّه لا يودعه من يظهره قلت: وكيف ذا يا سيدي؟ قال:

لأن اللّه تعالى كفى أولياءه وأغناهم به.

وقال الجوزجاني: الفقر والفاقة دار العصمة وبابها معرفة المنة.

وقال الشبلي: الفقر بحر البلاء وبلاؤه كله عز. وقال الجنيد رحمة اللّه عليه: خلق

الخلق وأفقره إليه بغناه عنهم فقال: { أنتم الفقراء إلى اللّه } ثم قال: { واللّه هو الغني الحميد } دليل على أن فقر كل شيء إليه فإنه غنى عن الأشياء اجمع.

سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت القناد يقول: سمعت الجنيد رحمة اللّه

عليهم يقول: وقد سئل عن الافتقار إلى اللّه أتم أم الاستغناء به؟ فقال: إذا صح

الافتقار إلى اللّه كمل الغنى باللّه، ولا يقال أيهما أتم لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا

بالآخر فمن صح له الافتقار إليه صح له الغنى به.

وسمعت منصور بن عبد اللّه يقول: سمعت الجرير يقول: سمعت الجنيد رحمة اللّه

عليه وعليهم يقول في قوله: { أنتم الفقراء إلى اللّه } فقال: الفقر يليق بالعبودية والغنى

يليق بالعبودية.

وقال سعد: الفقير الصادق لا يسأل ولا يدخر ولا يحبس.

سئل الخواص ما علامة الفقر الصادق؟ قال: ترك الشكوى وأخفاء اثر البلوي.

وسئل رويم عن الفقر؟ فقال: عدم كل موجود ويكون في الأشياء دخوله لغيره لا له.

سمعت أبا الفرج يقول: سمعت إبراهيم بن أحمد السياجي يقول: سمعت محمد بن

الحسين الخطيب يقول: سمعت العباس بن عبد العظيم يقول: سمعت بشر بن الحارث

يقول: الفقر مخزون مكنون للمؤمن مثل الشهادة لا ينالها إلا من أحبه اللّه من عباده.

قال أبو سعيد الخراز: حقيقة الفقر اخذ شيء منه واختيار القليل على الكثير عند

الحاجة. وقيل: لإبراهيم بن أدهم رحمة اللّه عليه ما الذي ورثك الدخول في الفقر؟.

قال: الصبر عليه.

قال عمرو المكي: الفقر ظاهرة ظاهر البلوى وباطنه باطن النعمة وقد وقع عليه كريم

الوعد بالجزاء فوجب على العبد إظهار ما بطن من النعمة وإخفاء ما ظهر من البلوى.

٢٨

قوله تعالى: { إنما يخشى اللّه من عباده العلماء } الآية: ٢٨

قال ابن عطاء: الخشية أتم من الخوف لأنه صفة العلماء والأولياء.

قال جعفر: خشية العلماء من ترك الحرمة في العبادات وترك الحرمة في الاخبار عن

الحق وترك الحرمة في متابعة الرسول وترك الحرمة في خدمة الأولياء والصديقين.

قال النصرآباذي: خشية العلماء من الانبساط في الدعاء والسؤال.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه أرحم الناس العلماء لخشيتهم من اللّه وإشفاقهم بما

علمهم اللّه.

وقال الحارث: العلم يورث الخشية والزهد يورث الراحة، والمعرفة تورث الإنابة.

قال الواسطي رحمة اللّه عليه: أوائل الخشية العلم ثم الاجلال ثم التعظيم ثم

الهيبة، ثم الفناء، فإذا فنيت هربت حتى نسيت أفعالها.

٣٢

قوله تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه } الآية: ٣٢

قال الحسن البصري رحمة اللّه عليه: السابق من رجحت حسناته، والمقتصد من

استوت حسناته وسيئاته، والظالم الذي ترجح سيئاته.

وقال جعفر الصادق رحمة اللّه عليه: { فمنهم ظالم لنفسه } فرق المؤمنين ثلاث فرق

سماهم مؤمنين أولا، عبادنا: أضافهم إلى نفسه تفضلا منه وكرما ثم قال: { اصطفينا }

جعلهم كلهم أصفياء مع علمه بتفاوت معاملاتهم ثم جمعهم في آخر الآية بدخول الجنة

فقال: { جنات عدن يدخلونها } الآية: ٣٣ ، ثم بدأ بالظالمين إخبارا انه لا يتقرب إليه

إلا بصرف كرمه وان الظلم لا يؤثر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف

والرجاء. ثم ختم بالسابقين لأن لا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة لحرمة كلمة

الإخلاص.

قال الجنيد رحمة اللّه عليه: لما ذكر الميراث على أن الخلق فيه خاص وعام وأن

الميراث لمن هو أقرب وأصح نسبا فتصحيح النسبة هو الأصل. قال: الظالم الذي يحبه

لنفسه، والمقتصد الذي يحبه له والسابق اسقط عنه مراده لمراد الحق فيه فلا يرى لنفسه

طلبا ولا مرادا لغلبة سلطان الحق عليه.

سئل الثوري عن قوله: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } على ماذا

عطف بقوله ثم؟ قال: عطف على إرادة الأزل والأمر المقضي، قال: ثم أورثنا من

الخلق الذين سبقت لهم منا الإصطفائية في الأزل.

وقال عبد العزيز المكي: المغفرة للظالمين والرحمة على المقتصدين والقربى للسابقين.

وقال حارث المحاسبي: الظالم نظر من نفسه في دنياه وآخرته فيقول في دنياه وآخرته

نفسي نفسي والمقتصد نظر من نفسه إلى عقباه وهو في الآخرة ناظر إلى مولاه، والسابق

من نظر من اللّه إلى اللّه فلم ير غير اللّه في دنياه وعقباه.

وقال أبو الحسن الفارسي: سبحان من أثبت أسامي الظالمين في ديوان السابقين ثم

جمع بينهم في محل الإرث فقال: { جنات عدن يدخلونها } وإن اللّه اصطفى جملة

الموحدين من جملة الكافرين فكانوا عبادا مخصوصين فسوى بينهم أن لا يعتمد السابق

على سبقه ولا ييأس الظالم من ظلمه.

وقيل في قوله: { ثم أورثنا الكتاب.. } الآية، قال: فيه تعزية وتهنئة وما من تعزية

إلا وتحتها تهنئة ولا تهنئة إلا وتحتها تعزية فلما قال: { فمنهم ظالم لنفسه } كان ذلك

تهنئة له وتعزية للظالم، ثم ذكر السابق بالخيرات وفي ذلك تهنئة له وتعزية للمقتصد لأن

اللّه يقول: { والسابقون السابقون أولئك المقربون } والظالم لنفسه افتقر إلى حال

المقتصد والمقتصد لم يفتقر إلى حال الظالم لنفسه والمقتصد أفتقر إلى حال السابق

والسابق لم يفتقر إلى حال المقتصد لأن من نال أعلى المراتب فقد جاز ما دونه والمقتصد

قد جاز مرتبة الظالم لنفسه ونال ما هو أعلى منه والسابق قد جاز مرتبة المقتصد ونال

أعلى منها فلا يفتقر إلى ما هو دونها.

قال بعضهم: الظالم هو طالب الدنيا، والمقتصد طالب العقبى، والصادق طالب

المولى.

قال الحسين: الظالم الباقي مع حاله والمقتصد الفاني في حاله والسابق المستغرق في

فناء حاله.

قال بعضهم: الظالم محجوب بالغفلة والمقتصد واقف في طلب الثواب والسابق فإن

في رؤية الصفات.

قال النصرآباذي في قوله: { ثم أورثنا الكتاب } قال: لا ميراث إلا عن نسبة صحح

النسبة ثم ادعى الميراث.

وقال أيضا: ميراث الكتاب الذين فهموا عن اللّه كتابه وكل فهم على قدره والظالم

فهم منه محل المعرفة والثواب والعقاب والمقتصد فهم محل الجزاء والإعراض والجنان

والسابق استرقه التلذذ بالخطاب عن أن يرجع منه إلى شيء سواه.

قال بعضهم: الظالم نظر من النعمة إلى المنعم والمقتصد نظر من المنعم إلى النعمة،

والسابق نظر من المنعم إلى المنعم لم يكن منه فضلا أن يلاحظ شيئا سواه أو يشهد

غيره.

قال أبو يزيد - رحمة اللّه عليه -: في قوله { ثم أورثنا الكتاب } الآية. قال الظالم

مضروب بسوط مقتول بسيف الحرص مضطجع على باب الرجاء والمقتصد مضروب

بسوط الحسوة مقتول بسيف الندامة مضطجع على باب الكرامة والسابق مضروب بسوط

المحبة مقتول بسيف الشوق مضطجع على باب الهيبة.

قال بعضهم: الإسلام للظالمين والإيمان للمقتصدين والإحسان للسابقين.

وقال محمد بن علي الإيمان للظالمين والمعرفة للمقتصدين والحقيقة للسابقين.

وقال أبو يزيد رحمة اللّه عليه الظالم في ميدان العلم والمقتصد في ميدان المعرفة

والسابق في ميدان الوجد.

قال ابن عطاء: العبادة غاية الظلم لنفسه والعبودية غاية المقتصدين ونهايتهم والعبودية

تحقيق ومشاهدة للسابقين.

قال ابن عطاء - رحمة اللّه عليه -: الظالم معذور والمقتصد معاتب والسابق ناج

مقرب.

قال الجنيد - رحمة اللّه عليه -: الظالم مضروب بسوط الغفلة مقتول بسيف الأمل

مطروح على باب الرحمة والمشيئة، والمقتصد مضروب بسوط الندامة مقتول بسيف

الحسرة مطروح على باب الفقر والسابق مضروب بسوط المحبة مقتول بسيف الشوق

مطروح على باب المشاهدة والبشرى واللقاء.

قال ابن عطاء: قدم الظالم كي لا ييأس من فضله. وقال: السابق مقدم بسبقه لكن

اظهر لطفه وكرمه بتقديم الظالم ليعرفوا كرمه ويرجعوا إليه.

قال الجنيد - رحمة اللّه عليه -: الظالم لنفسه وهو على وجهين أحدهما يظلم نفسه

فيحرمها حظها من الدنيا وظالم لنفسه يحرمها حظها من الآخرة فالظالم لنفسه الذي

يحرمها حظها من الشهوات والإرادات من حظوظ الدنيا وظالم لنفسه بأن حرمها شهوة

الآخرة حتى لا يطلب الجنة والثواب لأجل نفسه فإن كليهما من حظوظ النفس بل طلب

ربه على غير حظ للنفس فيه فهذا الظالم على هذا المعنى مقدم على المقتصد والسابق

فإن المقتصد والسابق طالبان حظوظهما وواقعان مع أنفسهما ذا واقف مع نفسه وذا

واقف مع اقتصاده وهذا ظلم نفسه وأفناها ومنعها حظوظها فهو فان عن حظوظه فلذلك

يسبق السابقين.

قال ابن عطاء: يحتاج قائل كلمة التوحيد إلى ثلاثة أنوار: نور الهداية ونور الكفاية

ونور الرعاية والعناية فمن من اللّه عليه بأنوار الهداية فهو معصوم من الشرك والنفاق

ومن من عليه بأنوار الكفاية فهو معصوم من الكبائر والفواحش ومن من اللّه عليه بأنوار

الرعاية والعناية فهو محفوظ من الخطرات الفاسدة والحركات التي هي لأهل الغفلات

فالنور الأول للظالم والنور الثاني للمقتصد والنور الثالث للسابق.

سمعت النصرآباذي يقول: القرب من الدرجات العلى والمقامات الارفع بالإرث

والإرث بصحة النسب فمن صحح النسبة وجد الميراث ولا يأخذ ميراث الحق إلا من

نسبة الحق وإلى الحق دون الأنساب والوسايط، روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه

قال: ' يقول اللّه

عز وجل: اليوم ارفع نسبي واضع نسبكم، أين المتقون '.

قال الواسطي - رحمة اللّه عليه - { أورثنا الكتاب } أورثهم علما حين علمهم

بنفسه فقال: { الرحمن علم القرآن }.

قال القاسم في هذه الآية: ليس كل ما اصطفيناه لمعنى يتم له المعاني اجمع إلا أن

يتم له ذلك فيتم له الا تراه يقول: { فمنهم ظالم لنفسه * فهو من الاصطفائية على

الطرف.

قال أيضا: في هذه الآية { فمنهم ظالم لنفسه } قال المكلف لها ما لا تطيق من

الطاعة يعني ما فوق الطاعة من الطاعة.

وقال { المقتصد } المتوسط في الفعل { والسابق } هو الفاعل بلا احتباء ولا عدد

فالظالم ها هنا محمود وإن كان اللفظ فيه مذموما.

قال القاسم: في قوله { أورثنا الكتاب } أي ابقينا بركة الكتاب على أما أنزلناه عليهم

وهم المصطفون لم يحرم الظالم بركة الكتاب لظلمه ولا المقتصد ولا السابق كل نال منه

حظه فالمحروم من حرم حظه منه اجمع.

قال القاسم في قوله: { فمنهم ظالم لنفسه } قال: الناس على ثلاثة اثلاث في

الدنيا إما في الحسنات وإما في السيئات وإما في الشهوات وفي الآخرة إما في الدرجات

وإما في الدركات وإما في الحسبانات فمن كان في الدنيا في الحسنات فهو في الآخرة في

الدرجات ومن كان في الدنيا في السيئات فهو في الآخرة في الدركات ومن كان في

الدنيا في الشهوات فهو متحير في الحسبانات.

وقال يحيى بن معاذ { اصطفينا من عبادنا } قال: هم أمة محمد حين روى عنه أنه قال

: ' سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له '. صلى اللّه عليه وعلى آله

وأصحابه وسلم كثيرا.

وقال يحيى: اصطفاهم عن كدورتهم وأخلصهم لفهم القرآن والقيام بحدوده.

وأيضا: اصطفاهم بالمشاهدة والموافقة ولما أسر إليهم من مجالسته ومؤانسته.

قال الواسطي - رحمة اللّه عليه -: اخرجوا بالفضل وغذوا بالفضل ويريدون الفضل

بلا مواساة ولا مكافأة ولا عوض من ذلك.

قال قائل: من أهل الحقيقة انه من كرمه لا يقبل إلا كل معيب بحال وقيل: إنه لا

يقبل إلا كل مجيب يجيبه لخطابه وهداه لقرائه واشتملت عليه أنواره وظهرت عليه آثاره

فهو في آثاره يتردد ومن ذلك قوله: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا اصطفاهم

في أزليته وصفاهم عند خلقتهم.

وقال جعفر: النفس ظالمة والقلب مقتصد والروح سابق.

وقال أيضا: من نظر بنفسه إلى الدنيا فهو ظالم ومن نظر بقلبه إلى الآخرة فهو

مقتصد ومن نظر بروحه إلى الحق فهو سابق.

وقال محمد بن علي الترمذي: الاصطفائية أوجبت الإرث والاصطفائية جمعت بين

الظالم والمقتصد والسابق فالظالم لنفسه على الظاهر سابق في ميدان الاصطفائية لذلك

قدمه وأزال العلل عن العطايا فقال: { جنات عدن يدخلونها }.

وقال القاسم: الظالم ذاكر والمقتصد متذكر والسابق غير ذاكر ومتذكر لأنه ليس في

حد الغفلة والنسيان فيذكر ويتذكر ومعناه: أن الظالم ينساه وقت معصيته فيذكره في

وقت توبته والمقتصد يتكلف في ذكره ويجتهد في أن لا ينساه والسابق لا ينساه في وقت

فيحتاج أن يذكره. وأنشد القاسم:

* أبلغ أخاك أخا الإحسان مخبرة

* أنى وإن كنت لا ألقاه ألقاه

*

* وإن طرفي موصول برؤيته

* وإن تباعد عن مثواي مثواه

*

* اللّه يعلم اني لست اذكره

* وكيف اذكره إذ لست أنساه

*

وانشد أيضا:

* لا لأني أنساك أكثر ذكراك

* ولكن بذاك يجري لساني

*

قال بعضهم: الظالم يراه في مقدار الجمعة من أيام الدنيا والمقتصد يراه في اليوم مرة

والسابق على الأرائك ينظرون لا يغيبون عن المشاهدة بحال.

سمعت محمد بن عبد اللّه يقول: سمعت محمد بن زرعان يقول في قوله: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه } وهم الهمج الذين لا خير

فيهم { ومنهم مقتصد } يعمل على سبيل النجاة { ومنهم سابق بالخيرات } العالم

الرباني.

قال بعضهم: ذكر اللّه الاصطفائية في مواضع من كتابه فقال: { قل الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى } ولم يبين من هم وكيف هم ما حليتهم حتى ذكر في

موضع آخر فقال: { اللّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } عم الاصطفاء ثم

قال: { أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فأكرمهم بالاصطفائية ثم بين انهم

متفاوتون في تلك الاصطفائية فقال: هم عباد أصفياء إلا انهم على درجات منهم ظالم

بالركون إليها واتباع شهواتها ومنهم مقتصد قائم بطاعة ربه وربما يقع له التفات إلى

النفس فيغفل غفلة في شيء من المخالفات ومنهم سابق بالخيرات وهو الذي اسقط عنه

رؤية النفس اجمع فلا يراها ولا يلتفت إليها ولا يسكن إلى شيء منها.

وقال بعضهم: الظالم لاه عن سؤاله فإذا انتبه سأل عن طريقة الأمر والنهي والمقتصد

يسأل عن طريقة الجنة والسابق يسأل عن طريق الاستقامة.

قال بعضهم: الظالم مشغول عن الذكر والمقتصد مشغول بالذكر والسابق اشتغل

بالمذكور عن الذكر.

قال بعضهم: سؤال الظالم الهداية والوقاية من النار وسؤال المقتصد العناية في

دخول الجنة وسؤال السابق الهداية إلى الرب ليزول عنه الكرب.

وقال محمد بن علي الترمذي: لكل نوع من هؤلاء الثلاثة نوع من السؤال أخبر عنها

المصطفى صلى اللّه عليه وسلم. فسؤال الظالم: أسألك الإيمان بك والكفاف من الرزق،

وسؤال

المقتصد: أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها

من قول أو عمل، وسؤال السابق: أسألك النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك.

قال بعضهم: الظالم من يكون أعماله بعضها رياء وبعضها إخلاص والسابق من

يخلص عمله للّه.

قال بعضهم: الظالم من اخذ الدنيا من حلال وحرام والمقتصد من يجتهد أن لا

يأخذها إلا من حلال والسابق من ترك الدنيا جملة واعرض عنها.

قال أبو عثمان: من وحد اللّه بلسانه ولم يوافق فعله قوله فهو ظالم ومن وحد اللّه

بلسانه وأطاعه كرامة فهو مقتصد ومن وحده بلسانه واطاعه بجوارحه وأخلص له عمله

فهو سابق.

قال بعضهم: الظالمون هم الذين نزلوا عن الصحابة والمقتصدون هم عامة الصحابة

والسابقون هم المهاجرون الأولون.

سمعت محمد بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول: قال ابن

عطاء: الظالم هو الذي يحبه لأجل الدنيا والمقتصد الذي يحبه من اجل العقبى والسابق

الذي اسقط مراده لمراد الحق فيه فلا يرى لنفسه طلبا ولا مرادا لغلبة الحق عليه

وسلطانه.

قال بعضهم: الظالم هو الذي يريد بطاعته كرامة الخلق وإجلالهم له والمقتصد الذي

يريد بطاعته الجنة والسابق الذي حمله حب الأمر والنهي ورضا الأمر عن أن يريد به

شيئا سواه.

قال بعضهم: الظالم الناظر إلى صفته والمقتصد المبتغى به فضلا والسابق الذي يرى

فضل اللّه عليه فيما وفقه للعمل.

قال بعضهم: الظالم من هو ظاهره خير من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره

وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره.

وقال بعضهم: ميراث الكتاب لمن يظلم نفسه ويحملها ما لا تطيق من أنواع

المجاهدات فتكون أوقاته كلها مستوفاة لا يكون لنفسه نفس في مراده ويقتصد في طلب

الدنيا وما يبعده عن ربه ويقطعه عنه ويسبق السابقين في البدار إلى ميادين الرضا ومعادن

الحقيقة لذلك.

قال السيد الماضي: السباق السباق قولا وفعلا حذر النفس حسرة المسبوق.

قال بعضهم: الظالم الطالب للدنيا متمتعا بها، والمقتصد الطالب لها متزودا منها،

والسابق التارك لها والمعرض عنها.

قال بعضهم: الظالم الذي يعبده خوفا من النار والمقتصد الذي يعبده طمعا في الجنة

والسابق الذي يعبده له لا لسبب.

قال بعضهم: الظالم الزاهد والمقتصد العارف والسابق المحب المشتاق.

قال بعضهم: الظالم الواعظ بلسانه والمقتصد الواعظ بعمله والسابق الواعظ بسره.

قال بعضهم: الظالم المظهر لفقره والمقتصد المسر لفقره والسابق المستغني بفقره.

قال بعضهم: الظالم الذي يجزع عند البلاء والمقتصد الذي يصبر على البلاء والسابق

الذي يتلذذ بالبلاء.

قال بعضهم: الظالم من غلبت نفسه قلبه والمقتصد من غلب قلبه نفسه والسابق من

كان قلبه ونفسه في حراسة الحق.

قال بعضهم: الظالم في الطلب والمقتصد في الهرب والسابق متمكن.

قال بعضهم: الظالم طلب وهو يرجو أن يجد والمقتصد طلب ووجد البعض ويرجو

الإتمام والسابق مطلوب.

قال بعضهم: الزبير قاصد والمقتصد وارد والسابق ما مكن فالقاصد شغله في قصده

والوارد شغله فيما ورد عليه منه وفيما ورد عليه والمتمكن نسي منزله لما عاين من حسن

قيام اللّه به وله، وهؤلاء ثلاثة: قوم غابوا عن وصفهم وحظهم والأوقات وقوم جازوا

درجة النعوت والصفات وقوم اشتملت عليهم أنوار الذات فهم في أنواره يتقلبون وعن

حكمه ينطقون.

قال بعضهم: الظالم النفس لأنها لا تألف الحق أبدا والمقتصد القلب لأنه ساعة

وساعة والسابق الروح لأنها لا تغيب عن المشاهدة.

قال محمد بن علي الترمذي: الظالم نفسه إلى عفو اللّه والمقتصد إلى رضا اللّه

والسابق بالخيرات إلى رضوان اللّه ورضوان اللّه أكبر.

قال بعضهم: الظالم المقتصر على الفرائض دون النوافل والسنن والمقتصد الجامع

بينهما والسابق الذي مكن من معاملته على المشاهدة.

قال ابن عطاء: حمد الظالمين على العادة وحمد المقتصدين على اللذة وحمد السابقين

على المسابقة.

قال بعضهم: الظالم الراكن إلى الدنيا لا يريد الاستراحة منها ولا يكاد ينزع من

طلبها والمقتصد الراكن إليها ويتمنى نجاته منها والسابق الذي نبل قدره وكرمت نفسه أن

يحدث بشيء منها.

وقال بعضهم: الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة والمقتصد الذي يعبده على

الرغبة والرهبة والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق ورؤية المنة.

وقال بعضهم: الظالم الذي يأكل الدنيا بالتمتع والشهوة والمقتصد الذي يأكلها من

حلال والسابق الذي يأكل للقيام بالخدمة.

وقال بعضهم: الظالم المجتهد والمقتصد المستقيم والسابق الصديق.

قال بعضهم: الظالم العالم بأحكام اللّه والمقتصد العالم بأسماء اللّه وصفاته والسابق

العالم باللّه وأسمائه وصفاته واحكامه.

قال بعضهم: الظالم لنفسه آدم والمقتصد إبراهيم والسابق محمد صلى اللّه عليه وسلم.

قال بعضهم: الظالم نفسه أغطى فبذل والسابق منع فشكر.

وقال بعضهم: الظالم غافل والمقتصد طالب والسابق واجد.

قال بعضهم: الظالم من استغنى بماله والمقتصد من استغنى بدينه والسابق من استغنى

بربه. وقال: قدم الظالم لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلا ربه فاعتمده واتكل عليه

وعلى رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته.

قال بعضهم: قدم الظالم يعرفه أن ذنبه لا يبعده من ربه واخر السابق ليعلمه أن المنة

له عليه في طاعته حيث وفقه لذلك وان لا يؤمنه ذلك من طرده وإبعاده وذكر المقتصد

في الوسط منزلة بين المنزلتين.

سمعت منصور بن عبد اللّه يقول: السابق العلماء والمقتصد المتعلمون والظالم الجهال.

وقال أيضا: السابق الذي اشتغل بمعاده والمقتصد الذي اشتغل بمعاده ومعاشه والظالم

الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.

وقال ابن عطاء - رحمة اللّه عليه -: الظالم النفس والمقتصد القلب والسابق الروح.

٣٤

قوله تعالى: { الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن } الآية: ٣٤

سمعت النصرآباذي يقول: ما كان حزنهم إلا تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم فلما

نجوا منها حمدوا وقال: { الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن }.

قال أبو سعيد الخراز: أهل المعرفة في الدنيا كأهل الجنة في الآخرة، قال اللّه تعالى

عن أهل الجنة: { الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن } وإنما احزانهم الاشتغال بالإعراض

فتركوا الدنيا في الدنيا فنعموا وعاشوا في الدنيا عيش الخائفين.

قال القاسم في هذه الآية قال: زوال النقم وتقليب القلب وسلامة العاقبة.

وقال بعضهم: حزن المحاسبة.

قوله تعالى: { إن ربنا لغفور شكور } الآية: ٣٤

قال الواسطي - رحمة اللّه عليه -: شكر اللّه للعبد رضاه بما اجرى عليه وشكر

العبودية أن يرى النعمة من اللّه ابتداء وانتهاء.

قال سهل - رحمة اللّه عليه -: غفور لذنوب كثيرة شكور لأعمال يسيرة.

وروى عن بعض أهل الورع انه كان متعلقا بأستار الكعبة ويقول: من مثلي إلهي أن

أذنبت مناني وإن تبت رجاني وإن أقبلت ادناني وإن أدبرت ناداني إن ربنا لغفور شكور

غفور للذنب العظيم شكور للعمل اليسير.

٣٥

قوله عز وعلا { الذي أحلنا دار المقامة } الآية: ٣٥

سمعت محمد بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا بكر التميمي يقول: إن كانت أعمالك مكتسبة فبفضل اللّه عملت والفضل غير مكتسب ولو كان مكتسبا لم يسم فضلا الا ترى اللّه يقول: { أحلنا دار المقامة من فضله } الآية.

ذكر ما قيل في سورة يس

﴿ ٠