٥

وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.

نطق المؤمن به إقرار بالربوبية وتذلل وتحقيق لعبادة الله، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك، وقدم المفعول على الفعل اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم.

ويذكر أن أعرابيا سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ: «إياك أعني» فقال الآخر:

«وعنك أعرض» فقدّما الأهم.

وقرأ الفضل الرقاشي: «أياك» بفتح الهمزة، وهي لغة مشهورة وقرأ عمرو بن فائد: «إياك» بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذاك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها، وهذا كتخفيف «رب» و «إن» وقرأ أبو السوار الغنوي: «هيّاك نعبد وهيّاك نستعين» بالهاء، وهي لغة. واختلف النحويون في إِيَّاكَ فقال الخليل: إيّا اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف، وحكي عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وايا الشواب. وقال المبرد: إيّا اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أنّ إِيَّاكَ بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكاف والهاء والياء هي الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها ولا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيّا» عمادا لها. فيقال «إياك» و «إياه» و «إيّاي» ، وإذا تأخرت اتصلت بالأفعال واستغني عن «ايا» . وحكي عن بعضهم أن أيا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، وزيدت الكاف والياء والهاء تفرقة بين المخاطب والغائب والمتكلم، ولا موضع لها من الإعراب فهي كالكاف في ذلك وفي أرايتك زيدا ما فعل.

ونَعْبُدُ معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة، والطريق المذلل يقال له معبد، وكذلك البعير. وقال طرفة: [الطويل] .

تباري عتاق الناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد

وتكررت إِيَّاكَ بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام.

ونَسْتَعِينُ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرؤ من الأصنام. وقرأ الأعمش وابن وثاب والنخعي: «ونستعين» بكسر النون، وهي لغة لبعض قريش في النون والتاء والهمزة ولا يقولونها في ياء الغائب وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو فيما يأتي من الثلاثي على فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل نحو علم وشرب، وكذلك فيما جاء معتل العين نحو خال يخال، فإنهم يقولون تخال وأخال.

ونَسْتَعِينُ أصله نستعون نقلت حركة الواو إلى العين وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، والمصدر استعانة أصله استعوانا نقلت حركة الواو إلى العين فلما انفتح ما قبلها وهي في نية الحركة انقلبت ألفا، فوجب حذف أحد الألفين الساكنين، فقيل حذفت الأولى لأن الثانية مجلوبة لمعنى، فهي أولى بالبقاء، وقيل حذفت الثانية لأن الأولى أصلية فهي أولى بالبقاء، ثم لزمت الهاء عوضا من المحذوف، وقوله تعالى:

اهْدِنَا رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغة الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر، والهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ٥] وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: ٢٥] وقوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: ٥٦] وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: ١٢٥] .

قال أبو المعالي: فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء، من ذلك قوله تعالى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: ٧] أي داع وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] وهذا أيضا يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب، وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام، من ذلك قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥] .

قال المفسرون: معناه «ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها» . وهذا أيضا بين فيه معنى الإرشاد، وقد جاء الهدى بمعنى البيان، من ذلك قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: ١٧] .

قال المفسرون: «معناه بينا لهم» . قال أبو المعالي: معناه دعوناهم ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [الليل: ١٢] أي علينا أن نبين، وفي هذا كله معنى الإرشاد.

قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: ٥] ومنه قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٣] معناه فاسلكوهم إليها.

﴿ ٥