٧٥

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)

قَسَتْ أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي قال: إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم، قال عبيدة السلماني: ولم يرث قاتل من حينئذ.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وبمثله جاء شرعنا، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سببا أن لا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام، كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما: إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعا في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك.

وقوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ الآية، الكاف في موضع رفع خبر ل «هي» ، تقديره: فهي مثل الحجارة أَوْ أَشَدُّ مرتفع بالعطف على الكاف، أَوْ على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي، وقَسْوَةً نصب على التمييز، والعرف في أَوْ أنها للشك، وذلك لا يصح في هذه الآية، واختلف في معنى أَوْ هنا، فقالت طائفة: هي بمعنى الواو، كما قال تعالى: آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: ٢٤] أي وكفورا، وكما قال الشاعر [جرير] : [البسيط]

نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربّه موسى على قدر

أي وكانت له. وقالت طائفة هي بمعنى بل، كقوله تعالى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١٤٧] المعنى بل يزيدون، وقالت طائفة: معناها التخيير، أي: شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وقالت فرقة: هي على بابها في الشك. ومعناه: عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة. وقالت فرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:

أحب محمّدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة أو عليّا

ولم يشك أبو الأسود، وإنما قصد الإبهام على السامع، وقد عورض أبو الأسود في هذا، فاحتجّ بقول الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] ، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو» ، وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد، ومثل هذا قولك: أطعمتك الحلو أو الحامض، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين، وقالت فرقة: إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته، فصارت أشد من الحجارة، فلم تخل أن كانت كالحجارة طورا أو أشد طورا، وقرأ أبو حيوة: «قساوة» ، والمعنى واحد.

وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة، وقال قتادة: عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم، وقرأ قتادة: «وإن» مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد، في لَما، وما في موضع نصب اسم ل إِنَّ، ودخلت اللام على اسم إِنَّ لمّا حال بينهما المجرور، ولو اتصل الاسم ب إِنَّ لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين، وقرأ مالك بن دينار: «ينفجر» بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم، ووحد الضمير في مِنْهُ حملا على لفظ «ما» ، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار» ، حملا على الحجارة، والْأَنْهارُ جمع نهر وهو ما كثر ماؤه جريا من الأخاديد، وقرأ طلحة بن مصرف: «لمّا» بتشديد الميم في الموضعين، وهي قراءة غير متجهة، ويَشَّقَّقُ أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون، وقيل في هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها، وقيل المراد: الجبل الذي جعله الله دكا، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعا، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجذع الذي أنّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة أي: تبعث من يراها على شرائها، وقال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، نزل بذلك القرآن، وقال مثله ابن جريج، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: ٧٧] ، وكما قال زيد الخيل: [الطويل]

بجمع تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

وكما قال جرير: والجبال الخشع، أي من رأى الحجر هابطا تخيل فيه الخشية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف: لأن براعة معنى الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة، وبِغافِلٍ في موضع نصب خبر مَا، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية، وقرأ ابن كثير «يعملون» بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الآية، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب: التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب، وقال مجاهد والسدي: عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئا حكما أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها، وقال ابن إسحاق والربيع: عني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد ذلك.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، وقرأ الأعمش: «كلم الله» ، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باق، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم وأن ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه.

قوله عز وجل:

﴿ ٧٥