٢٣٤

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)

الضمير في أَرادا للوالدين، وفِصالًا معناه «فطاما» عن الرضاع، ولا يقع التشاور ولا يجوز التراضي إلا بما لا ضرر فيه على المولود، فإذا ظهر من حاله الاستغناء عن اللبن قبل تمام الحولين فلا جناح على الأبوين في فصله، هذا معنى الآية، وقاله مجاهد وقتادة وابن زيد وسفيان وغيرهم، وقال ابن عباس: «لا جناح مع التراضي في فصله قبل الحولين وبعدهما» .

قال القاضي أبو محمد: وتحرير القول في هذا أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وأن لا يكون على المولود ضرر، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فذلك له إلا أن يكون في ذلك على الصبي ضرر، وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا مخاطبة لجميع الناس تجمع الآباء والأمهات، أي لهم اتخاذ الظئر مع الاتفاق على ذلك، وأما قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ فمخاطبة للرجال خاصة، إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ «أتيتم» ، وقرأ الستة من السبعة «آتيتم» بالمد، المعنى أعطيتم، وقرأ ابن كثير «أتيتم» بمعنى ما جئتم وفعلتم كما قال زهير: [الطويل] .

وما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل

قال أبو علي: «المعنى إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو إعطاءه أو سوقه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه فكان التقدير ما أتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة» .

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ معنى آخر قاله قتادة، وهو إذا سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر. وعلى هذا الاحتمال: فيدخل في الخطاب ب سَلَّمْتُمْ الرجال والنساء، وعلى التأويل الذي ذكره أبو علي وغيره: فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع، قال أبو علي: ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغنى عن الصنعة من حذف المضاف، ثم حذف الضمير، قال مجاهد: «المعنى إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع» ، وقال سفيان: «المعنى إذا سلمتم إلى المسترضعة وهي الظئر أجرها بالمعروف» . وباقي الآية أمر بالتقوى وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل، وفي هذا وعيد وتحذير، أي فهو مجاز بحسب عملكم.

قوله عز وجل:

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً قال بعض نحاة الكوفيين: الخبر عن الَّذِينَ متروك والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن، ومذهب نحاة البصرة أن خبر الَّذِينَ مترتب بالمعنى، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص أزواجهم، وإن شئت قدرته. وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز، وإعرابها مترتب على هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون، ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد. مثل قوله:

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: ٣٨] ، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه فيحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ، إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم الحكام والنظرة، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه، وهذه الآية هي في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ [الطلاق: ٤] ، وعدة الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين، والتربص الصبر والتأني بالشخص في مكان أو حال، وقد بين تعالى ذلك بقوله: بِأَنْفُسِهِنَّ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، والتزام المبيت في مسكنها حيث كانت وقت وفاة الزوج. وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه. وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روي عنه وغيرهما: ليس المبيت بمراعى، تبيت حيث شاءت. وقال الحسن بن أبي الحسن: «ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزواج، ولها أن تتزين وتتطيب» .

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف. وقرأ جمهور الناس «يتوفون» بضم الياء، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يتوفون» بفتح الياء، وكذلك روى المفضل عن عاصم، ومعناه يستوفون آجالهم، وجعل الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء للحمل، إذا فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره ثم ينفخ الروح، وجعل الله تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها، قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما، وقال تعالى: عَشْراً، ولم يقل عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها، وعشر أخف في اللفظ. قال جمهور أهل العلم: ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي، وحكى منذر بن سعيد- وروي أيضا عن الأوزاعي-: أن اليوم العاشر ليس من العدة بل انقضت بتمام عشر ليال، قال المهدوي: «وقيل المعنى وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة» ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أربعة أشهر وعشر ليال» .

قوله عز وجل:

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا..........

أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن، والمخاطبة بقوله فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عامة لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين والنساء المعتدات، وقوله عز وجل فِيما فَعَلْنَ يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد. قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما: أراد بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفا غير منكر.

قال القاضي أبو محمد: ووجوه المنكر في هذا كثيرة، وقال بعض المفسرين: بِالْمَعْرُوفِ معناه بالإشهاد، وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وعيد يتضمن التحذير. وخَبِيرٌ اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء.

قوله عز وجل:

﴿ ٢٣٤