٢٣٥وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) المخاطبة بهذه الآية لجميع الناس، والمباشر لحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزويج معتدة، والتعريض هو الكلام الذي لا تصريح فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به، وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وجوز ما عدا ذلك، ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك» . ومن المجوز قول الرجل: إنك لإلى خير، وإنك لمرغوب فيك، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإن يقدر أمر يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة، والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء. قال القاضي أبو محمد: وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سرا، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه، وإلا فهو خلاف لقوله صلى الله عليه وسلم، والخطبة بكسر الخاء فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول، يقال خطبها يخطبها خطبا وخطبة ورجل خطّاب كثير التصرف في الخطبة، ومنه قول الشاعر: [الرجز] برح بالعينين خطّاب الكثب ... يقول إني خاطب وقد كذب وإنما يخطب عسا من حلب والخطبة «فعلة» كجلسة «وقعدة» ، والخطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره، أَوْ أَكْنَنْتُمْ معناه سترتم وأخفيتم، تقول العرب: كننت الشيء من الأجرام، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه، وأكننت الأمر في نفسي، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي، وتقول أكن البيت الإنسان ونحو هذا، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد، فرخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحانها وضعف البشر عن ملكها، وقوله تعالى سَتَذْكُرُونَهُنَّ، قال الحسن: معناه ستخطبونهن. قال القاضي أبو محمد: كأنه قال إن لم تنهوا، وقال غير الحسن: معناه علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن يوصل إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة، وقوله تعالى: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ذهب ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية، ف سِرًّا على هذا التأويل نصب على الحال أي مستسرين. وقال جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد والحسن بن أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي: السر في هذه الآية الزنا أي لا تواعدوهن زنى. قال القاضي أبو محمد: هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي ذلك عندي نظر، وذلك أن السر في اللغة يقع على الوطء حلاله وحرامه، لكن معنى الكلام وقرينته ترد إلى أحد الوجهين، فمن الشواهد قول الحطيئة: [الوافر] ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع فقرينة هذا البيت تعطي أن السر أراد به الوطء حراما، وإلا فلو تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن في ذلك عار، ومن الشواهد قول الآخر: [الطويل] أخالتنا سرّ النّساء محرّم ... عليّ، وتشهاد النّدامى مع الخمر لئن لم أصبّح داهنا ولفيفها ... وناعبها يوما براغية البكر فقرينة هذا الشعر تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموما في حرام وحلال حتى ينال ثأره، والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج، وأما المواعدة في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها، وحكى مكي عن ابن جبير أنه قال: «سرا: نكاحا» ، وهذه عبارة مخلصة، وقال ابن زيد: «معنى قوله وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تنكحوهن وتكتمون ذلك فإذا حلت أظهر تموه ودخلتم بهن» . قال القاضي أبو محمد: فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي خفية، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق لأن العقد متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم العقدة، وحكى مكي عنه أنه قال: «الآية منسوخة بقوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته، قال ابن المواز: «فأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه، وإن نزل لم أفسخه» ، وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها: «فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب» ، هذه رواية ابن وهب، وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا، وقاله ابن القاسم، وحكى ابن حارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً استثناء منقطع، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليّ نفسك فإن لي بك رغبة، فتقول هي وأنا مثل ذلك. قال القاضي أبو محمد: وهذه عندي مواعدة، وإنما التعريض قول الرجل: إنكم لأكفاء كرام، وما قدر كان، وإنك لمعجبة، ونحو هذا. عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وحينئذ تسمى عُقْدَةَ، وقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يريد تمام العدة، والْكِتابُ هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة، سماه كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله، كما قال: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤] ، وكما قال: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: ١٠٣] ، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف، وقد قدر أبو إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن، واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل. قال القاضي أبو محمد: وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى، أما إن عقد في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل الدخول: فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء إن ذلك لا يؤبد تحريما، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود، وقال الجميع: يكون خاطبا من الخطّاب، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد في العدة وإن فسخ قبل الدخول، وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما، وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم، وقال مالك مرة: يتأبد التحريم، وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في طلاق السنة، وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل العلم: إن التحريم يتأبد، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز بن أبي سلمة: إن التحريم لا يتأبد وإن وطئ في العدة، بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ثم يكون خاطبا من الخطاب، قال أبو حنيفة والشافعي: تعتد من الأول فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر، وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة، ذكرها في العالم بالتحريم المجترئ لأنه زان، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافا في المذهب. حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة، قال نا أبو عمر بن عبد البر، نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، عن محمد بن إسماعيل، عن نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما، وقال: «لا تنكحها أبدا» . وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس، فبلغ عليا فقال: «يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال؟ إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة» ، قيل: فما تقول أنت فيها؟. قال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا حد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء» ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب الناس فقال: «يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة» ، وهذا قول الشافعي والليث في العدة من اثنين، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري: عدة واحدة تكفيهما جميعا سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالأشهر، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن أبي طالب والشافعي في إكمال العدتين، واختلف قول مالك رحمه الله في الذي يدخل في العدة عالما بالتحريم مجترما، فمرة قال: العالم والجاهل فيه سواء لا حد عليه، والصداق له لازم، والولد لاحق، ويعاقبان ولا يتناكحان أبدا، ومرة قال: العالم بالتحريم كالزاني يحد، ولا يلحق به الولد، وينكحها بعد الاستبراء، والقول الأول أشهر عن مالك رحمه الله. وقوله تعالى وَاعْلَمُوا إلى آخر الآية: تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيّن ووسّع فيها من إباحة التعريض ونحوه. قوله عز وجل: |
﴿ ٢٣٥ ﴾