٢٧٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)

سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت، وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح:

«ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» ، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته، فيستفيض حينئذ في الناس، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا، منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لم يعطه، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية.

وذكر النقاش رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئا فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم.

فمعنى الآية، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. وقوله:

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: إِنْ في هذه الآية بمعنى إذ.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مردود لا يعرف في اللغة، وقال ابن فورك:

يحتمل أنه يريد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمن قبل محمد من الأنبياء، ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية، ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب من الله ومن رسوله وأمته، والحرب داعية القتل، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لأكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقال ابن عباس أيضا: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستنيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا، ثم ردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم، وقال لهم: لا تَظْلِمُونَ في أخذ الربا وَلا تُظْلَمُونَ في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم، فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل، لأن مطل الغني ظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم.

فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا. وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب:

نعم يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر: قم فاقضه، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات، وقرأ الحسن «ما بقي» بكسر القاف وإسكان الياء، وهذا كما قال جرير: [البسيط]

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

ووجهها أنه شبه الياء بالألف، فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لم تصل هنا إلى الياء، وفي هذا نظر، وقرأ أبو السمال من «الرّبو» بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، وقال أبو الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين:

أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما، والآخر وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جدا، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع، فيقول رأيت ذا قام، ووجه القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي: «فأذنوا» مقصورة مفتوحة الذال، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «فآذنوا» ممدودة مكسورة الذال.

قال سيبويه: آذنت أعلمت، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال: وبعض يجري آذنت مجرى أذنت، قال أبو علي: من قال: «فأذنوا» فقصر، معناه فاعلموا الحرب من الله، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: معناه فاستيقنوا الحرب من الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهي عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه، فكأنه قال لهم فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله، ملزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون بها، إذ هم الآذنون بها وفيها، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب وتيقنهم لذلك، قال أبو علي: ومن قرأ «فآذنوا» فمد، فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الأنبياء: ١٠٩] وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم، فقراءة المد أرجح، لأنها أبلغ وآكد قال الطبري: قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محضور بأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا، فإن قيل لهم: «فأذنوا» فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم:

«فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم، ترك الربا أو الحرب، وقرأ جميع القراء «لا تظلمون» بفتح التاء و «لا تظلمون» بضمها وقد مضى تفسيره.

وروى المفضل عن عاصم: لا «تظلمون» بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية. قال أبو علي:

وتترجح قراءة الجماعة فإنها تناسب قوله فَإِنْ تُبْتُمْ في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجيء «تظلمون» بفتح التاء أشكل بما قبله.

قوله عز وجل:

﴿ ٢٧٩