٢٨١وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر. قال المهدوي: وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين، وحكى مكي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام. قال القاضي أبو محمد: فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ، و «العسرة» ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة، والنظرة التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذُو عُسْرَةٍ ب كانَ التامة التي هي بمعنى وجد وحدث. هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة، وأن العدم طارئ حادث يلزم أن يثبت. وقال بعض الكوفيين، حكاه الطبري: بل هي كانَ الناقصة والخبر محذوف، تقديره وَإِنْ كانَ من غرمائكم ذُو عُسْرَةٍ وارتفع قوله: فَنَظِرَةٌ على خبر ابتداء مقدر، تقديره فالواجب نظرة، أو فالحكم نظرة. قال الطبري: وفي مصحف أبي بن كعب: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ على معنى وإن كان المطلوب، وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا فنظرة» . قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبي بن كعب، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين. قال القاضي أبو محمد: وهذا غير لازم، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان، «فإن كان» بالفاء ذُو عُسْرَةٍ بالواو، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن: «فنظرة» بسكون الظاء، وكذلك قرأ الضحاك، وهي على تسكين الظاء من نظرة، وهي لغة تميمية، وهم الذين يقولون: كرم زيد بمعنى كرم، ويقولون: كبد في كبد، وكتف في كتف، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على وزن فاعلة، وقال الزجّاج: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: ٢] وكقوله تعالى: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة: ٢٥] ، وكخائنة الأعين وغيره، وقرأ نافع وحده «ميسرة» بضم السين، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسرة» بفتح السين على وزن مفعلة، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب، لأن مفعلة بضم العين قليل. قال أبو علي: قد قالوا: مسربة ومشربة، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضا ومجاهد: «فناظره إلى ميسره» على الأمر في «ناظره» وجعلا الهاء ضمير الغريم، وضما السين من «ميسره» وكسرا الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم، فأما ناظره ففاعله من التأخير، كما تقول: سامحه، وأما ميسر فشاذ، قال سيبويه: ليس في الكلام مفعل، قال أبو علي يريد في الآحاد، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد: [الرمل] أبلغ النّعمان عنّي مألكا ... أنّه قد طال حبسي وانتظار وقول جميل: [الطويل] بثين الزمي- لا- إنّ- لا- إن لزمته ... على كثرة الواشين أيّ معون فالأول جمع مالكة، والآخر جمع معونة، وقال ابن جني: إن عديا أراد مالكة فحذف، وكذلك جميل أراد أي معونة، وكذلك قول الآخر: [الرجز] «ليوم روع أو فعال مكرم» «أراد مكرمة» ، فحذف قال: ويحتمل أن تكون جموعا كما قال أبو علي. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ، وقد خطأه بعض الناس، وكلام سيبويه يرده، واختلف أهل العلم: هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة: واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟ فقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة، بل تؤدى إلى أهلها، وكأن هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة، فسره الضحاك. وقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا ابتداء وخبره خَيْرٌ، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس. وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالا لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته، بل هي كقول جمهور الناس، وليس في الآية مدخل للغني، وقرأ جمهور القراء: «تصّدقوا» بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا. وقرأ عاصم «وأن تصدقوا» بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا» بفك الإدغام. وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة. وقال ابن عباس: آخر ما نزل آية الربا. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم، قال: آخر آية قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، وروي أن قوله عز وجل: وَاتَّقُوا نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية، من البقرة. وقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ إلى آخر الآية، وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان، ويَوْماً منصوب على المفعول لا على الظرف. وقرأ أبو عمرو بن العلاء «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ باقي السبعة «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم، فمثل قراءة أبي عمرو إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ [الغاشية: ٢٥] ومثل قراءة الجماعة ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ [الأنعام: ٦٢] وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي [الكهف: ٣٦] المخاطبة في القراءتين بالتاء على جهة المبالغة في الوعظ والتحذير، وقرأ الحسن «يرجعون» بالياء على معنى يرجع جميع الناس. قال ابن جني كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تنفطر له القلوب. فقال لهم: وَاتَّقُوا يَوْماً، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم، وقرأ أبي بن كعب «يوما تردون» بضم التاء، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية، وقال قوم هو يوم الموت، والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية، وفي قوله: إِلَى اللَّهِ مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه، وقوله وَهُمْ رد على معنى كل نفس لا على اللفظ إلا على قراءة الحسن «يرجعون» ، فقوله: وَهُمْ رد على ضمير الجماعة في «يرجعون» ، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان. وهذا رد على الجبرية. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ قال ابن عباس رضي الله عنه نزلت هذه الآية في السلم خاصة. قال القاضي أبو محمد: معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا، وبين تعالى بقوله: بِدَيْنٍ ما في قوله: تَدايَنْتُمْ من الاشتراك، إذ قد يقال في كلام العرب: تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضا. ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن المجهلة لا تجوز، فكأن الآية رفضتها، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس أجل، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها فرض بهذه الآية، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: ٢٨٣] . وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله: فَإِنْ أَمِنَ ناسخ لأمره بالكتب، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال جمهور العلماء: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق، وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن وقع ذلك فَلْيُؤَدِّ [البقرة: ٢٨٣] الآية، فهذه وصية للذين عليهم الديون، ولم يجزم تعالى الأمر نصا بأن لا يكتب إذا وقع الائتمان، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك. واختلف الناس في قوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ فقال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقال الشعبي وعطاء أيضا: إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب، وقال السدي: هو واجب مع الفراغ، وقوله تعالى: بِالْعَدْلِ معناه بالحق والمعدلة، والباء متعلقة بقوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ، وليست متعلقة ب كاتِبٌ لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها، أما أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين، وقال مالك رحمه الله: لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثم نهى الله تعالى الكتاب عن الإباية، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى وأبا يأبى، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق، قال الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله وَلا يَأْبَ منسوخ بقوله لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: ٢٨٢] والكاف في قوله كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ متعلقة بقوله: أَنْ يَكْتُبَ المعنى كتبا كما علمه الله، هذا قول بعضهم، ويحتمل أن تكون كَما متعلقة بما في قوله وَلا يَأْبَ من المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل الله عليه، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله: أَنْ يَكْتُبَ، ثم يكون قوله: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله فَلْيَكْتُبْ. قال القاضي أبو محمد: وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين، ولا وجوب الندب، بل له الامتناع إلا إن استأجره، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: ٧٧] وهو من باب عون الضائع. قوله عز وجل: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فإن كان الّذى عليه الحقّ سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ بها فهو كإملاء له. وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن يَبْخَسْ شيئا من الحق، والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمن. فقال فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً وكون الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير ذلك، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والسفه الخفة، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة: [الطويل] . مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أعاليها مرّ الرّياح النّواسم وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي، وذلك هو وليه، ثم قال: أَوْ ضَعِيفاً والضعيف هو المدخول في عقله الناقص الفطرة، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا، الذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووَلِيُّهُ وصيه أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، ووَلِيُّهُ وكيله، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها، وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد، وربما اجتمعت كلها في شخص، وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق، وقال بعض الناس: السفيه الصبي الصغير، وهذا خطأ، وقال قوم الضعيف هو الكبير الأحمق، وهذا قول حسن، وجاء الفعل مضاعفا في قوله: أَنْ يُمِلَّ لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة، والفك في هذا الفعل لغة قريش. وبِالْعَدْلِ معناه بالحق وقصد الصواب، وذهب الطبري إلى أن الضمير في وَلِيُّهُ عائد على الْحَقُّ، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس. قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس، وكيف تشهد على البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة، والقول ضعيف إلا أن يريد قائله أن الذي لا يستطيع أَنْ يُمِلَّ بمرضه إذا كان عاجزا عن الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل الإملاء أقر به، وهذا معنى لم تعن الآية إليه، ولا يصح هذا إلا فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض. قوله عز وجل: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى الاستشهاد: طلب الشهادة وعبر ببناء مبالغة في شَهِيدَيْنِ دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنها إشارة إلى العدالة: وقوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، واسم كان الضمير الذي في قوله يَكُونا. والمعنى في قول الجمهور، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما، وقال قوم: بل المعنى فإن لم يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، وهذا قول ضعيف، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور، وقوله: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مرتفع بأحد ثلاثة أشياء، إما أن تقدر فليستشهد رجل وامرأتان، وإما فليكن رجل وامرأتان ويصح أن تكون يَكُونا هذه التامة والناقصة، ولكن التامة أشبه، لأنه يقل الإضمار، وإما فرجل وامرأتان يشهدون، وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا «وامرأتان» بهمز الألف ساكنة. قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس وإنما خففوا الهمزة فقربت من الساكن، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفا ساكنة كما قال الشاعر: [الطويل] . يقولون جهلا ليس للشّيخ عيّل ... لعمري لقد أعيلت وأن رقوب يريد «وأنا» ، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي. وهي ساكنة وفي هذا نظر، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها» وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح: فإن قيل شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج وفي الخفاء فقول مخشوب لا صنعة فيه، ولا يكاد يقنع بمثله، وقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ. قال أبو علي: ولا يدخل في هذه الصفة قوله: شَهِيدَيْنِ اختلاف الإعراب. قال القاضي أبو محمد: وهذا حكم لفظي، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين. قال ابن بكير وغيره: قوله مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مخاطبة للحكام. قال القاضي أبو محمد: وهذا غير نبيل، إنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض، وفي قوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ دليل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم. وقرأ حمزة وحده: «إن تضل» بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذكر» بفتح الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش. وقرأها الباقون «أن تضل» بفتح الألف «فتذكر» بنصب الراء. غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف، وشددها الباقون، وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله: أَنْ تَضِلَّ، وأَنْ مفعول من أجله والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما. وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر إحداهما إن ضلت الأخرى. قال سيبويه: وهذا كما تقول: أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها، وهذا من أنواع أبرع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطا قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة. وقال أبو عبيد: معنى تَضِلَّ تنسى. قال القاضي أبو محمد: والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها، فأما قراءة حمزة فجعل أَنْ الجزاء، والفاء في قوله فَتُذَكِّرَ جواب الجزاء، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور، وهما المرأتان، وارتفع «تذكر» كما ارتفع قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: ٩٥] هذا قول سيبويه. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وأما نصب قوله «فتذكر» على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب أَنْ، وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر، يقال: ذكرت وأذكرته تعديه بالتضعيف أو بالهمز، وروي عن أبي عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة أنهما قالا: معنى قوله: «فتذكر» بتخفيف الكاف أي تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة امرأة تصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، وهذا تأويل بعيد، غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر، وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين، وأحدهما في الآية محذوف، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة» ، التي ضلت عنها، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر: «أن تضل» بضم التاء وفتح الضاد بمعنى تنسى، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني، وحكى النقاش عن الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة، تقول: أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما، وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد «فتذكر» بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء، وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل، واختلف قول مالك في شهادتهما، فروى عنه ابن وهب أن شهادة النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين، أو فيما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنها تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال، وخالف في ذلك أشهب وغيره، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال، ففيها قولان في المذهب. قوله عز وجل: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا قال قتادة والربيع وغيرهما: معنى الآية، إذا دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم، وفي هذا المعنى نزلت، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد، فنزلت الآية في ذلك، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية جمعت أمرين: لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها، وقاله ابن عباس، وقال مجاهد: معنى الآية، لا تأب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك، وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت لتشهد أولا، فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب، وقاله لا حق بن حميد وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم. قال القاضي أبو محمد: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء، وَلا تَسْئَمُوا معناه تملوا، وصَغِيراً أَوْ كَبِيراً حالان من الضمير في تَكْتُبُوهُ، وقدم الصغير اهتماما به، وهذا النبي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة عندهم، فخيف عليهم أن يملوا الكتب وأَقْسَطُ معناه أعدل. وهذا أفعل من الرباعي وفيه شذوذ، فانظر هل هو من قسط بضم السين؟ كما تقول: «أكرم» من «كرم» يقال: أَقْسَطُ بمعنى عدل وقسط بمعنى جار، ومنه قوله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن: ١٥] ومن قدر قوله تعالى: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ بمعنى وأشد إقامة فذلك أيضا أفعل من الرباعي، ومن قدرها من قام بمعنى اعتدل زال عن الشذوذ، وَأَدْنى معناه أقرب، وتَرْتابُوا معناه، تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي. «يسأموا» و «يكتبوا» و «يرتابوا» كلها بالياء على الحكاية عن الغائب. قوله عز وجل: |
﴿ ٢٨١ ﴾