٧٩

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)

الضمير في مِنْهُمْ، عائد على أهل الكتاب، و «الفريق» ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق، إذا فصل وأبان شيئا عن شيء، ويَلْوُونَ معناه: يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم: راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليّ، وحقيقة الليّ في الثياب والحبال ونحوها، فتلها وإراغتها، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيها بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم، خصم ألوى ومنه قول الشاعر: [الطويل]

فلو كان في ليلى شذى من خصومة ... للوّيت أعناق الخصوم الملاويا

وقال الآخر: [الرجز] ألفيتني ألوي بعيدا مستمر وقرأ جمهور الناس، «يلوون» ، مضارع لوى، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، «يلوّون» بتشديد الواو وفتح اللام، من لوّى، على وزن فعّل بتشديد العين، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، وقرأ حميد «يلون» بضم اللام وسكون الواو، وهي في الأصل «يلون» مثل قراءة الجماعة، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات، فجاء «يلوون» فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلون» والْكِتابِ في هذا الموضع التوراة، وضمير الفاعل في قوله لِتَحْسَبُوهُ هو للمسلمين وقوله وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نفي أن يكون منزلا كما ادعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله، وما هو من عند الله، وقد تقدم نظير قوله تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.

وقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ معناه لأحد من الناس، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه، كقوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: ١٤٥] وقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: ٦٠] فهذا منتف عقلا، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين، والْكِتابِ في هذه الآية اسم جنس، والْحُكْمَ بمعنى الحكمة، ومنه قول النبي عليه السلام: إن من الشعر لحكما، وثُمَّ في قوله تعالى: ثُمَّ يَقُولَ معطية تعظيم الذنب في القول، بعد مهلة من هذا الإنعام، وقوله عِباداً هو جمع عبد، ومن جموعه عبيد وعبدى، قال بعض اللغويين، هذه الجموع بمعنى، وقال قوم، العباد لله، والعبيد والعبدى للبشر، وقال قوم: العبدى، إنما تقال في العبيد بني العبيد، وكأنه بناء مبالغة، تقتضي الإغراق في العبودية.

قال القاضي أبو محمد: والذي استقريت في لفظة العباد، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [البقرة: ٢٠٧] [آل عمران: ٣٠] وعِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: ٢٦] يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة: ١١٨] فنوه بهم، وقال بعض اللغويين: إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله، وأما العبيد فيستعمل في تحقير، ومنه قول امرئ القيس: [السريع] .

قولا لدودان عبيد العصى ... ما غرّكم بالأسد الباسل

ومنه قول حمزة بن عبد المطلب: وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلّام لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] قال الإمام أبو محمد: فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ اعبدوني واجعلوني إلها.

واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ فقال النقاش وغيره: الإشارة إلى عيسى عليه السلام، والآية رادة على النصارى الذين قالوا: عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين: بل الإشارة إلى محمد عليه السلام، وسبب نزول الآية، أن أبا رافع القرظي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران: يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى، فقال الرئيس من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت، فنزلت الآية، في ذلك، قال بعض العلماء: أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمدا صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: ٣١] وإنما معنى الآية، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأويلهم، وهذا من نوع ليّهم الكتاب بألسنتهم، وقرأ جمهور القراء «ثم يقول» بالنصب، وروى شبل عن ابن كثير ومحبوب عن أبي عمرو «ثم يقول» برفع اللام، وهذا على القطع وإضمار مبتدأ، وقرأ عيسى بن عمر، «عبادا لي» بتحريك الياء مفتوحة.

المعنى وَلكِنْ يقول: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وهو جمع رباني، واختلف النحاة في هذه النسبة، فقال قوم: هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه، العامل بطاعته، المعلم للناس ما أمر به، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس، وعالمهم السائس لأمرهم، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان، ثم نسب إليه رباني، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني، فقال أبو رزين: الرباني: الحكيم العالم، وقال مجاهد: الرباني الفقيه، وقال قتادة وغيره:

الرباني العالم الحليم، وقال ابن عباس: هو الحكيم الفقيه، وقال الضحاك: هو الفقيه العالم، وقال ابن زيد: الرباني والي الأمر، يرب الناس أي يصلحهم، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء، وقال مجاهد:

الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وفي البخاري: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

قال الفقيه أبو محمد: فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس، وقوله بِما كُنْتُمْ معناه: بسبب كونكم عالمين دارسين، فما مصدرية، ولا يجوز أن تكون موصولة، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه: كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ، ولا يصح شيء من ذلك لأن «كان» قد استوفت خبرها ظاهرا، وهو تُعَلِّمُونَ وكذلك تُعَلِّمُونَ قد استوفى مفعوله وهو الْكِتابَ ظاهرا، فلم يبق إلا أن ما مصدرية، إذ لا يمكن عائد، وتُعَلِّمُونَ بمعنى تعرفون، فهي متعدية إلى مفعول واحد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «تعلمون» بسكون العين، وتخفيف اللام، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تعلّمون» مثقلا، بضم التاء وكسر اللام، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف، تقديره: تعلمون الناس الكتاب.

قال الفقيه الإمام: والقراءتان متقاربتا المعنى، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم تَدْرُسُونَ وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانيا، وليس التعليم شرطا في ذلك، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم، والعلم لا يتضمن التعليم، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح.

قال الفقيه الإمام: ومن حيث العالم بحال من يعلم، فالتعليم كأنه في ضمن العلم، وقراءة التخفيف عندي أرجح، وقرأ مجاهد والحسن «تعلّمون» بفتح التاء والعين، وشد اللام المفتوحة، وقرأ جمهور الناس، «تدرسون» بضم الراء، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره، وقرأ أبو حيوة «تدرسون» بكسر الراء، وهذا على أنه يقال في مضارع درس، يدرس ويدرس وروي عن أبي حيوة، أنه قرأ «تدرّسون» بضم التاء، وكسر الراء وشدها، بمعنى تدرسون غيركم.

قوله تعالى:

﴿ ٧٩