٨١

وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: «ولا يأمركم» برفع الراء، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفا، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة: «وَلا يَأْمُرَكُمْ» نصبا، ولا خلاف في الراء من قوله: أَيَأْمُرُكُمْ إلا اختلاس أبي عامر، فمن رفع قوله: «ولا يأمركم» ، فهو على القطع، قال سيبويه: المعنى ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وغيره: المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قراءة ابن مسعود: «ولن يأمركم» ، فهذه قراءة تدل على القطع، وأما قراءة من نصب الراء، فهي عطف على قوله: أَنْ يُؤْتِيَهُ [آل عمران: ٧٩] والمعنى ولا له أن يأمركم، قاله أبو علي وغيره، وقال الطبري: قوله وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب، معطوف على قوله، ثُمَّ يَقُولَ [آل عمران: ٧٩] .

قال الفقيه أبو محمد: وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى، والأرباب في هذه الآية وقوله تعالى:

أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ تقرير على هذا المعنى الظاهر فساده.

وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الآية، المعنى واذكر يا محمد «إذ» ويحتمل أن يكون «أخذ» هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسما، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه، ثم جمع اللفظ في حكاية الحال في هذه الآية، والمعنى: أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل، الظاهرة براهينهم والنصرة له، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية، فقال مجاهد والربيع: إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب، لا ميثاق النبيين، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» ، قال مجاهد: هكذا هو القرآن، وإثبات «النبيين» خطأ من الكتاب.

قال الفقيه الإمام: وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنه: إنما أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ على قومهم، فهو أخذ لميثاق الجميع، وقال طاوس:

أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما بعث الله نبيا، آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآية، وقاله السدي: وروي عن طاوس أنه قال: صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم.

قال الفقيه الإمام أبو محمد: حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم.

وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة: «لما» بكسر اللام، وهي لام الجر، والتقدير لأجل ما آتيناكم، إذ أنتم القادة والرؤوس، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه، و «ما» في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه، و «من» لبيان الجنس، وقوله، ثُمَّ جاءَكُمْ الآية، جملة معطوفة على الصلة، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول، فتقديره عند سيبويه:

رسول به مصدق لما معكم، وحذف تخفيفا كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام، كما قال تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: ٤١] والحذف من الصلات كثير جميل، وأما أبو الحسن الأخفش، فقال قوله تعالى: لِما مَعَكُمْ. هو العائد عنده على الموصول، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: ٩٠] لأن المعنى لا يضيع أجرهم، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: ٣٠] وكذلك ما ضارع هذه الآيات، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر، كما يراه أبو الحسن، واللام في لَتُؤْمِنُنَّ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز.

وقرأ سائر السبعة: «لما» بفتح اللام، وذلك يتخرج على وجهين، أحدهما أن تكون «ما» موصولة في موضع رفع بالابتداء، واللام لام الابتداء، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ وخبر الابتداء قوله لَتُؤْمِنُنَّ، ولَتُؤْمِنُنَّ متعلق بقسم محذوف، والمعنى والله لتؤمنن، هكذا قال أبو علي الفارسي، وفيه من جهة المعنى نظر، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيدا فتأمل، والعائد الذي في الصلة، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرنا هما في قراءة حمزة، أما أن هذا التأويل يقتضي عائدا من الخبر الذي هو لَتُؤْمِنُنَّ فهو قوله تعالى: بِهِ فالهاء من بِهِ عائدة على «ما» ولا يجوز أن تعود على رَسُولٌ فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء «لما» بفتح اللام، هو أن تكون «ما» للجزاء شرطا، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم وجاءَكُمْ معطوف في موضع جزم، واللام الداخلة على «ما» ليست المتلقية للقسم، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب: ٦٠] لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ وهذه اللام الداخلة على «أن» لا يعتمد القسم عليها، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة، كما قال تعالى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة: ٧٣] . قال الزجاج: لأن قولك، والله لئن جنتني لأكرمنك، إنما حلف على فعلك، لأن الشرط معلق به، فلذلك دخلت اللام على الشرط، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد.

والضمير في قوله تعالى: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ عائد على رَسُولٌ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام، وأما الضمير في قوله وَلَتَنْصُرُنَّهُ فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول، قال أبو علي في الإغفال: وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله لَتُؤْمِنُنَّ عليه، قال سيبويه: سألته، يعني الخليل عن قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ فقال: «ما» هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن، حين قلت: لئن فعلت لأفعلن، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي: أراد الخليل بقوله: هي بمنزلة الذي، أنها اسم كما أن الذي اسم ولم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما فرّ من أن تكون «ما» حرفا كما جاءت حرفا في قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود: ١١١] وفي قوله وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: ٣٥] ، والله المستعان، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل: أن خبر الابتداء فيمن جعل «ما» ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله: مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه، والخليل، وإنما الخبر في قوله، لَتُؤْمِنُنَّ كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره، وقرأ الحسن: «لمّا آتيناكم» بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق:

أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء، كما تقول لما جئتني أكرمتك.

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويظهر أن «لما» هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال، رؤساء الناس وأماثلهم، أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة، وذهب ابن جني في «لما» في هذه الآية إلى أن أصلها «لمن ما» ، وزيدت «من» في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت، كما يجب في مثل هذا، فجاء لهما، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي «لما» ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر «لما» بفتح الميم مخففة، وقد تقدم، وقرأ نافع وحده، «آتيناكم» بالنون، وقرأ الباقون، «آتيناكم» بالتاء، ورَسُولٌ في هذه الآية اسم جنس، وقال كثير من المفسرين: الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود: «مصدقا» بالنصب على الحال.

قالَ أَأَقْرَرْتُمْ....

هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه، وذلك يحتمل موطن القسم، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه، وَأَخَذْتُمْ في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم أيضا وقال الطبري: أَخَذْتُمْ في هذه الآية معناه: قبلتم، و «الإصر» : العهد، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك، وقوله تعالى فَاشْهَدُوا يحتمل معنيين: أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد، هذا قول الطبري وجماعة، والمعنى الثاني، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به، وشهادة الله تعالى هذا التأويل، وفي التي في قوله وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم، هذا قول الزجّاج وغيره.

قال القاضي أبو محمد: فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها، والقول الثاني هو الأمر بأدائها قوله تعالى:

﴿ ٨١