١٤٥وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) هذا استمرار في عتبهم، وإقامة لحجة الله عليهم، المعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله، وخَلَتْ معناه مضت وسلفت، وصارت إلى الخلاء من الأرض. وقرأ جمهور الناس «الرسل» بالتعريف، وفي مصحف ابن مسعود «رسل» دون تعريف، وهي قراءة حطان بن عبد الله، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى، ووجه الثانية أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، فجيء تنكير «الرسل» جاريا في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشيء، فمنه قوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣] وقوله تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: ٤٠] إلى غير ذلك من الأمثلة، ذكر ذلك أبو الفتح، والقراءة بتعريف «الرسل» أوجه في الكلام، وقوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ الآية، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا: إن مات محمد أو قتل انقلبنا، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار، وقال كثير من المفسرين: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد؟ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط. قال الفقيه القاضي أبو محمد: وبذلك النظر الذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ [البقرة: ١٧٠، المائدة: ١٠٤] ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدما حتى مات، فمنهم سعد بن الربيع وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار، ومنهم أنس بن النضر، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين، والأنصاريّ يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. قال الفقيه أبو محمد: فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم. ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة، قال ابن إسحاق معنى وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي من أطاعه وعمل بأمره، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره: أنه قال في تفسير هذه الآية: «الشاكرون» : الثابتون على دينهم، أبو بكر وأصحابه وكان يقول: أبو بكر أمير الشاكرين، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته، هاج المنافقون وتكلموا، وهموا بالاجتماع والمكاشفة، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له: اسكت، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه، فقال: أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وتلا الآية كلها، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري: فنفع الله بخطبة عمر، ثم بخطبة أبي بكر. قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه. ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد، قال ابن فورك: وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام، والعبارة بقوله: وَما كانَ قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، وقد تقع في الممتنع عقلا نحو قوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: ٦٠] فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهيا كما يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه، و «نفس» في هذه الآية: اسم الجنس، و «الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر، وقوله: كِتاباً نصب على التمييز ومُؤَجَّلًا صفة. وهذه الآية ردّ على المعتزلة في قولهم بالأجلين، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح: ٤] ونحو هذا من الآيات، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها مشروط بالمشيئة، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له، بيّن ذلك قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: ١٨] ، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة الكلام في قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا، وقرأ جمهور الناس «نؤته ونؤته وسنجزي» . كلها بنون العظمة، وقرأ الأعمش بالياء في الثلاثة، وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، قال ابن فورك: في قول الله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة. قوله تعالى: |
﴿ ١٤٥ ﴾