١٦وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) قوله وَاللَّاتِي: اسم جمع التي، وتجمع أيضا على «اللواتي» ، ويقال: اللائي بالياء، والْفاحِشَةَ في هذا الموضع: الزنا، وكل معصية فاحشة، لكن الألف واللام هنا للعهد، وقرأ ابن مسعود «بالفاحشة» ببناء الجر وقوله: مِنْ نِسائِكُمْ إضافة في معنى الإسلام، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب، ولا يلحقها هذا الحكم، وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء، تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقال قوم: ذلك ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وكانت هذه أول عقوبات الزناة- الإمساك في البيوت، قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد: حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب، وقالت فرقة: بل كان الأذى هو الأول، ثم نسخ بالإمساك ولكن التلاوة أخرت وقدمت، ذكره ابن فورك، وسَبِيلًا معناه مخرجا بأمر من أوامر الشرع، وروى حطان بن عبد الله الرقاشي عن عمران بن حصين، أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الوحي، ثم أقلع عنه ووجهه محمر، فقال: قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. وَالَّذانِ- تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان كرحيان المتمكنة وبين الأسماء المبهمات. قال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا إذ قد أمن من اللبس في اللذان، لأن النون لا تنحذف ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين، وقرأ ابن كثير «اللذانّ» بشد النون، وتلك عوض من الياء المحذوفة، وكذلك قرأ هذان، وفذانك، وهاتين، بالتشديد في جميعها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بتخفيف جميع ذلك، وشدد أبو عمرو، «فذانك» وحدها ولم يشدد غيرها، وَالَّذانِ رفع بالابتداء، وقيل على معنى: فيما يتلى عليكم «اللذان» ، واختلف في الأذى، فقال عبادة والسدي: هو التعيير والتوبيخ وقالت فرقة: هو السبّ والجفاء دون تعيير، وقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه، قال مجاهد وغيره: الآية الأولى في النساء عامة لهن، محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال، وبين بلفظ التثنية صنفي الرجال ممن أحصن وممن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عليه، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى مِنْ نِسائِكُمْ وقوله في الثانية مِنْكُمْ، وقال السدي وقتادة وغير هما: الآية الأولى في النساء المحصنات، يريد ويدخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين. قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا القول تام، إلا أن لفظ الآية يقلق عنه، وقد رجحه الطبري، وقرأ ابن مسعود «والذين يفعلونه منكم» وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، إلا من قال: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم، وكذلك عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حطان بن عبد الله الرقاشي الذي ذكرته آنفا، وإن كان في صحيح مسلم فهو خبر آحاد، ثم ورد بالخبر المتواتر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ولم يجلد، فمن قال: إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخا لجلد الثيب، وهذا الذي عليه الأئمة: أن السنة المتواترة تنسخ القرآن، إذ هما جميعا وحي من الله، ويوجبان جميعا العلم والعمل، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ماعز، وفي حديث المرأة التي بعث إليها أنيس، ومن قال إن السنة المتواترة لا تنسخ القرآن، قال: إنما يكون حكم القرآن موقفا، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن تتناول نسخا. قال القاضي أبو محمد: وهذا تخيل لا يستقيم، لأنا نجد السنة ترفع بحكمها ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ، ولا يرد ذلك نظر، ولا ينخرم منه أصل، أما أن هذه النازلة بعينها يتوجه عندي أن يقال فيها: إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه، في قوله تعالى: الشيخ والشيخة- إذا زنيا- فارجموهما البتة، وهذا نص في الرجم، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة، وذكر أنهم قرأوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث بكماله في مسلم وأيضا فيعضد أن ذلك من القرآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له: فاقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله، ثم أمر أنيسا برجم المرأة إن هي اعترفت، فدل هذا الظاهر على أن الرجم كان في القرآن، وأجمعت الأمة على رفع لفظة، وهاتان الآيتان أعني الجلد والرجم لو لم يقع بيان من الرسول لم يجب أن تنسخ إحداهما الأخرى، إذ يسوغ اجتماعهما على شخص واحد، وحديث عبادة المتقدم يقوي جميعهما، وقد أخذ به علي رضي الله عنه في شراحة جلدها ثم رجمها، وقال: أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه، ولكن لما بين الرسول برجمه دون جلد كان فعله بمثابة قوله مع هذه الآية: فقوا ولا تجلدوا فيكون القرآن هو الناسخ والسنة هي المبينة ويصح أن نعترض من ينسخ بالسنة في هذه النازلة فنقول: الناسخ من شروطه أن يستقل في البيان بنفسه، وإذا لم يستقل فليس بناسخ، وآية الرجم بعد أن يسلم ثبوتها لا تستقل في النسخ بنفسها، بل تنبني مع الجلد وتجتمع، كما تضمن حديث عبادة بن الصامت، لكن إسقاط الرسول الجلد هو الناسخ، لأن فعله في ذلك هو بمنزلة قوله: لا تجلدوا الثيب، وأما البكر فلا خلاف أنه يجلد، واختلف في نفيه، فقال الخلفاء الأربعة وابن عمر ومالك والشافعي وجماعة: لا نفي اليوم، وقالت جماعة: ينفى وقيل: نفيه سجنه، ولا تنفى المرأة ولا العبد، هذا مذهب مالك وجماعة من العلماء، وقوله: فَأَعْرِضُوا عَنْهُما كانت هذه العقوبة من الإمساك والأذى إرادة أن يتوب الزناة، وهو الرجوع عن الزنا والإصرار عليه، فأمر الله تعالى المؤمنين، إذا تاب الزانيان وأصلحا في سائر أعمالهما أن يكف عنهما الأذى، وجاء الأمر بهذا الكف الذي هو «أعرضوا» وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا، لأن تركهم إنما هو إعراض، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: ١٩٩] وليس الإعراض في الآيتين أمرا بهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بحسب المعصية المتقدمة، ويحسب الجهالة في الآية الأخرى، والله تعالى تواب، أي راجع بعباده عن المعاصي إلى تركها ولزوم الطاعة. قوله تعالى: |
﴿ ١٦ ﴾