١٥١

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١)

المحبة في الشاهد إرادة يقترن بها استحسان وميل اعتقاد، فتكون الأفعال الظاهرة من المحب بحسب ذلك، والْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لا يكون من الله تعالى فيه شيء من ذلك، أما أنه يريد وقوع الواقع منه ولا يحبه هو في نفسه. والْجَهْرَ: كشف الشيء، ومنه الجهرة في قول الله تعالى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ٥٣] ومنه قولهم: جهرت البير، إذا حفرت حتى أخرجت ماءها، واختلف القراء في قوله تعالى إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وقراءة جمهور الناس بضم الظاء وكسر اللام، وقرأ ابن أبي إسحاق وزيد بن أسلم والضحاك بن مزاحم وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار ومسلم بن يسار وغيرهم «إلا من ظلم» بفتح الظاء واللام، واختلف المتأولون على القراءة بضم الظاء، فقالت فرقة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول «إلا من ظلم» فلا يكره له الجهر به، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك، فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعنّي عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني وبين ما يريد من ظلمي، وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو أحسن له، وقال مجاهد وغيره: هو في الضيف المحول رحله، فإنه يجهر الذي لم يكرمه بالسوء من القول، فقد رخص له أن يقول فيه: وفي هذا نزلت الآية، ومقتضاها ذكر الظلم وتبيين الظلامة في ضيافة وغيرها، وقال ابن عباس والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول.

قال القاضي رحمه الله: فهذه الأقوال على أربع مراتب:

قول الحسن دعاء في المدافعة، وتلك أقل منازل السوء من القول.

وقول ابن عباس الدعاء على الظالم بإطلاق في نوع الدعاء.

وقول مجاهد، ذكر الظلامة والظلم.

وقول السدي الانتصار بما يوازي الظلامة.

وقال ابن المستنير: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفرا أو نحوه، فذلك مباح، والآية في الإكراه، واختلف المتأولون على القراءة بفتح الضاد واللام، فقال ابن زيد: المعنى «إلا من ظلم» في قول أو في فعل، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ والرد عليه، قال: وذلك أنه لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار، كان ذلك جهرا بالسوء من القول. ثم قال لهم بعد ذلك ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [النساء: ١٤٧] الآية، على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان، ثم قال للمؤمنين: «ولا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم» في إقامته على النفاق، فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟

ونحو هذا من الأقوال، وقال قوم معنى الكلام: «ولا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول» ، ثم استثنى استثناء منقطعا، تقديره: لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك وإعراب مِنَ يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر، و «سميع عليم» : صفتان لائقتان بالجهر بالسوء وبالظلم أيضا، فإنه يعلمه ويجازي عليه، ولما ذكر تعالى عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه، أتبع ذلك عرض إبداء الخير وإخفائه، والعفو عن السوء، ثم وعد عليه بقوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وعدا خفيا تقتضيه البلاغة ورغب في العفو إذ ذكر أنها صفته مع القدرة على الانتقام، ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إلى آخر الآية. نزل في اليهود والنصارى، لأنهم في كفرهم بمحمد عليه السلام كأنهم قد كفروا بجميع الرسل. وكفرهم بالرسل كفر بالله، وفرقوا بين الله ورسله في أنهم قالوا: نحن نؤمن بالله ولا نؤمن بفلان وفلان من الأنبياء، وقولهم نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ قيل: معناه من الأنبياء، وقيل: هو تصديق بعضهم لمحمد في أنه نبي، لكن ليس إلى بني إسرائيل، ونحو هذا من تفريقاتهم التي كانت تعنتا وروغانا. وقوله بَيْنَ ذلِكَ أي بين الإيمان والإسلام والكفر الصريح المجلح، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الكافرون حقا، لئلا يظن أحد أن ذلك القدر الذي عندهم من الإيمان ينفعهم، وباقي الآية وعيد.

﴿ ١٥١