سورة الأنعام

قيل هي كلها مكية، وقال ابن عباس: نزلت بمكة ليلا جملة إلا ست آيات، وهي قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام ١٥١] وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: ٩١] وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الأنعام: ٩٣] وقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ [الأنعام: ٩٣] وقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام: ١١٤] وقوله: والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام: ٢٠] .

وقال الكلبي: الأنعام كلها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة في فنحاص اليهودي، وهي قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى [الأنعام ٩١] مع ما يرتبط بهذه الآية، وذلك أن فنحاصا قال ما أنزل الله على بشر من شيء، وقال ابن عباس: نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك لهم زجل يجارون بالتسبيح وقال كعب فاتحة التوراة فاتحة الأنعام الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى يَعْدِلُونَ، وخاتمة التوراة خاتمة هود، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: ١٢٣] وقيل خاتمتها وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلى تَكْبِيراً [الإسراء: ١١١] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأنعام من نجائب القرآن، وقال علي بن أبي طالب: من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضى ربه.

قوله عز وجل:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١

انظر تفسير الآية: ٢

٢

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)

هذا تصريح بأن الله تعالى هو الذي يستحق الحمد بأجمعه. لأن الألف واللام في الْحَمْدُ لاستغراق الجنس، فهو تعالى له الأوصاف السنية والعلم والقدرة والإحاطة والأنعام، فهو أهل للمحامد على ضروبها وله الحمد الذي يستغرق الشكر المختص بأنه على النعم، ولما ورد هذا الإخبار تبعه ذكر بعض أوصافه الموجبة للحمد، وهي الخلق «للسماوات والأرض» قوام الناس وأرزاقهم، وَالْأَرْضَ هاهنا للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها، والبادي من هذا الترتيب أن السماء خلقت من قبل الأرض، وقد حكاه الطبري عن قتادة، وليس كذلك لأن الواو لا ترتب المعاني، والذي ينبني من مجموع آي القرآن أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء فخلقها ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجَعَلَ هاهنا بمعنى خلق لا يجوز غير ذلك، وتأمل لم خصت السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ب خَلَقَ والظُّلُماتِ وَالنُّورَ ب جَعَلَ؟ وقال الطبري جَعَلَ هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها.

قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد، لأن جَعَلَ إذا كانت على هذا النحو فلا بد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال المقاربة كقولك كاد زيد يموت، «جعل» زيد يجيء ويذهب، وأما إذا لم تربط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري، وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين:

الظُّلُماتِ الليل والنُّورَ النهار، وقالت فرقة: الظُّلُماتِ الكفر والنُّورَ الإيمان.

قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برىء القرآن منه، والنُّورَ أيضا هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه.

وقوله تعالى: ثُمَّ دالة على قبح فعل الَّذِينَ كَفَرُوا لأن المعنى أن خلقه «السموات والأرض» وغيرهما قد تقرر، وآياته قد سطعت، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه ب ثُمَّ، الَّذِينَ كَفَرُوا في هذا الموضع هم كل من عبد شيئا سوى الله قال قتادة: هم أهل الشرك صراحية، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضا دون بعض فلم يصب إلا أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضا يشير إلى المانوية ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام، وقول ابن أبزى إن المراد أهل الكتاب بعيد، ويَعْدِلُونَ معناه يسوون ويمثلون، وعدل الشيء قرينه ومثيله، والمنوية مجوس، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو القدرية مجوس هذه الأمة ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقا غير الله، والقدرية تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقا غير الله تعالى عن قولهم، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول القدرية: إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده. وإنما قلنا في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم مجوسا حقيقة لم يضفهم إلى الأمة، وهذا كله ان لو صح الحديث والله الموفق.

وقوله تعالى:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ الآية قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم.. المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك قال: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وحكى المهدوي عن فرقة أنها قالت بل المعنى أن النطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها من طين ثم يقلبها الله نطفة، وذكره مكي والزهراوي، والقول الأول أليق بالشريعة لأن القول الثاني إنما يترتب على قول من يقول بأن الطين يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة، وذلك مردود عند الأصوليين، واختلف المفسرون في هذين الأجلين، فقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة والضحاك، أَجَلًا أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته، والأجل المسمى عنده من وقت موته إلى حشره، ووصفه بمسمى عنده لأنه استأثر بعلم وقت القيامة، وقال ابن عباس: أَجَلًا، الدنيا، أَجَلٌ مُسَمًّى الآخرة، وقال مجاهد: أَجَلًا، الآخرة، وَأَجَلٌ مُسَمًّى، الدنيا بعكس الذي قبله، وقال ابن عباس أيضا: أَجَلًا، وفاة الإنسان بالنوم، وَأَجَلٌ مُسَمًّى وفاته بالموت وقال ابن زيد، الأجل الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم، وبقي «أجل» واحد مسمى في هذه الحياة الدنيا، وحكى المهدوي عن فرقة أَجَلًا، ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن، وَأَجَلٌ مُسَمًّى قيام الساعة، وحكي أيضا عن فرقة أَجَلًا ما عرفناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وَأَجَلٌ مُسَمًّى الآخرة.

قال القاضي أبو محمد: رضي الله عنه. وينبغي أن تتأمل لفظة قَضى في هذه الآية فإنها تحتمل معنيين، فإن جعلت بمعنى قدر وكتب ورجعت إلى سابق علمه وقدره فيقول إن ذلك ولا بد قبل خلقه آدم من طين، وتخرج ثم من معهودها في ترتيب زمني وقوع القصتين ويبقى لها ترتيب زمني الإخبار عنه، كأنه قال:

أخبركم أنه خلقكم من طين ثم أخبركم أنه قضى أجلا، وإن جعلت قَضى بمعنى أوجد وأظهر ويرجع ذلك إلى صفة فعل فيصح أن يكون خلق آدم من طين قبل إظهار هذا الأجل وإبدائه وتكون ثم على بابها في ترتيب زمني وقوع القضيتين، وتَمْتَرُونَ معناه تشكون، والمرية الشك، وقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ على نحو قوله:

ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ في التوبيخ على سوء الفعل بعد مهلة من وضوح الحجج.

قوله عز وجل:

٣

انظر تفسير الآية: ٥

٤

انظر تفسير الآية: ٥

٥

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)

قاعدة الكلام في هذه الآية أن حلول الله تعالى في الأماكن مستحيل وكذلك مماسته للأجرام أو محاداته لها أو تحيز لا في جهة لامتناع جواز التقرب عليه تبارك وتعالى، فإذا تقرر هذا فبين أن قوله تعالى:

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ليس على حد قولنا زيد في الدار بل هو على وجه من التأويل آخر، قالت فرقة ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى، كأنه قال وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض، وعبر بعضهم بأن قدر هو الله المدبر للأمر في «السماوات وفي الأرض» ، وقال الزجاج فِي متعلقة بما تضمنه اسم الله تعالى من المعاني كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.

قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله:

وَهُوَ اللَّهُ أي الذي له هذه كلها «في السماوات وفي الأرض» كأنه وهو الخالق الرازق المحيي المحيط «في السماوات وفي الأرض» كما تقول زيد السلطان في الشام والعراق، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالا، وإذا كان مقصد قوله زيد الآمر الناهي المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق فأقمت السلطان مقام هذه كان فصيحا صحيحا، فكذلك في الآية أقام لفظة اللَّهُ مقام تلك الصفات المذكورة، وقالت فرقة وَهُوَ اللَّهُ ابتداء وخبرتم الكلام عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله فِي السَّماواتِ بمفعول يَعْلَمُ، كأنه قال «وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض» فلا يجوز مع هذا التعليق أن يكون هُوَ ضمير أمر وشأن لأنه يرفع اللَّهُ بالابتداء، ويَعْلَمُ في موضع الخبر، وقد فرق فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بين الابتداء والخبر وهو ظرف غريب من الجملة، ويلزم قائلي هذه المقالة أن تكون المخاطبة في الكاف في قوله:

سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ لجميع المخلوقين الإنس والملائكة، لأن الإنس لا سر ولا جهر لهم في السماء، فترتيب الكلام على هذا القول وهو الله يعلم يا جميع المخلوقين «سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض» ، وقالت فرقة وَهُوَ ضمير الأمر والشأن و «الله في السماوات» ابتداء وخبرتم الكلام عنده، ثم ابتدأ كأنه قال «ويعلم في الأرض سركم وجهركم» ، وهذا القول إذ قد تخلص من لزوم المخاطبة الملائكة فهو مخلص من شبهة الكون في السماء بتقدير حذف المعبود أو المدبر على ما تقدم، وقوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ خبر في ضمنه تحذير وزجر، وتَكْسِبُونَ لفظ عام لجميع الاعتقادات والأفعال والأقوال.

وقوله تعالى:

وَما تَأْتِيهِمْ الآية، ما نافية ومِنْ الأولى هي الزائدة التي تدخل على الأجناس بعد النفي، فكأنها تستغرق الجنس، ومِنْ الثانية للتبعيض، والآية العلامة والدلالة والحجة، وقد تقدم القول في وزنها في صدر الكتاب، وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم، ثم اقتضت الفاء في قوله فَقَدْ أن إعراضهم عن الآيات قد أعقب أن كذبوا بالحق وهو محمد عليه السلام وما جاء به، ثم توعدهم بأن يأتيهم عقاب استهزائهم، وما بمعنى الذي، ويصح أن تكون مصدرية، وفي الكلام حذف مضاف تقديره يأتيهم مضمن أنباء القرآن الذي كانوا به يستهزئون، وإن جعلت ما مصدرية فالتقدير يأتيهم نبأ كونهم مستهزئين، أي عقاب يخبرون أنه على ذلك الاستهزاء، وهذه العقوبات التي توعدوا بها تعم عقوبات الدنيا كبدر وغيرها وعقوبات الآخرة.

قوله عز وجل:

٦

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)

هذا حض على العبرة، والرؤية هنا رؤية القلب، وكَمْ في موضع نصب ب أَهْلَكْنا، والقرن والأمة المقترنة في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام: خير الناس قرني الحديث، واختلف الناس في مدة القرن كم هي؟ فالأكثر على أنها مائة سنة، ويرجح ذلك الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر: يريد أنها تحرم ذلك القرن، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشير: تعيش قرنا فعاش مائة سنة، وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل سبعون وقيل ستون، وتمسك هؤلاء بالمعترك وحكى النقاش أربعين وذكر الزهراوي في ذلك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى النقاش أيضا ثلاثين، وحكى عشرين، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف، وهذه طبقات وليست بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال، ويظهر ذلك من قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة عشر عاما فصاعدا، وقيل القرن الزمن نفسه، وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن، والضمير في مَكَّنَّاهُمْ عائد على القرن، والمخاطبة في لَكُمْ هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس، فكأنه قال: ما لم نمكن يا أهل العصر لكم، فهذا أبين ما فيه، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال يا محمد قل لهم: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة السَّماءَ المطر ومنه قول الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا

ومِدْراراً بناء تكثير كمذكار ومئناث، ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك وتحتمل الآية أن تراد السماء المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدرارا لا يوصف به إلا المطر، وقوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ معناه فعصوا وكفروا فَأَهْلَكْناهُمْ، وَأَنْشَأْنا اخترعنا وخلقنا، وجمع آخَرِينَ حملا على معنى القرن.

قوله عز وجل:

٧

انظر تفسير الآية: ٩

٨

انظر تفسير الآية: ٩

٩

وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)

لما أخبر عنهم عز وجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضا، والمعنى لَوْ نَزَّلْنا بمرأى منهم عليك كِتاباً أي كلاما مكتوبا فِي قِرْطاسٍ أي في صحيفة، ويقال «قرطاس» بضم القاف فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا هذا سحر مبين، ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية، يأمرني بتصديقك، وما أراني مع هذا كنت أصدقك، ثم أسلم بعد ذلك عبد الله وقتل شهيدا في الطائف، وقوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ الآية حكاية عمن تشطط من العرب بأن طلب أن ينزل ملك يصدق محمدا في نبوءته ويعلم عن الله عز وجل أنه حق، فرد الله تعالى عليهم بقوله: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ وقال مجاهد:

معناه لقامت القيامة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا ضعيف، وقال قتادة والسدي وابن عباس رضي الله عنه:

في الكلام حذف تقديره ولو «أنزلنا ملكا فكذبوا به لقضي الأمر» بعذابهم ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية وكذبت بعد أن ظهرت إليها، وهذا قول حسن، وقالت فرقة لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لماتوا من هول رؤية الملك في صورته، ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، فالأولى في قوله لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لماتوا من هول رؤيته، يُنْظَرُونَ معناه يؤخرون، والنظرة التأخير، وقوله عز وجل: وَلَوْ جَعَلْناهُ الآية المعنى أنّا لو جعلناه ملكا لجعلناه ولا بد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.

قال القاضي أبو محمد: ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي عليه السلام للمشركين، فسمعا حس الملائكة وقائلا يقول في السماء، أقدم حيزوم فمات أحدهما لهول ذلك، فكيف برؤية ملك في خلقته، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه السلام لجبريل وغيره في صورهم، لأن النبي عليه السلام أعطي قوة غير هذه كلها صلى الله عليه وسلم، وَلَلَبَسْنا أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وعلى ضعفتهم، أي لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به، وذلك لا يحسن، ويحتمل الكلام مقصدا آخر، أي «للبسنا» نحن عليهم كما «يلبسون» هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله بهم، ويقال: لبس الرجل الأمر يلبسه لبسا إذا خلطه، وقرأ ابن محيصن: «ولبّسنا» بفتح اللام وشد الباء، وذكر بعض الناس في هذه الآية: أنها نزلت في أهل الكتاب، وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب.

قوله عز وجل:

١٠

انظر تفسير الآية: ١١

١١

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)

قرىء «ولقد» بضم الدال مراعاة للضمة بعد الساكن الذي بعد الدال، وقرىء بكسر الدال على عرف الالتقاء، وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالأسوة في الرسل وتقوية لنفسه على محاجّة المشركين وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه والمستهزئين، و «حاق» معناه نزل وأحاط، وهي مخصوصة في الشر، يقال حاق يحيق حيقا ومنه قول الشاعر:

فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ... وحاق بهم من بأس ضبة حائق

وقال قوم: أصل حاق حق فبدلت القاف الواحدة كما بدلت النون في تظننت.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وما في قوله: ما كانُوا يصح أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر، كأنه قال: استهزاؤهم، وهذه كناية عن العقوبة كما تهدد إنسانا فتقول سيلحقك عملك، المعنى عاقبته، وسخروا معناه استهزؤوا.

وقوله تعالى:

قُلْ سِيرُوا الآية، حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل فعلهم، وقال كانَ ولم يقل كانت لأن تأنيث العاقبة ليس بحقيقي، وهي بمعنى الآخر والمآل، ومعنى الآية سِيرُوا وتلقوا ممن سار لأن العبرة بآثار من مضى إنما يستند إلى حس العين.

قوله عز وجل:

١٢

انظر تفسير الآية: ١٣

١٣

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)

قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف تقديره: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا، قل لله، وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له: قل لله، والصحيح أن الله عز وجل أمر محمدا عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، وجاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والوجه في المحاجّة إذا سأل الإنسان خصمه، بأمر لا يدافعه الخصم فيه، أن يسبقه بعد التقرير إليه مبادرة إلى الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العادلون بربهم لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ ثم سبقهم فقال: لِلَّهِ، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ معناه قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتضمن كتب الرحمة، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا، منها أن الله تعالى خلق مائة رحمة فوضع منها واحدة في الأرض فيها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها. وبها تتعاطف الطير والحيتان، وعنده تسع وتسعون رحمة، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده.

قال القاضي أبو محمد: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا الله بفضل منه، ومنها حديث آخر أن الله عز وجل كتب عنده كتابا فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي، ويروى: نالت غضبي، ومعناه سبقت، وأنشد عليه ثابت بن قاسم:

أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ... نالا الملوك وفككا الأغلالا

ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا، وأن باب توبتهم مفتوح، قال الزجاج: الرَّحْمَةَ هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، وحكى المهدوي: أن جماعة من النحويين قالت: إن لَيَجْمَعَنَّكُمْ هو تفسير الرَّحْمَةَ تقديره: أن يجمعكم فيكون لَيَجْمَعَنَّكُمْ في موضع نصب على البدل من الرَّحْمَةَ، وهو مثل قوله: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف: ٣٥] المعنى: أن يسجنوه.

قال القاضي أبو محمد: يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب، وهو مردود، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم، وقالت فرقة وهو الأظهر: إن اللام لام قسم والكلام مستأنف، ويتخرج ذلك في لَيَسْجُنُنَّهُ، وقالت فرقة إِلى بمعنى في وقيل على بابها غاية وهو الأرجح، ولا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه، وقوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الآية قيل إن الَّذِينَ منادى.

قال القاضي أبو محمد: وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات، وقيل: هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: هو بدل من الضمير في لَيَجْمَعَنَّكُمْ، قال المبرد: ذلك لا يجوز كما لا يجوز مررت بك زيد.

قال القاضي أبو محمد: وقوله في الآية لَيَجْمَعَنَّكُمْ مخالف لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال الَّذِينَ من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب هنا، وخصوا على جهة الوعيد، ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح، ويجيء هذا بدل البعض من الكل، وقال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وهذا قول حسن، والفاء في قوله: فَهُمْ جواب على القول بأن الَّذِينَ رفع بالابتداء لأن معنى الشرط حاصل تقديره، من خسر نفسه فهو لا يؤمن، وعلى القول بأن الَّذِينَ بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة، وخَسِرُوا معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه، ومنه قول الشاعر [الأعشى] : [السريع]

لا يأخذ الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر

وقوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ الآية وَلَهُ عطف على قوله لِلَّهِ واللام للملك، وما بمعنى الذي، وسَكَنَ هي من السكنى ونحوه أي ما ثبت وتقرر، قاله السدي وغيره وقالت فرقة: هو من السكون، وقال بعضهم: لأن الساكن من الأشياء أكثر من المتحرك إلى غير هذا من القول الذي هو تخليط، والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا أن يكون سَكَنَ بمعنى استقر وثبت وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن، ألا ترى إلى الفلك والشمس والقمر والنجوم السابحة والملائكة وأنواع الحيوان والليل والنهار حاصران للزمان وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هاتان صفتان تليقان بنمط الآية من قبل أن ما ذكر قبل من الأقوال الردية عن الكفرة العادلين هو سميع لهم عليم بمواقعها مجاز عليها، ففي الضمير وعيد.

قوله عز وجل:

١٤

انظر تفسير الآية: ١٦

١٥

انظر تفسير الآية: ١٦

١٦

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)

قال الطبري وغيره: أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يحتاج إلى سند في أن هذا نزل جوابا وإلا فظاهر الآية لا يتضمنه، والفصيح هو أنه لما قرر معهم أن الله تعالى له ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ١٢] وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: ١٣] وأنه سميع عليم أمر أن يقول لهم على جهة التوبيخ والتوقيف أَغَيْرَ هذا الذي هذه صفاته أَتَّخِذُ وَلِيًّا بمعنى أن هذا خطأ لو فعلته بين. وتعطي قوة الكلام أن من فعله من سائر الناس بين الخطأ، وأَتَّخِذُ عامل في قوله أَغَيْرَ وفي قوله: وَلِيًّا تقدم أحد المفعولين، والولي لفظ عام لمعبود وغير ذلك من الأسباب الواصلة بين العبد وربه، ثم أخذ في صفات الله تعالى فقال: فاطِرِ بخفض الراء نعت لله تعالى، وفطر معناه ابتدع وخلق وأنشأ وفطر أيضا في اللغة: شق، ومنه هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: ٣] أي من شقوق، ومن هذا انفطار السماء، وفي هذه الجهة يتمكن قولهم فطر ناب البعير إذا خرج لأنه يشق اللثة، وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى فاطِرِ السَّماواتِ حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها.

قال القاضي أبو محمد: فحمله ابن عباس على هذه الجهة، ويصح حمله، على الجهة الأخرى أنه شق الأرض والبئر حين احتفرها، وقرأ ابن أبي عبلة: «فاطر» برفع الراء على خبر ابتداء مضمر أو على الابتداء يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ المقصود به يرزق ولا يرزق، وخص الإطعام من أنواع الرزق لمسّ الحاجة إليه وشهرته واختصاصه بالإنسان، وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة «يطعم» بضم الياء وكسر العين في الثاني مثل الأول يعني الوثن أنه لا يطعم وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه في الثاني «ولا يطعم» بفتح الياء على مستقبل طعم فهي صفة تتضمن التبرية أي لا يأكل ولا يشبه المخلوقين، وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ إلى عَظِيمٍ قال المفسرون: المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك، قال طائفة: في الكلام حذف تقديره: وقيل لي ولا تكونن من الممترين.

قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا أنه عليه السلام أمر فقيل له كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين فلما أمر في الآية أن يقول ما أمر به جاء بعض ذلك على المعنى وبعضه باللفظ بعينه ولفظة عَصَيْتُ عامة في أنواع المعاصي، ولكنها هاهنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهي عنه، واليوم العظيم هو يوم القيامة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «من يصرف عنه» بضم الياء وفتح الراء، والمفعول الذي أسند إليه الفعل هو الضمير العائد على العذاب فهو مقدر، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم أيضا: «من يصرف عنه» فيسند الفعل إلى الضمير العائد إلى رَبِّي ويعمل في ضمير العذاب المذكور آنفا لكنه مفعول محذوف وحكي أنه ظهر في قراءة عبد الله وهي «من يصرفه عنه يومئذ» ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «من يصرفه الله عنه» وقيل: إنها من يصرف الله عنه، قال أبو علي وحذف هذا الضمير لا يحسن كما يحسن حذف الضمير من الصلة كقوله عز وجل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: ٤١] وكقوله: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: ٥٩] معناه بعثه واصطفاهم فحسن هذا للطول كما علله سيبويه، ولا يحسن هذا لعدم الصلة، قال بعض الناس القراءة بفتح الياء «من يصرف» أحسن لأنه يناسب فَقَدْ رَحِمَهُ وكان الأولى على القراءة الأخرى «فقد رحم» ليتناسب الفعلان.

قال القاضي أبو محمد: وهذا توجيه لفظي تعلقه خفيف، وأما بالمعنى فالقراءتان واحد، ورجح قوم قراءة ضم الياء لأنها أقل إضمارا، وأشار أبو علي إلى تحسين القراءة بفتح الياء بما ذكرناه، وأما مكي بن أبي طالب رحمه الله فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء، ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة والله ولي التوفيق، ورحم عامل في الضمير المتصل وهو ضمير من ومستند إلى الضمير العائد إلى ربي، وقوله: وَذلِكَ إشارة إلى صرف العذاب وإلى الرحمة، والفوز والنجاة.

قوله عز وجل:

١٧

انظر تفسير الآية: ١٨

١٨

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)

يَمْسَسْكَ معناه يصبك وينلك، وحقيقة المس هي بتلافي جسمين فكأن الإنسان والضر يتماسان، و «الضّر» بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره، «والضّر» بفتح الضاد ضد النفع، وناب الضر في هذه الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه فقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة، فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: ١١٨، ١١٩] فجعل الجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]

كأنّي لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

وهذا كثير، قال السدي «الضر» هاهنا المرض والخير العافية.

قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال ومعنى الآية الإخبار عن أن الأشياء كلها بيد الله إن ضر فلا كاشف لضره غيره وإن أصاب بخير فكذلك أيضا لا راد له ولا مانع منه، هذا تقرير الكلام، ولكن وضع بدل هذا المقدر لفظا أعم منه يستوعبه وغيره، وهو قوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ودل ظاهر الكلام على المقدر فيه، وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم أي على كل شيء جائز أن يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، وقوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ الآية، أي وهو عز وجل المستولي المقتدر، وفَوْقَ نصب على الظرف لا في المكان بل في المعنى الذي تضمنه لفظ القاهر، كما تقول زيد فوق عمرو في المنزلة، وحقيقة فوق في الأماكن، وهي في المعاني مستعارة شبه بها من هو رافع رتبة في معنى ما، لما كانت في الأماكن تنبىء حقيقة عن الأرفع وحكى المهدوي: أنها بتقدير الحال، كأنه قال: وهو القاهر غالبا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يسلم من الاعتراض أيضا والأول عندي أصوب: و «العباد» بمعنى العبيد وهما جمعان للعبد أما أنا نجد ورود لفظة العباد في القرآن وغيره في مواضع تفخيم أو ترفيع أو كرامة، وورود لفظة العبيد في تحقير أو استضعاف أو قصد ذم، ألا ترى قول امرئ القيس: [السريع]

قولا لدودان عبيد العصا ولا يستقيم أن يقال هنا عباد العصا وكذلك الذين سموا العباد لا يستقيم أن يقال لهم العبيد لأنهم أفخم من ذلك، وكذلك قول حمزة رضي الله عنه وهل أنتم إلا عبيد لأبي، لا يستقيم فيه عباد، والْحَكِيمُ بمعنى المحكم، والْخَبِيرُ دالة على مبالغة العلم، وهما وصفان مناسبان لنمط الآية.

قوله عز وجل:

١٩

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)

أَيُّ استفهام، وهي معربة مع إبهامها، وإنما كان ذلك لأنها تلتزم الإضافة ولأنها تتضمن علم جزء من المستفهم عنه غير معين، لأنك إذا قلت أي الرجلين جاءنا فقد كنت تعلم أن أحدهما جاء غير معين فأخرجها هذان الوجهان عن غمرة الإبهام فأعربت، وتتضمن هذه الآية أن الله عز وجل يقال عليه شَيْءٍ كما يقال عليه موجود، ولكن ليس كمثله تبارك وتعالى شيء، وشَهادَةً نصب على التمييز ويصح على المفعول بأن يحمل أَكْبَرُ على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذه الآية مثل قوله تعالى قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الأنعام: ١٢] في أن استفهم على جهة التوقيف والتقدير ثم بادر إلى الجواب إذ لا تتصور فيه مدافعة، وهذا كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر من في البلد ثم تبادر وتقول السلطان فهو يحول بيننا، ونحو هذا من الأمثلة، فتقدير الآية أنه قال لهم أي شيء أكبر شهادة الله أكبر شهادة، فهو شهيد بيني وبينكم، ف اللَّهُ رفع بالابتداء وخبره مضمر يدل عليه ظاهر الكلام كما قدرناه، وشَهِيدٌ خبر ابتداء مضمر.

وقال مجاهد المعنى أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام: قل لهم: أي شيء أكبر شهادة؟ وقل لهم:

الله شهيد بيني وبينكم لما عيوا عن الجواب، ف شَهِيدٌ على هذا التأويل خبر لله وليس في هذا التأويل مبادرة من السائل إلى الجواب المراد بقوله: شَهِيدٌ، بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي في تبليغي، وقرأت فرقة: «وأوحى إليّ هذا القرآن» على الفعل الماضي ونصب القرآن وفي «أوحى» ضمير عائد على الله تعالى من قوله قُلِ اللَّهُ، وقرأت فرقة «وأوحي» على بناء الفعل للمفعول «القرآن» رفعا، لِأُنْذِرَكُمْ معناه لأخوفكم به العقاب والآخرة، وَمَنْ عطف على الكاف والميم في قوله: لِأُنْذِرَكُمْ وبَلَغَ معناه على قول الجمهور بلاغ القرآن، أي لأنذركم وأنذر من بلغه، ففي بلغ ضمير محذوف لأنه في صلة من، فحذف لطول الكلام، وقالت فرقة ومن بلغ الحكم، ففي بَلَغَ على هذا التأويل ضمير مقدر راجع إلى مَنْ، وروي في معنى التأويل الأول أحاديث، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية، فإنه من بلغ آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله تعالى أخذه أو تركه» ، ونحو هذا من الأحاديث كقوله «من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره» ، وقرأت فرقة «أأينكم» بزيادة ألف بين الهمزة الأولى والثانية المسهلة عاملة بعد التسهيل العاملة قبل التسهيل وقرأت فرقة «أينكم» بهمزتين الثانية مسهلة دون ألف بينهما، وقرأت فرقة «أإنكم» استثقلت اجتماع الهمزتين فزادت ألفا بين الهمزتين، وقرأت فرقة «أنكم» بالإيجاب دون تقدير وهذه الآية مقصدها التوبيخ وتسفيه الرأي. وأُخْرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل تجري في الإفراد مجرى الواحدة المؤنثة كقوله: مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] وكذلك مخاطبته جمع ما لا يعقل كقوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ ونحو هذا، ولما كانت هذه الآلهة حجارة وعيدانا أجريت هذا المجرى ثم أمره الله تعالى أن يعلن بالتبري من شهادتهم. والإعلان بالتوحيد لله عز وجل والتبري من إشراكهم، وَإِنَّنِي إيجاب ألحقت فيه النون التي تلحق الفعل لتبقى حركته عند اتصال الضمير به في قولك ضربني ونحوه، وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم يثبت صحته أنها نزلت في قوم من اليهود، وأسند إلى ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد وفردم بن كعب وبحري بن عمرو، فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال لهم: لا إله إلا الله بذلك أمرت، فنزلت الآية فيهم.

قوله عز وجل:

٢٠

انظر تفسير الآية: ٢١

٢١

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)

الَّذِينَ رفع بالابتداء وخبره يَعْرِفُونَهُ والْكِتابَ معناه التوراة والإنجيل وهو لفظ مفرد يدل على الجنس، والضمير في يَعْرِفُونَهُ عائد في بعض الأقوال على التوحيد لقرب قوله: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الأنعام: ١٩] وهذا استشهاد في ذلك على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب، والَّذِينَ خَسِرُوا على هذا التأويل منقطع مرفوع بالابتداء وليس من صفة الَّذِينَ الأولى، لأنه لا يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويذمون في آية واحدة.

قال القاضي أبو محمد: وقد يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه، وأن الذم والاستشهاد ليس من جهة واحدة، وقال قتادة والسدي وابن جريج: الضمير عائد في يَعْرِفُونَهُ على محمد عليه السلام ورسالته، وذلك على ما في قوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ [الأنعام: ١٩] فكأنه قال وأهل الكتاب يعرفون ذلك من إنذاري والوحي إليّ، وتأول هذا التأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يدل على ذلك قوله لعبد الله بن سلام إن الله أنزل على نبيه بمكة أنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة فقال عبد الله بن سلام نعم أعرفه الصفة التي وصفه الله في التوراة فلا أشك فيه، وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه.

قال القاضي أبو محمد: وتأول ابن سلام رضي الله عنه المعرفة بالابن تحقق صحة نسبه، وغرض الآية إنما هو الوقوف على صورته فلا يخطىء الأب فيها، وقالت فرقة: الضمير من يَعْرِفُونَهُ عائد على القرآن المذكور قبل.

قال القاضي أبو محمد: ويصح أن تعيد الضمير على هذه كلها دون اختصاص، كأنه وصف أشياء كثيرة، ثم قال: أهل الكتاب يَعْرِفُونَهُ أي ما قلنا وما قصصنا وقوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا الآية، يصح أن يكون الَّذِينَ نعتا تابعا ل الَّذِينَ قبله، والفاء من قوله فَهُمْ عاطفة جملة على جملة، وهذا يحسن على تأويل من رأى في الآية قبلها أن أهل الكتاب متوعدون مذمومون لا مستشهد بهم، ويصح أن يكون الَّذِينَ رفعا بالابتداء على استئناف الكلام، وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء على هذا جواب، وخَسِرُوا معناه غبنوها، وقد تقدم، وروي أن كل عبد له منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار فهاهنا هي الخسارة بينة والربح الآخرين، وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ الآية مَنْ استفهام مضمنه التوقيف والتقرير، أي لا أحد أظلم ممن افترى، وافْتَرى معناه اختلق، والمكذب بالآيات مفتري كذب، ولكنهما منحيان من الكفر، فلذلك نصا مفسرين، و «الآيات» العلامات والمعجزات ونحو ذلك، ثم أوجب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والفلاح بلوغ الأمل والإرادة والنجاح، ومنه قول عبيد: [الرجز]

أفلح بما شئت فقد تبلغ بالض ... ضعف وقد يخدع الأريب

قوله عز وجل:

٢٢

انظر تفسير الآية: ٢٤

٢٣

انظر تفسير الآية: ٢٤

٢٤

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)

قالت فرقة: لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: ٢١] كلام تام معناه لا يفلحون جملة، ثم استأنف فقال: واذكر يوم نحشرهم، وقال الطبري المعنى لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ عطفا على الظرف المقدر والكلام متصل، وقرأت طائفة «نحشرهم» و «نقول» بالنون، وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء، وقرأ عاصم هنا وفي يونس قبل الثلاثين «نحشرهم ونقول» بالنون، وقرأ في باقي القرآن بالياء، وقرأ أبو هريرة «نحشرهم» بكسر الشين فيجيء الفعل على هذا حشر يحشر ويحشر، وأضاف الشركاء إليهم لأنه لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم لهذه النسبة وتَزْعُمُونَ معناه تدعون أنهم لله، والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم، وقد يقال زعم بمعنى ذكر دون ميل إلى الكذب، وعلى هذا الحد يقول سيبويه زعم الخليل ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله، وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا الآية قرأ ابن كثير في رواية شبل عنه وعاصم في رواية حفص وابن عامر «تكن فتنتهم» برفع الفتنة وإِلَّا أَنْ قالُوا في موضع نصب على الخبر التقدير إلا قولهم، وهذا مستقيم لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث وهي الفتنة، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير أيضا «تكن فتنتهم» بنصب الفتنة، واسم كان أَنْ قالُوا، وفي هذه القراءة تأنيث أَنْ قالُوا وساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى، قال أبو علي وهذا كقوله تعالى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] فأنث الأمثال لما كانت الحسنات بالمعنى وقرأ حمزة والكسائي «يكن» بالياء «فتنتهم» بالنصب واسم كان إِلَّا أَنْ قالُوا وهذا مستقيم لأنه ذكر علامة الفعل حين أسنده إلى مذكر، قال الزهراوي وقرأت فرقة «يكن فتنتهم» برفع الفتنة، وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكر العلامة إلى مؤنث، وجاء ذلك بالمعنى لأن الفتنة بمعنى الاختبار أو المودة في الشيء والإعجاب وقرأ أبي بن وكيع وابن مسعود والأعمش «وما كان فتنتهم» ، وقرأ طلحة بن مصرف، «ثم كان فتنتهم» والفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول فتنت بكذا، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبري منها والإنكار لها، وهذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته، ويقال الفتنة في كلام العرب بمعنى الاختبار، كما قال عز وجل لموسى عليه السلام: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: ٤٠] ، وكقوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا [ص: ٣٤] وتحتمل الآية هاهنا هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار، فالمعنى ثم لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر، إلا إنكارهم الإشراك، وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ثم يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له كقول ذي الرمة: [الطويل] ولفّ الثّريّا في ملاءته الفجر ونحوه، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله «ربّنا» خفض على النعت لاسم الله، وقرأ حمزة والكسائي «ربّنا» نصب على النداء. ويجوز فيه تقدير المدح، وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين «والله ربّنا» برفع الاسمين وهذا على تقدير تقديم وتأخير كأنهم قالوا ما كنا مشركين والله ربنا، وما كُنَّا مُشْرِكِينَ معناه جحود إشراكهم في الدنيا، فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان. وأتى رجل ابن عباس فقال: سمعت الله يقول: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وفي أخرى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: ٤٢]

فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد، وقالوا ما كنا مشركين فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا.

قال القاضي أبو محمد: وعبد بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا معذرتهم، قاله قتادة، وقال آخرون كلامهم قاله الضحاك، وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه، وقوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام والنظر نظر القلب، وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هي حكاية يوم القيامة فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا ما في الفعل وإثباتا له، وهذا مهيع في اللغة، ومنه قول الربيع بن ضبع الفزاري: [المنسرح]

أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا

يريد أن ينفر وَضَلَّ عَنْهُمْ معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم لله تبارك وتعالى الشركاء.

قوله عز وجل:

٢٥

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)

الضمير في قوله وَمِنْهُمْ عائد على الكفار الذين تضمنهم قبل قوله يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [الأنعام: ٢٢] وأفرد يَسْتَمِعُ وهو فعل جماعة حملا على لفظ مَنْ وأَكِنَّةً جمع كنان وهو الغطاء الجامع، ومنه كنانة السهام والكنّ، ومنه قوله تعالى: بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: ٤٩] ومنه قول الشاعر:

[الطويل]

إذا ما انتضوها في الوغى من أكنّة ... حسبت بروق الغيث هاجت غيومها

وفعال وأفعلة مهيع في كلامهم وأَنْ يَفْقَهُوهُ نصب على المفعول من أجله أي كراهية أن يفهموه، وقيل المعنى أن لا يفقهوه، ويلزم هذا القول إضمار حرف النفي، ويَفْقَهُوهُ معناه يفهموه، ويقال فقه الرجل بكسر القاف إذا فهم الشيء وفقه بضمها: إذا صار فقيها له ملكة، وفقه إذا غلب في الفقه غيره، والوقر: الثقل في السمع، يقال وقرت أذنه ووقرت بكسر القاف وفتحها، ومنه قول الشاعر: [الرمل]

وكلام سيّء قد وقرت ... أذني وما بي من صمم

وقد سمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت، وقرأ طلحة بن مصرف: «وقرا» بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل وهي قراءة شاذة، وهذا عبارة عما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير لا أنهم لم يكونوا سامعين لأقواله، وقوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ الآية، الرؤية هنا الرؤية العين يريد كانشقاق القمر وشبهه.

قال القاضي أبو محمد: ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة والواو في قوله وَجَعَلْنا واو الحال والباب أن يصرح معها بقد، وقد تجيء أحيانا مقدرة، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال ومن هؤلاء الكفرة من يستمعك وهو من الغباوة في حد قلبه في كنان وأذنه صماء وهو يرى الآيات فلا يؤمن بها لكنه مع بلوغه الغاية من هذه القصور إذا جاء للمجادلة قابل بدعوى مجردة. والمجادلة المقابلة في الاحتجاج مأخوذ من الجدل، وهذا في قولهم إشارة إلى القرآن، والأساطير جمع أسطار كأقوال وأقاويل ونحوه، وأسطار جمع سطر وسطر، وقيل الأساطير جمع أسطارة وهي النزهات، وقيل جمع أسطورة كأعجوبة وأضحوكة، وقيل هو اسم جمع لا واحد من لفظه كعبابيد وشماميط والمعنى أخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وأبي عبد الله بن أبي أمية عن رستم والسندباد، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور الله بأفواههم المبطلة، وقد ذكر الطبري عن ابن عباس أنه مثل من ذلك قولهم: إنكم أيها المتبعون محمدا تأكلون ما قتلتم بذبحكم ولا تأكلون ما قتل الله، ونحو هذا من التخليط الذي لا تتركب منه حجة.

قال القاضي أبو محمد: وهذا جدال في حكم، والذي في الآية إنما هو جدال في مدافعة القرآن، فلا تتفسر الآية عندي بأمر الذبح.

قوله عز وجل:

٢٦

انظر تفسير الآية: ٢٧

٢٧

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)

الضمير في قوله: وَهُمْ عائد على المذكورين قبل، والضمير في عَنْهُ قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك هو عائد على محمد عليه السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم و «النأي» البعد، وَإِنْ يُهْلِكُونَ معناه ما يهلكون إلا أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم، وقال ابن عباس أيضا والقاسم وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدوام في الكفر، والمعنى وهم ينهون عنه من يريد إذايته وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ بإيمانهم واتباعهم فهم يفعلون الشيء وخلافه، ويقلق على هذا القول رد قوله وَهُمْ على جماعة الكفار المتقدم ذكرها، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم.

قال القاضي أبو محمد: ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على الكفر، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة، لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم، كما تقول إذا شنعت على جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا، فكأنه قال: من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون به، أي: منهم من يفعل ذلك، وَما يَشْعُرُونَ معناه: ما يعلمون علم حسّ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان، والشعار مأخوذ من الشعر، ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات.

قال القاضي أبو محمد: وقرأ الحسن «وينون عنه» ألقيت حركة الهمزة على النون على التسهيل القياسي، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ الآية المخاطبة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجواب لَوْ محذوف، تقديره في آخر هذه الآية لرأيت هولا أو مشقات أو نحو هذا، وحذف جوابها في مثل هذا أبلغ لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله، ووقعت إِذْ في موضع إذا التي هي لما يستقبل وجاز ذلك لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه كما يعبر عن الماضي الوقوع، ووُقِفُوا معناه: حبسوا، ولفظ هذا الفعل متعديا وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا ووقفت غيري، وقال الزهراوي: وقد فرق بينهما بالمصدر ففي المتعدي وقفته وقفا وفي غير المتعدي وقفت وقوفا، قال أبو عمرو بن العلاء: لم أسمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلانا إلا أني لو لقيت رجلا واقفا فقلت له ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسنا، ويحتمل قوله:

وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أن يكون دخلوها، فكان وقوفهم عليها أي فيها، قاله الطبري، ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «ولا نكذب» و «نكون» بالرفع في كلها، وذلك على نية الاستئناف والقطع في قوله «ولا نكذب ونكون» أي يا ليتنا نرد ونحن على كل حال لا نكذب ونكون، فأخبروا أنفسهم بهذا ولهذا الإخبار صح تكذيبهم بعد هذا، ورجح هذا سيبويه ومثله بقولك دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود على كل حال، ويخرج ذلك على قول آخر وهو أن يكون «ولا نكذب ونكون» داخلا في التمني على حد ما دخلت فيه نرد، كأنهم قالوا: يا ليتنا نرد وليتنا لا نكذب وليتنا نكون، ويعترض هذا التأويل بأن من تمنى شيئا لا يقال إنه كاذب وإنما يكذب من أخبر.

قال القاضي أبو محمد: وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يكون قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: ٢٨] حكاية عن حالهم في الدنيا كلاما مقطوعا مما قبله وبوجه آخر وهو أن المتمني إذا كانت سجيته وطريقته مخالفة لما تمنى بعيدة منه يصح أن يقال له كذبت على تجوز، وذلك أن من تمنى شيئا فتمنيه يتضمن إخبارا أن تلك الأمنية تصلح له ويصلح لها فيقع التكذيب في ذلك الإخبار الذي يتضمنه التمني، ومثال ذلك أن يقول رجل شرير ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل فجائز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لهذا ولا يصلح لك، وروي عن أبي عمرو: أنه أدغم باء «نكذب في الباء التي بعدها، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص «ولا نكذب ونكون» بنصب الفعلين، وذلك كما تنصب الفاء في جواب التمني، فالواو في ذلك والفاء بمنزلة، وهذا تقدير ذكر مصدر الفعل الأول كأنهم قالوا يا ليتنا كان لنا رد وعدم تكذيب وكون من المؤمنين، وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر «ولا نكذب» بالرفع «ونكون» بالنصب، ويتوجه ذلك على ما تقدم في مصحف عبد الله بن مسعود «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون» بالفاء، وفي قراءة أبي بن كعب «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا أبدا ونكون» ، وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي «بآيات ربنا ونحن نكون» ، وقوله نُرَدُّ في هذه الأقوال كلها معناه: إلى الدنيا، وحكى الطبري تأويلا آخر وهو يا ليتنا نرد إلى الآخرة أي نبعث ونوقف على النار التي وقفنا عليها مكذبين ليت ذلك ونحن في حالة لا نكذب ونكون، فالمعنى يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين.

قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يضعف من غير وجه ويبطله قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: ٢٨] ولا يصح أيضا التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى. وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات.

قوله عز وجل:

٢٨

انظر تفسير الآية: ٣٠

٢٩

انظر تفسير الآية: ٣٠

٣٠

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)

الضمير في لَهُمْ عائد على من ذكر في قوله: وُقِفُوا وفَقالُوا [الأنعام: ٢٧] وهذا الكلام يتضمن أنهم كانُوا يُخْفُونَ شيئا ما في الدنيا فظهر لهم يوم القيامة أو ظهر لهم وباله وعاقبته، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وحكى الزهراوي عن فرقة أنها قالت: الآية في المنافقين لأنهم كانوا «يخفون» الكفر فبدا لهم وباله يوم القيامة.

قال القاضي أبو محمد: وتقلق العبارة على هذا التأويل لأنه قال وُقِفُوا يريد جماعة كفار ثم قال بَدا لَهُمْ يريد المنافقين من أولئك الكفار، والكلام لا يعطي هذا إلا على تحامل، قال الزهراوي: وقيل إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر به أتباعهم فظهر لهم ذلك يوم القيامة.

قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه والتعظيم لما شقوا به، فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك، فكيف الظن على هذا بما كانوا يعلنون من كفر ونحوه، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: ٩] ويصح أن يقدر الشيء الذي كانوا يخفونه في الدنيا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأقواله، وذلك أنهم كانوا «يخفون» ذلك في الدنيا بأن يحقروه عند من يرد عليهم ويصفوه بغير صفته ويتلقوا الناس على الطرق فيقولون لهم هو ساحر هو يفرق بين الأقارب، يريدون بذلك إخفاء أمره وإبطاله، فمعنى هذه الآية على هذا، بل بدا لهم يوم القيامة أمرك وصدقك وتحذيرك وإخبارك بعقاب من كفر الذي كانوا يخفونه في الدنيا، ويكون الإخفاء على ما وصفناه، وقال الزجاج المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة «يخفون» من البعث.

قال القاضي أبو محمد: فالضميران على هذا ليسا لشيء واحد، وحكى المهدوي عن الحسن نحو هذا، وقرأ يحيى بن وثاب والنخعي والأعمش «ولو ردوا» بكسر الراء على نقل حركة الدال من رددوا إليها، وقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد، وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه، فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه، وقوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ إما أن يكون متصلا بالكلام ويكون التكذيب في إخبارهم على معنى أن الأمر في نفسه بخلاف ما قصدوا لأنهم قصدوا الكذب، أو يكون التكذيب في التمني على التجوز الذي ذكرناه، وإما أن يكون منقطعا إخبارا مستأنفا عما هم عليه في وقت مخاطبة النبي عليه السلام، والأول أصوب وقوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الآية، هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام وإخبار عنهم بهذه المقالة، ويحسن مع هذا أن يكون قوله قبل وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مستأنفا مقطوعا خبرا عن حالهم في الدنيا التي من قولهم فيها إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وغير ذلك، وإِنْ نافية، ومعنى الآية التكذيب بالحشر والعودة إلى الله، وقال ابن زيد قوله وَقالُوا معطوف على قوله لَعادُوا أي لَعادُوا لما نهوا عنه من الكفر وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا.

قال القاضي أبو محمد: وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ يرد على هذا التأويل وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا الآية، بمعنى ولو ترى إذ وقفوا كما تقدم آنفا من حذف جواب لَوْ وقوله: عَلى رَبِّهِمْ معناه على حكمه وأمره، ففي الكلام ولا بد حذف مضاف، وقوله: هذا إشارة إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا، وبَلى هي التي تقتضي الإقرار بما استفهم عنه منفيا ولا تقتضي نفيه وجحده ونعم تصلح للإقرار به، كما ورد ذلك في قول الأنصار للنبي عليه السلام حين عاتبهم في الحظيرة عقب غزوة حنين وتصلح أيضا نعم لجحده، فلذلك لا تستعمل وأما قول الزجاج وغيره: إنها إنما تقتضي جحده وأنهم لو قالوا نعم عند قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لكفروا فقول خطأ والله المستعان، وقولهم: بلى وربك إيمان، ولكنه حين لا ينفع، وقوله: فَذُوقُوا استعارة بليغة، والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي من أشد المباشرات.

قوله عز وجل:

٣١

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)

هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا، وقوله: بِلِقاءِ اللَّهِ معناه: بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها، والسَّاعَةُ يوم القيامة، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها، وأيضا فقد تضمنها قوله تعالى: بِلِقاءِ اللَّهِ وبغتة معناه فجأة، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر:

ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة ... وأفظع شيء حين يفجأك البغت

ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول: قتلته صبرا، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه، ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضا بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل، ونحو هذا، وفَرَّطْنا معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير، وهذه حقيقة التفريط، والضمير في قوله فِيها عائد على السَّاعَةُ أي في التقدمة لها، وهذا قول الحسن، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية، ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار، وعوده على السَّاعَةُ إنما معناه في أمورها والاستعداد لها، بمنزلة زيد في العلم مشتغل.

وقوله تعالى:

وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ الآية، الواو واو الحال، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب، تقول منه وزر يزر إذا حمل، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] وتقول وزر الرجل فهو موزور، قال أبو عبيد والعامة مازور، وأما إذا اقترن ذلك بما جوز فإن العرب تقول مأزور، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء لقيهن مقبلات من المقابر: ارجعن مأزورات غير مأجورات قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبرا أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول له طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم، قال فيحمله تمثال العمل، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره، وقوله تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب، وقوله ألا هل بلغت، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه أَلا، وأما ساءَ ما يَزِرُونَ فهو خبر مجرد كقول الشاعر: [البسيط]

رضيت خطّة خسف غير طائلة ... فساء هذا رضى يا قيس غيلانا

وساءَ فعل ماض وما فاعلة به كما تقول ساءني أمر كذا، ويحتمل أن تجري ساءَ هنا مجرى بئس، ويقدر لها ما يقدر ل «بئس» إذ قد جاء في كتاب الله ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الأعراف: ١٧٧] .

قوله عز وجل:

٣٢

انظر تفسير الآية: ٣٣

٣٣

وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)

هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى: أنها إذا كانت فانية منقضية لا طائل لها أشبهت اللعب واللهو الذي لا طائل له إذا تقضى، وقرأ السنة من القراء «وللدار» بلامين والْآخِرَةُ نعت للدار، وقرأ ابن عامر وحده «ولدار» بلام واحدة، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وهذا نحو مسجد الجامع أي مسجد اليوم الجامع، فكذلك هذا ولدار الحياة الآخرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يعقلون» على إرادة الغائب، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «تعقلون» على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف فأما أَفَلا يَعْقِلُونَ في يس [الآية: ٦٨] فقرأه نافع وابن ذكوان: بتاء والباقون بياء، وهذه الآية تتضمن الرد على قولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: ٢٩] وهو المقصود بها، ويصح أن يكون قوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ على معنى فقل لهم يا محمد إذ الحال على هذه الصفة أَفَلا تَعْقِلُونَ.

وقوله تعالى:

قَدْ نَعْلَمُ الآية، قَدْ الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدرا عنده فإذا كان الفعل خالصا للاستقبال كان التوقع من المتكلم، كقولك قد يقوم زيد وقد ينزل المطر في شهر كذا إذا كان الفعل ماضيا أو فعل حال بمعنى المضي مثل آيتنا هذه، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم موجب ما أخبر به، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم بأحد المتوقعين، ونَعْلَمُ تتضمن إذا كانت من الله تعالى استمرار العلم وقدمه، فهي تعم المضي والحال والاستقبال، ودخلت «إن» للمبالغة في التأكيد، وقرأ نافع وحده «ليحزنك» من أحزن، وقرأ الباقون «ليحزنك» من حزن الرجل، وقرأ أبو رجاء «ليحزنك» بكسر اللام والزاي وجزم النون، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة «يحزنك» بغير لام، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي يحزن حزنا وحزنا وحزنته أنا، وحكي عن الخليل أن قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته، ولكنه بمعنى جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته ودهنته، قال الخليل ولو أردت تغيير حزن لقلت أحزنته، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب خباة العرب أحزنت الرجل، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر استعمالا عندهم من أحزنته، فمن قرأ «ليحزنك» بضم الياء فهو على القياس في التغيير، ومن قرأ «ليحزنك» بفتح الياء وضم الزاي فهو على كثرة الاستعمال، والَّذِي يَقُولُونَ لفظ يعم جميع أقوالهم التي تتضمن الرد على النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته، كقول بعضهم إنه كذاب، مفتر، ساحر، وقول بعضهم إنه مجنون مسحور، وقول بعضهم به رئي من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة لا يُكَذِّبُونَكَ بتشديد الدال وفتح الكاف، وقرأها ابن عباس وردها على قارئ عليه «يكذبونك» بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأمين، وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال، وقرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، واختلف المتأولون في معناهما فقالت فرقة: هما بمعنى واحد كما تقول:

سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت، وحكى الكسائي أن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، وتقول العرب أيضا أكذبت الرجل إذا وجدته كذابا كما تقول أحمدته إذا وجدته محمودا، فالمعنى على قراءة من قرأ «يكذّبونك» بتشديد الذال أي لا تحزن «فإنهم لا يكذبونك» تكذيبا يضرك إذ لست بكاذب في حقيقتك، فتكذيبهم كلا تكذيب، ويحتمل أن يريد: «فإنهم لا يكذبونك» على جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عنادا منهم وظلما، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة التي حكى عنها أنها كانت تقول: إنا لنعلم أن محمدا صادق ولكن إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبدا، رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه، وحكى النقاش أن الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس والمعنى على قراءة من قرأ «يكذبونك» بتخفيف الذال يحتمل ما ذكرناه أولا في «يكذبونك» أي لا يجدونك كاذبا في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في «يكذّبونك» بشد الذال، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويَجْحَدُونَ حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة وهو ضد الإقرار، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما، وعلى قول من رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظا عليهم وتقبيحا لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يعلمها ويقربها.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وجميع ما في هذه التأويلات من نفي التكذيب إنما هو عن اعتقادهم، وأما أقوال جميعهم فمكذبة، إما له وإما للذي جاء به.

قال القاضي أبو محمد: وكفر العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر وظواهر القرآن تعطيه، كقوله:

وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] وغيرها، وذهب بعض المتكلمين إلى المنع من جوازه، وذهبوا إلى أن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر، ولا سبيل إلى اجتماعهما، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا في قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها [النمل: ١٤] إنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم وغيرها.

قال القاضي أبو محمد: ودفع ما يتصور العقل ويعقل من جواز كفر العناد على هذه الطريقة صعب أما أن كفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد لأنه لا داعية إلى كفر العناد إلا الحسد ومن عرف الله والنبوة وأن محمدا يجيئه ملك من السماء فلا سبيل إلى بقاء الحسد مع ذلك، أما أنه جائز فقد رأى أبو جهل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فحلا عظيما من الإبل قد همّ بأبي جهل ولكنه كفر مع ذلك، وأسند الطبري أن جبريل عليه السلام وجد النبي عليه السلام حزينا فسأله، فقال: كذبني هؤلاء، فقال: «إنهم لا يكذبونك» بل يعلمون أنك صادق وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، والذي عندي في كفر حيي بن أخطب ومن جرى مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفونها أو أكثرها ثم يرون من آياته زائدا على ما عندهم فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب، وتتخالج ظنونهم فيقولون مرة هو ذلك ومرة عساه ليسه، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم وفقدهم الرياسة، فيتزايد ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا، وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون بأشياء معاندون في أشياء غيرها وأنا أستبعد العناد مع المعرفة التامة.

قوله عز وجل:

٣٤

انظر تفسير الآية: ٣٥

٣٥

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

هذه الآية تضمنت عرض الأسوة التي ينبغي الاقتداء بها على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيته أن يأتيه مثل ما أتاهم من النصر إذا امتثل ما امتثلوه من الصبر، قال الضحاك وابن جريج:

عزى الله بهذه الآية نبيه، وروي عن ابن عامر أنه قرأ «وأذوا» بغير واو بعد الهمزة، ثم قوى ذلك الرجاء بقوله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا راد لأمره وكلماته السابقات بما يكون ولا مكذب لما أخبر به، فكأن المعنى فاصبر كما صبروا وانتظر ما يأتي وثق بهذا الإخبار فإنه لا مبدل له، فالقصد هنا هذا الخبر وجاء اللفظ عاما جميع كلمات الله السابقات، وأما كلام الله عز وجل في التوراة والإنجيل فمذهب ابن عباس أنه لا مبدل لها وإنما حرفها اليهود بالتأويل لا ببدل حروف وألفاظ، وجوز كثير من العلماء أن يكونوا بدلوا الألفاظ لأنهم استحفظوها وهو الأظهر، وأما القرآن فإن الله تعالى تضمن حفظه فلا يجوز فيه التبديل، قال الله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] وقال في أولئك بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [المائدة: ٤٤] وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي فيما أنزلناه وقصصناه عليك ما يقضي هذا الذي أخبرناك به، وفاعل جاءَكَ مضمر على ما ذهب إليه الطبري والرماني، تقديره ولقد جاءك نبأ أو أنباء.

قال القاضي أبو محمد: والثواب عندي في المعنى أن يقدر جلاء أو بيان، وقال أبو علي الفارسي:

قوله مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ، في موضع رفع ب «جاء» ، ودخل حرف الجر على الفاعل، وهذا على مذهب الأخفش في تجويزه دخول من في الواجب، ووجه قول الرماني أن من لا تزاد في الواجب، وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الآية، آية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء فدونك وشأنك به، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا، ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين، إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون، إذ خلقهم على الفطرة وهدى السبيل وسبقت رحمته غضبه، وله ذلك كله بحق ملكه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا أسلوب معنى الآية، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن وكَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ خبرها، ويصح أن يكون إِعْراضُهُمْ هو اسم كان ويقدر في كَبُرَ ضمير وتكون كَبُرَ في موضع الخبر، والأول من الوجهين أقيس، والنفق السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع، والسلم الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى، ويمكن أن يشتق اسمه من السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] : [البسيط]

لا يحزن المرء أحجاء البلاد ولا ... تبنى له في السماوات السّلاليم

وفَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي بعلامة، ويريد إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء، وإما أن «تأتيهم بالآية» من إحدى الجهتين، وحذف جواب الشرط قبل في قوله فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إيجاز لفهم السامع به، تقديره فافعل أو فدونك كما تقدم، ولَجَمَعَهُمْ يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين، وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم، والهدى الإرشاد، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وإن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق لله فيه تعالى عن قولهم، ومِنَ الْجاهِلِينَ يحتمل في أن لا يعلم أن الله لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده، وتذهب به لنفسك إلى ما لم يقدر الله به، يظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ وبين قوله لنوح عليه السلام إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: ٤٦] وقد تقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، قال مكي والمهدي: والخطاب بقوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ للنبي عليه السلام والمراد به أمته، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: وقر نوح لسنه وشيبته، وقال قوم: جاء الحمل أشد على محمد صلى الله عليه وسلم لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل العاقب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب.

قال القاضي أبو محمد: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجىء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر قدرا وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم.

قوله عز وجل:

٣٦

انظر تفسير الآية: ٣٨

٣٧

انظر تفسير الآية: ٣٨

٣٨

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)

هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول، فعبر عن ذلك كله ب يَسْمَعُونَ إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة، وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا قالوا سمع، ثم قال تعالى: وَالْمَوْتى يريد الكفار، فعبر، عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله تعالى والصمم عن وعي كلماته، قاله مجاهد وقتادة والحسن، ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يحتمل معنيين قال الحسن معناه «يبعثهم الله» بأن يؤمنوا حين يوقفهم.

قال القاضي أبو محمد: فتجيء الاستعارة في هذا التأويل، في الوجهين في تسميتهم موتى وفي تسمية إيمانهم وهدايتهم بعثا، والواو على هذا مشركة في العامل عطفت الْمَوْتى على الَّذِينَ، ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في موضع الحال، وكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يرشدون حين يسمعون فيؤمنون والكفار حين يرشدهم الله بمشيئته، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر، وقرأ الحسن «ثم إليه يرجعون» فتناسبت الآية، وقال مجاهد وقتادة: وَالْمَوْتى يريد الكفار، أي هم بمثابة الموتى حين لا يرون هدى ولا يسمعون فيعون، ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي: يحشرهم يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ أي إلى سطوته وعقابه يُرْجَعُونَ، وقرأت هذه الطائفة يرجعون بياء والواو على هذا عاطفة جملة كلام على جملة، وَالْمَوْتى مبتدأ ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ خبره، فكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يسمعون فيعون والكفار سيبعثهم الله ويردهم إلى عقابه، فالآية على هذا متضمنة الوعيد للكفار، والعائد على الَّذِينَ هو الضمير في يَسْمَعُونَ، والضمير في قالُوا عائد على الكفار، ولَوْلا تحضيض بمعنى هلا، قال الشاعر [جرير] : [الطويل]

تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا

ومعنى الآية هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من أحد كملك يشهد له أو أكثر أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا، فأمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلك الآية، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون، وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ الآية، المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته، أي قل لهم إن الله قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان، وهي أمم أي جماعات مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر، ويحتمل أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمما لا غير كما تريد بقولك مررت برجل مثلك أي في رجل، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه الآية، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما، قال الطبري وغيره:

والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض على ما روي في الأحاديث، أي: فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعلمون فيم انتطحتا؟ قلنا لا: قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما، وقد قال مكي في المماثلة في أنها تعرف الله تعالى وتعبده، وهذا قول خلف ودَابَّةٍ وزنها فاعلة وهي صفة وضعت موضع الاسم كما قالوا الأعرج والأبرق، وأزيل منه معنى الصفة وليست بالصفة الغالبة في قولنا العباس والحارث لأن معنى الصفة باق في الصفة الغالبة، وقرأت طائفة «ولا طائر» عطفا على اللفظ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «ولا طائر» بالرفع عطفا على المعنى، وقرأت فرقة «ولا طير» وهو جمع «طائر» وقوله: بِجَناحَيْهِ تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال «طائر» السعد والنحس.

وقوله تعالى:

أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي عمله، ويقال: «طار لفلان طائر» كذا أي سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى بِجَناحَيْهِ إخراج للطائر عن هذا كله، وقرأ علقمة وابن هرمز «فرطنا في الكتاب» بتخفيف الراء والمعنى واحد، وقال النقاش معنى «فرطنا» مخففة أخرنا كما قالوا فرط الله عنك المرض أي أزاله، والأول أصوب، والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على ترك التقصير والكتاب القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات، وقيل اللوح المحفوظ، ومن شيء على هذا القول عام في جميع الأشياء، وعلى القول بأنه قرآن خاص في الأشياء التي فيها منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم، ويُحْشَرُونَ قالت فرقة حشر البهائم موتها، وقالت فرقة حشرها بعثها، واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء، إنما هي كناية عن العدل وليست بحقيقة فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها.

قوله عز وجل:

٣٩

انظر تفسير الآية: ٤١

٤٠

انظر تفسير الآية: ٤١

٤١

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١)

كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على وحدانية الله تعالى، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب، وقال النقاش نزلت في بني عبد الدار.

قال القاضي أبو محمد: ثم انسحبت على سواهم، ثم بيّن أن ذلك حكم من الله عز وجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئا الكلام مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ شرط وجوابه، وقوله: فِي الظُّلُماتِ ينوب عن «عمي» ، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس، والصراط الطريق الواضح.

وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الآية، ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء، والمعنى أرأيتم إذا خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكا أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجئون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة؟ بل تدعون الله الخالق الرزاق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال، فكيف يجعل إلها من هذه حاله في الشدائد والأزمات؟ وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة «أرأيتكم» بألف مهموزة على الأصل، لأن الهمزة عين الفعل، وقرأ نافع بتخفيف الهمزة بين على عرف التخفيف وقياسه، وروي عنه أنه قرأها بألف ساكنة وحذف الهمزة، وهذا تخفيف على غير قياس، والكاف في أرأيتك زيدا و «أرأيتكم» ليست باسم وإنما هي مجردة للخطاب كما هي في ذلك، وأبصرك زيدا ونحوه، ويدل على ذلك أن رأيت بمعنى العلم، إنما تدخل على الابتداء والخبر، فالأول من مفعوليها هو الثاني بعينه، والكاف في أرأيتك زيدا ليست المفعول الثاني كقوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: ٦٢] فإذا لم تكن اسما صح أنها مجردة للخطاب وإذا تجردت للخطاب صح أن التاء ليست للخطاب كما هي في أنت لأن علامتي خطاب لا تجتمعان على كلمة كما لا تجتمع علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام فلما تجردت التاء من الخطاب وبقيت علامة الفاعل فقط استغني عن إظهار تغيير الجمع فيها والتأنيث لظهور ذلك في الكاف وبقيت التاء على حد واحد في الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث وروي عن بعض بني كلاب أنه قال: أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة، فهذه الكاف صلة في الخطاب وأَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ معناه أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض ونحوها التي يخاف منها الهلاك، ويدعو إلى هذا التأويل أنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ لأن ما قد صح حلوله ومضى على البشر لا يصح كشفه، ويحتمل أن يراد ب السَّاعَةُ في هذه الآية موت الإنسان، وقوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ الآية، المعنى بل لا ملجأ لكم إلا الله، وأصنامكم مطرحة منسية، وما بمعنى الذي تدعون إليه من أجله، ويصح أن تكون ما ظرفية، ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام، قال الزجّاج هو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] والضمير في إِلَيْهِ يحتمل أن يعود إلى الله تعالى بتقدير فيكشف ما تدعون إليه، وإِنْ شاءَ استثناء لأن المحنة إذا أظلت عليهم فدعوا إليه في كشفها وصرفها فهو لا إله إلا هو كاشف إن شاء ومصيب إن شاء لا يجب عليه شيء، وتقدم معنى تَنْسَوْنَ وإِيَّاهُ اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبدا، وقيل هو مبهم وليس بالقوي لأن الأسماء المبهمة مضمنة الإشارة إلى حاضر نحو ذاك وتلك وهؤلاء، و «ايا» ليس فيه معنى الإشارة.

قوله عز وجل:

٤٢

انظر تفسير الآية: ٤٥

٤٣

انظر تفسير الآية: ٤٥

٤٤

انظر تفسير الآية: ٤٥

٤٥

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)

في الكلام حذف يدل عليه الظاهر تقديره فكذبوا فأخذناهم، ومعناه لازمناهم وتابعناهم الشيء بعد الشيء، «البأساء» المصائب في الأموال، وَالضَّرَّاءِ في الأبدان، هذا قول الأكثر، وقيل قد يوضع كل واحد بدل الآخر، ويؤدب الله تعالى عباده بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ، ومن هنالك أدب العباد نفوسهم بالبأساء في تفريق المال، والضراء في الحمل على البدن في جوع وعري، والترجي في «لعل» في هذا الموضع إنما هو على معتقد البشر أي لو رأى أحد ذلك لرجا تضرعهم بسببه، والتضرع التذلل والاستكانة، وفي المثل أن الحمى أضرعتني لك، ومعنى الآية توعد الكفار وضرب المثل لهم، و «لولا» تحضيض، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا، وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب وإظهار سوء فعله مع تحسر ما عليه، والمعنى إذ جاءهم أوائل البأس وعلاماته وهو تردد البأساء والضراء، وقَسَتْ معناه صلبت وهي عبارة عن الكفر ونسب التزيين إلى الشيطان وقد قال تعالى في آية أخرى كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: ١٠٨] لأن تسبب الشيطان ووسوسته تجلب حسن الفكر في قلوبهم، وذلك المجلوب الله يخلقه، فإن نسب إلى الله تعالى فبأنه خالقه وإلى الشيطان فبأنه مسببه.

وقوله تعالى:

فَلَمَّا نَسُوا الآية، عبر عن الترك بالنسيان إذا بلغ وجوه الترك الذي يكون معه نسيان وزوال المتروك عن الذهن، وقرأ ابن عامر فيما روي عنه «فتّحنا» بتشديد التاء، وكُلِّ شَيْءٍ معناه مما كان سد عليهم بالبأساء والضراء من النعم الدنياوية، فهو عموم معناه خصوص، وفَرِحُوا معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك لا يبيد وأنه دال على رضى الله عنهم، وهو استدراج من الله تعالى، وقد روي عن بعض العلماء أنه قال: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل القوم عشرين سنة، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فذلك استدراج ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا الآية كلها، وفَأَخَذْناهُمْ في هذا الموضع معناه استأصلناهم وسطونا بهم، وبَغْتَةً معناه فجأة، والعامل فيه أَخَذْناهُمْ، وهو مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه، و «المبلس» الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال، وقوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الآية، «الدابر» آخر الأمر الذي يدبره أي يأتي من خلفه، ومنه قول الشاعر [أمية بن أبي الصلت] [البسيط]

فأهلكوا بعذاب حصّ دابرهم ... فما استطاعوا له دفعا ولا انتصروا

وقول الآخر: [الطويل]

وقد زعمت عليا بغيض ولفّها ... بأني وحيد قد تقطّع دابري

وهذه كناية عن استئصال «شأفتهم» ومحو آثارهم كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي دبرهم وقرأ عكرمة «فقطع» بفتح القاف والطاء «دابر» بالنصب، وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل الرسل وتلطف في الأخذ بالبأساء والضراء ليتضرع إليه فيرحم وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة، وذلك حسن في نفسه ونعمة على المؤمنين فحسن الحمد يعقب هذه الأفعال، وبحمد الله ينبغي أن يختم كل فعل وكل مقالة لا رب غيره.

قوله عز وجل:

٤٦

انظر تفسير الآية: ٤٩

٤٧

انظر تفسير الآية: ٤٩

٤٨

انظر تفسير الآية: ٤٩

٤٩

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)

هذا ابتداء احتجاج على الكفار، وأَخَذَ اللَّهُ معناه أذهبه وانتزعه بقدرته، ووحد السمع لأنه مصدر مفرد يدل على جمع، والضمير في بِهِ عائد على المأخوذ، وقيل على السمع، وقيل على الهدى الذي يتضمنه المعنى، وقرأ الأعرج وغيره «به انظر» بضم الهاء، ورواها المسيبي وأبو وجزة عن نافع، ويَصْدِفُونَ معناه يعرضون وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط]

إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه ... وهنّ عن كلّ سوء يتّقى صدقا

قال النقاش: في الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا، ثم احتج لذلك بقوله:

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام: ٣٦] وبغير ذلك، والاستفهام في قوله: مَنْ إِلهٌ معناه التوقيف، أي ليس ثمة إله سواه فما بال تعلقكم بالأصنام وتمسككم بها وهي لا تدفع ضررا ولا تأتي بخير، وتصريف الآيات هو نصب العبر ومجيء آيات القرآن بالإنذار والاعذار والبشارة ونحوه وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الآية، وعيد وتهديد، وبَغْتَةً معناه لا يتقدم عندكم منها علم وجَهْرَةً معناه: تبدو لكم مخايله ومباديه ثم تتوالى حتى تنزل، قال الحسن بن أبي الحسن: بَغْتَةً ليلا وجَهْرَةً نهارا، قال مجاهد: بَغْتَةً فجأة آمنين وجَهْرَةً وهم ينظرون، وقرأ ابن محيصن «هل يهلك» على بناء الفعل للفاعل، والمعنى هل تهلكون ألا أنتم لأن الظلم قد تبين في حيزكم، وهَلْ ظاهرها الاستفهام ومعناها التسوية المضمنة للنفي ولا تكون التسوية بها إلا في النفي، وتكون بالألف في نفي وفي إيجاب، وقوله تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ الآية، المعنى إنما نرسل الأنبياء المخصوصين بالرسالة ليبشروا بإنعامنا ورحمتنا لمن آمن وينذروا بعذابنا وعقابنا من كذب وكفر، ولسنا نرسلهم ليقترح عليهم الآيات ويتابعوا شذوذ كل متعسف متعمق، ثم وعد من سلك طريق البشارة فآمن وأصلح في امتثال الطاعات، وأوعد الذين سلكوا طريق النذارة فكذب بآيات الله، وفسق أي خرج عن الحد في كفرانه وعصيانه، وقال ابن زيد: كل فسق في القرآن فمعناه الكذب، ذكره عنه الطبري مسندا ويَمَسُّهُمُ أي يباشرهم ويلصق بهم، وقرأ الحسن والأعمش الْعَذابُ بِما بإدغام الباء في الباء، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش «يفسقون» بكسر السين وهي لغة.

قوله عز وجل:

٥٠

انظر تفسير الآية: ٥١

٥١

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)

هذا من الرد على القائلين لولا أنزل عليه آية والطالبين أن ينزل ملك أو تكون له جنة أو أكثر أو نحو هذا، والمعنى: لست بهذه الصفات فيلزمني أن أجيبكم باقتراحاتكم، وقوله لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يحتمل معنيين أظهرهما أن يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئا مما غيب عنه، والآخر أنه ليس بإله فكأنه قال لا أقول لكم إني أتصف بأوصاف إله في أن عندي خزائنه وأني أعلم الغيب، وهذا هو قول الطبري وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية الملك أفضل من البشر، وليس ذلك بلازم من هذا الموضع، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعا في نفوسهم وأقرب إلى الله، والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفيا وهو ظاهر من آيات أخر، وهي مسألة خلاف، وما يُوحى يريد القرآن وسائر ما يأتي به الملك، أي وفي ذلك عبر وآية لمن تأمل ونظر، وقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الآية، أي قل لهم إنه لا يستوي الناظر المفكر في الآيات أو المعرض الكافر المهمل للنظر، فالأعمى والبصير مثالان للمؤمن والكافر، أي ففكروا أنتم وانظروا وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض وأَنْذِرْ عطف على قُلْ، والنبي عليه السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق، وإنما وقع التحضيض هنا بحسب المعنى الذي قصد، وذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعا من اليائس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة الذين قد قال فيهم أيضا أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: ٦، يس: ١٠] فكأنه قيل له هنا: قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا ودعهم ورأيهم لأنفسهم وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم، بل الإنذار العام ثابت مستقر، والضمير في بِهِ عائد على ما يُوحى «ويخافون» على بابها في الخوف أي الذين يخافون ما تحققوه من أن يحشروا ويستعدون لذلك، ورب متحقق لشيء مخوف وهو لقلة النظر والحزم لا يخافه ولا يستعد له.

قال القاضي أبو محمد: وقال الطبري: وقيل يَخافُونَ هنا بمعنى يعلمون، وهذا غير لازم وقوله الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ يعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني، وقوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يحتمل معنيين فإن جعلناه داخلا في الخوف في موضع نصب على الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي له ولا شفيع، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين ولأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل، وإن جعلنا قوله:

لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ إخبارا من الله تعالى عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ترجّ على حسب ما يرى البشر ويعطيه نظرهم.

قوله عز وجل:

٥٢

انظر تفسير الآية: ٥٣

٥٣

وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)

المراد ب الَّذِينَ ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود، وقيل: إنما قال هذه المقالة أبو طالب على جهة النصح للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت الآية، وقال ابن عباس: إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة، ويكونون هم موضعهم، ويؤمنون إذا طرد هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية، أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا منك مجلسا، لا يخالطنا فيه العبيد والحلفاء، واكتب لنا كتابا، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنزلت هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد في نزول الآية، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة اللهم إلا تكون الآية مدنية، قال خباب رضي الله عنه: ثم نزلت وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ٥٤] الآية فكنا نأتي فيقول لنا: سلام عليكم ونقعد معه، فإذا أراد يقوم قام وتركنا، فأنزل الله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: ٢٨] الآية فكان يقعد معنا، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم ويَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا وقيل: بل قوله: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به، كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلا، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت والمراد على هذا التأويل قيل، هو الصلوات الخمس، قاله ابن عباس وإبراهيم، وقيل الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها وقال بعض القصاص: إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشيا فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا: إنما الآية في الصلوات في الجماعة، وقيل: قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر ذكره الطبري، وقيل العبادة قاله الضحاك: وقرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر «بالغدوة والعشي» ، وروي عن أبي عبد الرحمن «بالغدو» بغير هاء، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات والعشيات» بألف فيهما على الجمع، وغدوة: معرفة لأنها جعلت علما لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة، وحملا على ما حكاه الخليل أنه يقال: لقيته اليوم غدوة منونا، ولأن فيها مع تعيين اليوم، إمكان تقدير معنى الشياع، ذكره أبو علي الفارسي ووَجْهَهُ في هذا الموضع معناه جهة التزلق إليه كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة وما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ معناه لم تكلف شيئا غير دعائهم فتقدم أنت وتؤخر ويظهر يكون الضمير في حِسابِهِمْ وعَلَيْهِمْ للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين، أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعيا لذلك، والضمير في «تطردهم» عائد على الضعفة من المؤمنين، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبدا سبب ما قبلها، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين، وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا، أي لا ترزقهم ولا يرزقونك.

قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين، وذكره المهدوي، وذكر عن الحسن أنه من حساب عملهم كما قال الجمهور، ومِنْ الأولى للتبعيض والثانية زائدة مؤكدة، وقوله:

فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي في قوله: ما عَلَيْكَ وقوله: فَتَكُونَ جواب النهي في قوله: ما عَلَيْكَ وقوله: فَتَكُونَ جواب النهي في قوله: وَلا تَطْرُدِ ومِنَ الظَّالِمِينَ، معناه يضعون الشيء غير مواضعه وقوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية فَتَنَّا معناه في هذه الآية: ابتلينا، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوما لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدرا ومنزلة، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة ولِيَقُولُوا معناه ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] أي ليصير مثاله أن يكون لهم عدوا وقول المشركين على هذا التأويل أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا هو على جهة الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في لِيَقُولُوا على بابها في لام كي وتكون المقالة منهم استفهاما لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم، فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن هدي.

قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج، ومنّ على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين، أي هؤلاء منّ الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة، وقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب، فالله أعلم بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة.

قوله عز وجل:

٥٤

انظر تفسير الآية: ٥٥

٥٥

وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)

قال جمهور المفسرين: الَّذِينَ يراد بهم القوم الذين كان عرض طردهم فنهى الله عز وجل عن طردهم، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم، وقال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد الَّذِينَ يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره، وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت الآية بسببهم.

قال القاضي أبو محمد: وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن تشير إلى فرقة، وقال الفضيل بن عياض: قال قوم للنبي صلى الله عليه وسلم إنّا قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية، وقوله بِآياتِنا يعم آيات القرآن وأيضا علامات النبوة كلها، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ ابتداء والتقدير: سلام ثابت أو أوجب عليكم، والمعنى: أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وقيل المعنى أن الله يسلم عليكم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه المهدوي، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت، وكَتَبَ بمعنى أوجب، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلا إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب، وفي: أين هذا الكتاب اختلاف؟ قيل في اللوح المحفوظ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه السلام في صحيح البخاري:

إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وقرأ عاصم وابن عامر: «أنه» بفتح الهمزة في الأولى والثانية، ف «أنه» الأولى بدل من الرحمة و «أنه» الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره:

فأمره أنه غفور رحيم، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم «فإنه» ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه، وقال النحاس: هي عطف على الأولى وتكرير لها لطول الكلام، قال أبو علي. ذلك لا يجوز لأن مَنْ لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو تكون شرطية فتحتاج إلى جواب، وإذا جعلنا «فأنه» تكريرا للأولى عطفا عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «إنه» بكسر الهمزة في الأولى والثانية، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها، وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية، وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهما، لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع، وقال أبو عمرو الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع، و «الجهالة» في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي تشبه بها، وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة، إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم، قال مجاهد: من الجهالة أن لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر، ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي عليه السلام في استعاذته «أو أجهل أو يجهل عليّ» ، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] : [الوافر]

ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة، و «التوبة» الرجوع، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه، والإشارة بقوله وَكَذلِكَ إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع العارضين لذلك، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها، واللام في قوله وَلِتَسْتَبِينَ متعلقة بفعل مضمر تقديره ولتستبين سبيل المجرمين فصلناها، وقرأ نافع: «ولتستبين» بالتاء أي النبي صلى الله عليه وسلم، «سبيل» بالنصب حكاه مكي في المشكل له، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «ولتستبين سبيل المجرمين» برفع السبيل وتأنيثها، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «وليستبين سبيل» برفع السبيل وتذكيرها، وعرب الحجاز تؤنث السبيل، وتميم وأهل نجد يذكرونها، وخص سبيل المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وأيضا فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين، وتأول ابن زيد أن قوله الْمُجْرِمِينَ يعني به الآمرون بطرد الضعفة.

قوله عز وجل:

٥٦

انظر تفسير الآية: ٥٨

٥٧

انظر تفسير الآية: ٥٨

٥٨

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)

أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه وأَنْ أَعْبُدَ هو بتأويل المصدر التقدير عن عبادة، ثم حذف الجار فتسلط الفعل ثم وضع أَنْ أَعْبُدَ موضع المصدر، وعبر عن الأصنام ب الَّذِينَ على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل، وتَدْعُونَ معناه تعبدون، ويحتمل أن يريد تدعون في أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس «قد ضللت» بفتح اللام، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف: «ضللت» بكسرها، وهما لغتان وإِذاً في هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف أَهْواءَكُمْ جمع هوى وهو الإرادة المحبة في المرديات من الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم، وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي الآية، هذه الآية تماد في إيضاح مباينته لهم، والمعنى قل إني على أمر بين فحذف الموصوف ثم دخلت هاء المبالغة كقوله عز وجل: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة: ١٤] ويصح أن تكون الهاء في بَيِّنَةٍ مجردة للتأنيث، ويكون بمعنى البيان، كما قال وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: ٤٢] والمراد بالآية أني أيها المكذبون في اعتقادي ويقيني وما حصل في نفسي من العلم على بينة من ربي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير في بِهِ عائد على بين في تقدير هاء المبالغة أو على البيان التي هي بَيِّنَةٍ بمعناه في التأويل الآخر، أو على الرب، وقيل على القرآن وهو وإن لم يتقدم له ذكر جلي فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي عليه السلام، فيصح عود الضمير عليه.

قال القاضي أبو محمد: وللنبي عليه السلام أمور أخر غير القرآن وقع له العلم أيضا من جهتها كتكليم الحجارة له ورؤيته للملك قبل الوحي وغير ذلك، وقال بعض المفسرين الضمير في بِهِ عائد على ما والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين، وقيل المراد بها العذاب، وهذا يترجح بوجهين: أحدهما من جهة المعنى وذلك أن قوله وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي، والآخر من جهة اللفظ وهو الاستعجال الذي لم يأت في القرآن استعجالهم إلا العذاب لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن باستعجال، وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي القضاء والإنفاذ يَقُصُّ الْحَقَّ أي يخبر به، والمعنى يقص القصص الحق، وهذه قراءة ابن كثير وعاصم ونافع وابن عباس، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر «يقضي الحق» أي ينفذه، وترجع هذه القراءة بقوله الْفاصِلِينَ لأن الفصل مناسب للقضاء، وقد جاء أيضا الفصل والتفصيل مع القصص، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو أسرع الفاصلين» ، قال أبو عمرو الداني: وقرأ عبد الله وأبيّ ويحيى ابن وثاب وإبراهيم النخعي وطلحة والأعمش «يقضي بالحق» بزيادة باء الجر، وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير «يقضي الحق وهو خير الفاصلين» ، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي الآية، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال، وتم التنازع لظهور الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين، وحكى الزهراوي: أن المعنى لقامت القيامة، ورواه النقاش عن عكرمة، وقال بعض الناس: معنى لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لذبح الموت.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف جدا لأن قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ [مريم: ٣٩] وذبح الموت هنا لائق فنقله إلى هذا الموضع دون شبه، وأسند الطبري هذا القول إلى ابن جريج غير مقيد بهذه السورة، والظن بابن جريج أنه إنما فسر الذي في يوم الحسرة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يتضمن الوعيد والتهديد.

قوله عز وجل:

٥٩

انظر تفسير الآية: ٦٠

٦٠

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)

مَفاتِحُ جمع مفتح وهذه استعارة عبارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان، ولو كان جمع مفتاح لقال مفاتيح، ويظهر أيضا أن مَفاتِحُ جمع مفتح بفتح الميم أي مواضع تفتح عن المغيبات، ويؤيد هذا قول السدي وغيره مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائن الغيب، فأما مفتح بالكسر فهو بمعنى مفتاح، وقال الزهراوي: ومفتح أفصح، وقال ابن عباس وغيره، الإشارة ب مَفاتِحُ الْغَيْبِ هي إلى الخمسة التي في آخر لقمان، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: ٣٤] الآية، لأنها تعم جميع الأشياء التي لم توجد بعد، ثم قوي البيان بقوله وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تنبيها على أعظم المخلوقات المجاورة للبشر وقوله مِنْ وَرَقَةٍ على حقيقته في ورق النباتات، ومِنْ زائدة وإِلَّا يَعْلَمُها يريد على الإطلاق وقبل السقوط ومعه وبعده، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ يريد في أشد حال التغيب، وهذا كله وإن كان داخلا في قوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ عند من رآها في الخمس وغيرها ففيه البيان والإيضاح والتنبيه على مواضع العبر، أي إذا كانت هذه المحقورات معلومة فغيرها من الجلائل أحرى، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف على اللفظ وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق «ولا رطب ولا يابس» بالرفع عطفا على الموضع في وَرَقَةٍ، لأن التقدير وما تسقط ورقة وإِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قيل يعني كتابا على الحقيقة، ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحفظة، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه ويعارضونه بهذا الكتاب المشار إليه ليتحققوا صحة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ علم الله عز وجل المحيط بكل شيء، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد قولا: أن «الورقة» يراد بها السقط من أولاد بني آدم، و «الحبة» يراد بها الذي ليس يسقط، و «الرطب» يراد به الحي، و «اليابس» يراد به الميت، وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد رضي الله عنه، ولا ينبغي أن يلتفت إليه، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ الآية، فيها إيضاح الآيات المنصوبة للنظر، وفيها ضرب مثل للبعث من القبور، أن هذا أيضا إماتة وبعث على نحو ما، والتوفي هو استيفاء عدد، قال الشاعر [منظور الوبري] : [الرجز]

إنّ بني الأدرم ليسوا من أحد ... ولا توفّاهم قريش في العدد

وصارت اللفظة عرفا في الموت، وهي في النوم على بعض التجوز، وجَرَحْتُمْ معناه كسبتم، ومنه جوارح الصيد أي كواسبه، ومنه جوارح البدن لأنها كواسب النفس، ويحتمل أن يكون جَرَحْتُمْ هنا من الجرح كأن الذنب جرح في الدين، والعرب تقول جرح اللسان كجرح اليد، وروي عن ابن مسعود أو سلمان شك ابن دينار، أنه قال: إن هذه الذنوب جراحات فمنها شوى ومنها مقتلة، ألا وإن الشرك بالله مقتلة، ويَبْعَثُكُمْ يريد الإيقاظ، ففي فِيهِ عائد على النهار قاله مجاهد، وقتادة والسدي، وذكر النوم مع الليل واليقظة مع النهار بحسب الأغلب وإن كان النوم يقع بالنهار واليقظة بالليل فنادر، ويحتمل أن يعود الضمير على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه قاله عبد الله بن كثير، وقيل يعود على الليل وهذا قلق في اللفظ وهو في المعنى نحو من الذي قبله، وقرأ طلحة بن مصرف وأبو رجاء «ليقضي أجلا مسمى» ، والمراد بالأجل آجال بني آدم، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يريد بالبعث والنشور ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أي يعلمكم إعلام توقيف ومحاسبة.

قوله عز وجل:

٦١

انظر تفسير الآية: ٦٢

٦٢

وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)

الْقاهِرُ إن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب فيصح أن يجعل فَوْقَ ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها العباد من فوقهم، وإن أخذ الْقاهِرُ صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ف فَوْقَ لا يجوز أن تكون للجهة، وإنما هي لعلو القدر والشأن على حد ما تقول:

الياقوت فوق الحديد، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ معناه يبثهم فيكم، وحَفَظَةً جمع حافظ مثل كاتب وكتبة، والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال، وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي عليه السلام «تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقاله السدي وقتادة، وقال بعض المفسرين حَفَظَةً يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله، والأول أظهر، وكلهم غير حمزة قرأ «توفيه رسلنا» على تأنيث لفظ الجمع. كقوله عز وجل: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: ٣٤] وقرأ حمزة «توفاه رسلنا» ، وحجته أن التأنيث غير حقيقي، وظاهر الفعل أنه ماض كقوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ [يوسف: ٣٠] ويحتمل أن يكون بمعنى تتوفاه فتكون العلامة مؤنثة، وأمال حمزة من حيث خط المصحف بغير ألف فكأنها إنما كتبت على الإمالة، وقرأ الأعمش «يتوفيه رسلنا» بزيادة ياء في أوله والتذكير، وقوله تعالى: رُسُلُنا يريد به على ما ذكر ابن عباس وجميع أهل التأويل ملائكة مقترنين بملك الموت يعاونونه ويأتمرون له، وقرأ جمهور الناس «لا يفرّطون» بالتشديد، وقرأ الأعرج «يفرطون» بالتخفيف، ومعناه يجاوزون الحد مما أمروا به، قال أبو الفتح: فكما أن المعنى في قراءة العامة لا يقصرون فكذلك هو في هذه لا يزيدون على أمروا به، ورجح اللفظ في قوله رُدُّوا من الخطاب إلى الغيبة، والضمير في رُدُّوا عائد على المتقدم ذكرهم، ويظهر أن يعود على العباد فهو إعلام برد الكل، وجاءت المخاطبة بالكاف في قوله عَلَيْكُمْ تقريبا للموعظة من نفوس السامعين، ومَوْلاهُمُ لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الرّزق والنصرة والمحاسبة والملك وغير ذلك، وقوله الْحَقِّ نعت ل مَوْلاهُمُ، ومعناه الذي ليس بباطل ولا مجاز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش «الحقّ» بالنصب، وهو على المدح، ويصح على المصدر، أَلا لَهُ الْحُكْمُ ابتداء كلام مضمنه التنبيه وهز نفس السامع، «الحكم» تعريفه للجنس أي جميع أنواع التصرفات في العباد وأَسْرَعُ الْحاسِبِينَ متوجه على أن الله عز وجل حسابه لعبيده صادر عن علمه بهم فلا يحتاج في ذلك إلى إعداد ولا تكلف سبحانه لا رب غيره، وقيل لعلي بن أبي طالب كيف يحاسب الله العباد في حال واحدة؟ قال: كما يرزقهم في حال واحدة في الدنيا.

قوله عز وجل:

٦٣

انظر تفسير الآية: ٦٤

٦٤

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)

هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان، وتوقيفهم على سوء الفعل في عبادتهم الأصنام وتركهم الذي ينجي من المهلكات ويلجأ إليه في الشدائد، ومَنْ استفهام رفع بالابتداء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «من ينجّيكم قل الله ينجّيكم» بتشديد الجيم وفتح النون، وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر عنه وحميد بن قيس ويعقوب «ينجيكم» فيها بتخفيف الجيم وسكون النون، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد في الأولى والتخفيف في الثانية فجمعوا بين التعدية بالألف والتعدية بالتضعيف كما جاء ذلك في قوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: ١٧] وظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يراد به شدائدهما، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد بظلمة حقيقية وما كان بغير ظلمة، والعرب تقول عام أسود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب ونحو هذا يريدون به الشدة، قال قتادة: المعنى من كرب البر والبحر، وقاله الزجّاج وتَدْعُونَهُ في موضع الحال وتَضَرُّعاً نصب على المصدر والعامل فيه تَدْعُونَهُ، والتضرع صفة بادية على الإنسان، وَخُفْيَةً معناه الاختفاء والسر، فكأن نسق القول: تدعونه جهرا وسرا هذه العبارة بمعان زائدة، وقرأ الجميع غير عاصم: «وخفية» بضم الخاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «وخفية» بكسر الخاء، وقرأ الأعمش: «وخيفة» من الخوف وقرأ الحجازيون وأهل الشام: «أنجيتنا» ، وقرأ الكوفيون «أنجانا» على ذكر الغائب، وأمال حمزة والكسائي الجيم، ومِنَ الشَّاكِرِينَ أي على الحقيقة، والشكر على الحقيقة يتضمن الإيمان، وحكى الطبري في قوله ظُلُماتِ أنه ضلال الطرق في الظلمات ونحوه المهدوي أنه ظلام الليل والغيم والبحر.

قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو لفظ عام لأنواع الشدائد في المعنى، وخص لفظ «الظلمات» بالذكر لما تقرر في النفوس من هول الظلمة، وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ الآية: سبق في المجادلة إلى الجواب، إذ لا محيد عنه، وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ لفظ عام أيضا ليتضح العموم الذي في الظلمات، ويصح أن يتأول من قوله وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ تخصيص الظلمات قبل، ونص عليها لهولها، وعطف في هذا الموضع ب ثُمَّ للمهلة التي تبين قبح فعلهم، أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققكم به أنتم تشركون.

قوله عز وجل:

٦٥

انظر تفسير الآية: ٦٧

٦٦

انظر تفسير الآية: ٦٧

٦٧

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)

هذا إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري، وقال أبيّ بن كعب وأبو العالية وجماعة معهما: هي للمؤمنين وهم المراد، قال أبي بن كعب: هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ثم لبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض، واثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم، وقال الحسن بن أبي الحسن: بعضها للكفار وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها للمؤمنين، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين، وروي من حديث جابر وخالد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال أعوذ بوجهك فلما نزلت أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: أعوذ بوجهك فلما نزلت أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال هذه أهون أو هذه أيسر، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت في المؤمنين، وقال الطبري: وغير ممتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار، وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث الموطأ وغيره، وقد قال ابن مسعود: إنها أسوأ الثلاث، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة، والحق أنها أيسرها كما قال عليه السلام، ومِنْ فَوْقِكُمْ ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك مِنْ فَوْقِكُمْ الرجم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد، وقال ابن عباس رضي الله عنه: مِنْ فَوْقِكُمْ ولاة الجور أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ سفلة السوء وخدمة السوء.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ ويَلْبِسَكُمْ على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعا فرقا يتشيع بعضها لبعض، واللبس الخلط، وقال المفسرون هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة، وقرأ أبو عبد الله المدني «يلبسكم» بضم الياء من ألبس فهو على هذه استعارة من اللباس، فالمعنى أو يلبسكم الفتنة شيعا وشِيَعاً منصوب على الحال وقد قال الشاعر [النابغة الجعدي] : [المتقارب]

لبست أناسا فأفنيتهم فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة، والبأس القتل وما أشبهه من المكاره، وَيُذِيقَ استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار، وهي استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن، وقرأ الأعمش «ونذيق» بنون الجماعة، وهي نون العظمة في جهة الله عز وجل، وتقول أذقت فلانا العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو هذا، وفي قوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآية، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم، و «الفقه» الفهم، والضمير في بِهِ عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات، قاله السدي وهذا هو الظاهر، وقيل يعود على النبي عليه السلام وهذا بعيد لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف في قوله:

قَوْمُكَ ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري، وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبت قومك» بزيادة تاء، وبِوَكِيلٍ معناه بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى، والوكيل بمعنى الحفيظ، وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ، وقيل لا نسخ في هذا إذ هو خبر.

قال القاضي أبو محمد: والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن، وليس فيه أنه لا يكون في المسأنف وقوله: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي غاية يعرف عندها صدقه من كذبه، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد محض ووعيد.

قوله عز وجل:

٦٨

انظر تفسير الآية: ٦٩

٦٩

وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، واختلف في معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تسلهم وإياه وقيل: بل بالمعنى أيضا إنما أريد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمه الله، والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء، وَإِمَّا شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب، وقد لا تلزم كما قال:

إمّا يصبك عدوّ في مناوأة

إلى غير ذلك من الأمثلة، وقرأ ابن عامر وحده «ينسّنك» بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد، إلا أن التشديد أكثر مبالغة، والذِّكْرى والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي، ووصفهم هنا ب الظَّالِمِينَ متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وفَأَعْرِضْ في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه، ويدل على ذلك فَلا تَقْعُدْ.

وقوله تعالى:

وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ الآية، المراد ب الَّذِينَ هم المؤمنون. والضمير في حِسابِهِمْ عائد على الَّذِينَ يَخُوضُونَ ومن قال إن المؤمنين داخلون في قوله: فَأَعْرِضْ قال إن النبي عليه السلام داخل في هذا القصد ب الَّذِينَ يَتَّقُونَ، والمعنى عندهم على ما روي أن المؤمنين قالوا لما نزلت فلا تقعد معهم قالوا: إذا كنا لا نضرب المشركين ولا نسمع أقوالهم فما يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم فنزلت لذلك وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ.

قال القاضي أبو محمد: فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها، وقال بعض من يقول إن النبي عليه السلام داخل في الَّذِينَ يَتَّقُونَ وإن المؤمنين داخلون في الخطاب الأول أن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه، وإنما معناها لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم، ويحتمل المعنى أن يكون لهم لعلهم إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء، وأما من قال إن الخطاب الأول هو مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم لثقل مفارقته مغضبا على الكفار فإنه قال في هذه الآية الثانية إنها مختصة بالمؤمنين، ومعناها الإباحة، فكأنه قال فلا تقعد معهم يا محمد وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم لعلهم يتقون الله في ترك ما هم فيه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أشار إليه النقاش ولم يوضحه، وفيه عندي نظر، وقال قائل هذه المقالة: إن هذه الإباحة للمؤمنين نسخت بآية النساء قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء: ١٤٠] وكذلك أيضا من قال أولا إلا أن الإباحة كانت بحسب العبادات يقول إن هذه الآية التي في النساء ناسخة لذلك إذ هي مدنية، والإشارة بقوله: وَقَدْ نَزَّلَ [النساء: ١٤٠] إليها بنفسها فتأمله، وإلا فيجب أن يكون الناسخ غيرها، وذِكْرى على هذا القول يحتمل أن يكون ذكروهم ذكرى، ويحتمل ولكن أعرضوا متى أعرضتم في غير وقت العبادة ذكرى، وذِكْرى على كل قول يحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل أو رفع بإضمار مبتدأ، وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدال والخوض فيه، وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.

قوله عز وجل:

٧٠

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)

هذا أمر بالمشاركة وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ، قال قتادة: ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال، وقال مجاهد: الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: ١١] وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبرا وهو التهديد، وقوله: لَعِباً وَلَهْواً يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته.

قال القاضي أبو محمد: ويتخرج في غَرَّتْهُمُ هنا وجه آخر من الغرور بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

ولما التقينا بالحنيّة غرّني ... بمعروفه حتّى خرجت أفوّق

ومنه غر الطائر فرخه، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر» في كل موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو دينا، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا، والضمير في بِهِ عائد على الدين، وقيل: على القرآن، وأَنْ تُبْسَلَ في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو كراهية أن تبسل، ومعناه تسلم، قال الحسن وعكرمة، وقال قتادة: تحبس وترتهن، وقال ابن عباس: تفضي وقال الكلبي وابن زيد: تجزى، وهذه كلها متقاربة بالمعنى، ومنه قول الشنفري: [الطويل]

هنالك لا أرجو حياة تسرّني ... سمير اللّيالي مبسلا بالجرائر

وقال بعض الناس هو مأخوذ من البسل أي من الحرام كما قال الشاعر [ضمرة النهشاني] : [الكامل]

بكرت تلومك بعد وهن في النّدى ... بسل عليك ملامتي وعتابي

قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، ونَفْسٌ تدل على الجنس، ومعنى الآية وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام، وقوله تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ في موضع الحال، ومِنْ لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة ودُونِ ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك، وهي في هذه الآية الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل:

وأمر دون عبيدة الودم والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث في جميع الأمور وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي وإن تعط كل فدية، وإن عظمت فتجعلها عدلا لها لا يقبل منها، وحكى الطبري عن قائل ان المعنى وإن تعدل من العدل المضاد للجور، ورد عليه وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة.

قال القاضي أبو محمد: ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل، والقول نص لأبي عبيدة، و «العدل» في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه، وقبل: العدل بالكسر المثل والعدل بالفتح القيمة، وأُولئِكَ إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله تُبْسَلَ نَفْسٌ، وأُبْسِلُوا معناه أسلموا بما اجترحوه من الكفر، و «الحميم» الماء الحار، ومنه الحمام والحمة ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]

إلا الحميم فإنّه يتبصّع

«وأليم» فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم.

قوله عز وجل:

٧١

قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)

المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئا موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا يعني الأصنام، إذ هي جمادات حجارة وخشب ونحوه، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال: وَلا يَضُرُّنا إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا تشبيه، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدما وهي المشية الجيدة فيرد يمشي القهقرى، وهي المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدى إلى عبادة الأصنام، وهَدانَا بمعنى أرشدنا، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمرا فخاب أمله.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول قلق وقوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي واسْتَهْوَتْهُ استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته، قال أبو عبيدة: ويحتمل هويه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم، والهوى من هوى يهوي يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل، ومنه قول الشاعر:

هوى أبني من دار أشرف ... فزلّت رجله ويده

وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه أبو علي وقال: هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل.

قال القاضي أبو محمد: والتحرير: أن العرب تقول: هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئا، وبيستعمل الهوى أيضا في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: ٣٧] ، ومنه قول شاعر الجن: [السريع]

تهوي إلى مكّة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجنّ كأنجاسها

وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية، وقرأ الجمهور من الناس «استهوته الشياطين» وقرأ الحسن «استهوته الشياطون» . وقال بعض الناس: هو لحن، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين» وأمال استهواه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه الشيطان» بالياء وإفراد الشيطان، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، وقوله: فِي الْأَرْضِ يحكم بأن اسْتَهْوَتْهُ إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع وحَيْرانَ في موضع الحال، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ومعناه ضالا متحيرا وهو حال من الضمير في اسْتَهْوَتْهُ والعامل فيه اسْتَهْوَتْهُ، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف، وقوله اسْتَهْوَتْهُ يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته.

قال القاضي أبو محمد: فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائرا وقوله: لَهُ أَصْحابٌ يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، وائْتِنا من الإتيان بمعنى المجيء، وفي مصحف عبد الله «إلى الهدى بينا» وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله، وحكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي» في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وب «الأصحاب» أبوه وأمه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل: إن قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: ١٧] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت: كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.

قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول: من نازع أحدا من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: ائْتِنا، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل.

قال القاضي أبو محمد: وهذا انتزاع حسن جدا، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الآية، من قال إن «الأصحاب» هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال: إن قوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحا وليس بهدى بل هو نفسه كفر وضلال، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان، ومن قال: إن «الأصحاب» هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ اللام لام كي ومعها أن مقدرة ويقدر مفعول ل أُمِرْنا مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم، ومذهب سيبويه في هذه أن لِنُسْلِمَ هو موضع المفعول وأن قولك: أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر: [الطويل]

أردت لأنسى ذكرها إلى غير ذلك من الأمثلة، «ونسلم» يعم الدين والاستسلام.

قوله عز وجل:

٧٢

انظر تفسير الآية: ٧٣

٧٣

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

وَأَنْ أَقِيمُوا يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدر في أُمِرْنا [الأنعام: ٧١] ، وقيل بل هو معطوف على قوله لِنُسْلِمَ [الأنعام: ٧١] تقديره لأن نسلم وَأَنْ أَقِيمُوا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن قوله «لأن نسلم» معرب، وقوله أَنْ أَقِيمُوا مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم إلا أن تجعل العطف في «أن» وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله وَأَنْ أَقِيمُوا بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى، ويشبه هذا من جهة «ما» ما حكاه يونس عن العرب: أدخلوا الأول فالأول بالنصب، وقال الزجّاج أيضا: يحتمل أن يكون وَأَنْ أَقِيمُوا معطوفا على ائْتِنا [الأنعام: ٧١] .

قال القاضي أبو محمد: وفيه بعد، والضمير في قوله وَاتَّقُوهُ عائد على رب العالمين وَهُوَ ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر يتضمن التنبيه والتخويف، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الآية، خَلَقَ ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، وبِالْحَقِّ، أي لم يخلقها باطلا بغير معنى بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق وغير ذلك، وقيل المعنى بأن حق له أن يفعل ذلك، وقيل بِالْحَقِّ معناه بكلامه في قوله للمخلوقات كُنْ وفي قوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصّلت: ١١] .

قال القاضي أبو محمد: وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام، واقتران «كن» بحالة إيجاد المخلوق فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئا فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه: انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد، ولله المثل الأعلى، لا تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير، أمره واحدة كلمح البصر فكأن معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله كُنْ المقترنة بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه، فعبر عن ذلك بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ نصب على الظرف وهو معلق بمعمول فعل مضمر، تقديره: واذكر الخلق والإعادة يوم، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها: واذكر الإعادة يوم يقول الله للأجساد كن معادة، ثم يحتمل أن يتم الكلام هنا ثم يبدأ بإخبار أن يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخبارا بالإعادة، ويحتمل أن يكون تمام الكلام في قوله فَيَكُونُ ويكون قَوْلُهُ الْحَقُّ ابتداء وخبر أو على الاحتمال الذي قبل ف قَوْلُهُ فاعل، قال الزجّاج قوله وَيَوْمَ معطوف على الضمير من قوله وَاتَّقُوهُ فالتقدير هنا على هذا القول واتقوا العقاب أو الأهوال والشدائد يوم، وقيل: إن الكلام معطوف على قوله خَلَقَ السَّماواتِ والتقدير على هذا: وهو الذي خلق السماوات والأرض والمعادات إلى الحشر يوم، ولا يجوز أن تعمل هذه الأفعال لا تقديرك اذكر ولا اتقوا ولا خلق في يوم لأن أسماء الزمان إذا بنيت مع الأفعال فلا يجوز أن تنصب إلا على الظرف، ولا يجوز أن يتعلق يَوْمَ بقوله: قَوْلُهُ الْحَقُّ لأن المصدر لا يعمل فيما تقدمه، وقد أطلق قوم أن العامل اذكر أو خلق، ويحتمل أن يريد ب «يقول» معنى المضي كأنه قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق يوم يقول بمعنى قال لها «كن» ، ف يَوْمَ ظرف معطوف على موضع قَوْلُهُ الْحَقُّ إذ هو في موضع نصب، ويجيء تمام الكلام في قوله فَيَكُونُ، ويجيء قَوْلُهُ الْحَقُّ ابتداء وخبرا ويحتمل أن يتم الكلام في كُنْ، ويبتدأ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وتكون «يكون» تامة بمعنى يظهر، والْحَقُّ صفة للقول، وقَوْلُهُ فاعل، وقرأ الحسن: «قوله» بضم القاف، وَلَهُ الْمُلْكُ ابتداء وخبر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ «يوم» بدل من الأولى على أن «يقول» مستقبل لا على تقدير مضيه، وقيل: بل متعلق بما تضمن الملك من معنى الفعل أو بتقدير ثابت أو مستقر يوم، وفِي الصُّورِ قال أبو عبيدة هو جمع صورة فالمعنى يوم تعاد العوالم، وقال الجمهور هو الصور القرن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث، ورجحه الطبري بقول النبي عليه السلام: إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ، وقرأ الحسن «في الصور» بفتح الواو وهذه تؤيد التأويل الأول وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض عالِمُ رفع بإضمار مبتدأ وقيل نعت ل الَّذِي وقرأ الحسن والأعمش «عالم» بالخفض على النعت للضمير الذي في لَهُ، أو على البدل منه من قوله لَهُ الْمُلْكُ، وقد رويت عن عاصم، وقيل ارتفع «عالم» بفعل مضمر من لفظ الفعل المبني للمفعول تقديره ينفخ فيه عالم على ما أنشد سيبويه: [الطويل]

ليبك يزيد ضارع لخصومة ... وآخر ممّن طوّحته الطّوائح

التقدير يبكيه ضارع، وحكى الطبري هذا التأويل الذي يشبه ليبك يزيد عن ابن عباس ونظيرها من القرآن قراءة من قرأ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام ١٣٧] بضم الزاي ورفع الشركاء وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو «يوم ننفخ في الصور» بنون العظمة، والْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ معناه ما غاب عنا وما حضر، وهذا يعم جميع الموجودات.

قوله عز وجل:

٧٤

انظر تفسير الآية: ٧٥

٧٥

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)

العامل في إِذْ فعل مضمر تقديره: واذكر أو قص، قال الطبري: نبه الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بإبراهيم في محاجته قومه إذ كانوا أهل أصنام وكان قوم محمد أهل أصنام.

قال القاضي أبو محمد: وليس يلزم هذا من لفظ الآية، أما أن جميع ما يجيء من مثل هذا عرضة للاقتداء، وقرأ السبعة وجمهور الناس: «آزر» بفتح الهمزة التي قبل الألف وفتح الزاي والراء. قال السدي وابن إسحاق وسعيد بن عبد العزيز: هو اسم أبي إبراهيم.

قال القاضي أبو محمد: وقد ثبت أن اسمه تارح فله على هذا القول اسمان كيعقوب وإسرائيل، وهو في الإعراب على هذا بدل من الأب المضاف في موضع خفض وهو اسم علم، وقال مجاهد بل هو اسم صنم وهو في موضع نصب بفعل مضمر تقديره: أتتخذ أصناما.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا ضعف، وقال بعضهم بل هو صفة ومعناه هو المعوج المخطئ.

قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا بأن «آزر» إذا كان صفة فهو نكرة ولا يجوز أن تنعت المعرفة بالنكرة ويوجه ذلك على تحامل بأن يقال أريدت فيه الألف واللام وإن لم يلفظها، وإلى هذا أشار الزجّاج لأنه قدر ذلك فقال لأبيه المخطئ، وبأن يقال إن ذلك مقطوع منصوب بفعل تقديره اذن المعوج أو المخطئ، والا تبقى فيه الصفة بهذه الحال.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقيل نصبه على الحال كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه وهو في حال عوج وخطأ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء، ويصح مع هذا أن يكون آزَرَ اسم أبي إبراهيم، ويصح أن يكون بمعنى المعوج والمخطئ، وقال الضحاك: آزَرَ بمعنى شيء، ولا يصح مع هذه القراءة أن يكون آزَرَ صفة، وفي مصحف أبيّ «يا آزر» بثبوت حرف النداء «اتخذت أصناما» بالفعل الماضي، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه أيضا: «أزرا تتخذ» بألف الاستفهام وفتح الهمزة من آزر وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وإسقاط ألف الاستفهام من «اتخذ» ، ومعنى هذه القراءة عضدا وقوة ومظاهرة على الله تعالى تتخذ، وهو من نحو قوله تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه: ٣١] وقرأ أبو إسماعيل رجل من أهل الشام بكسر الهمزة من هذا الترتيب ذكرها أبو الفتح، ومعناها: أنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة فكأنه قال: أوزرا ومأثما تتخذ أصناما، ونصبه على هذا بفعل مضمر، ورويت أيضا عن ابن عباس، وقرأ الأعمش: «إزرا تتخذ» بكسر الهمزة وسكون الزاي دون ألف توقيف، وأَصْناماً آلِهَةً مفعولان، وذكر: أن «آزر» أبا إبراهيم كان نجارا محسنا ومهندسا وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظي عنده آزر لذلك، وكان على خطة عمل الأصنام تعمل بأمره وتدبيره ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده، وحينئذ يعبد ذلك الصنم، فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد كان أبوه يكلفه بيعها، فكان إبراهيم ينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ ويستخف بها ويجعلها في الماء منكوسة، ويقول اشربي، فلما شهر أمره بذلك وأخذ في الدعاء إلى الله تعالى قال لأبيه هذه المقالة، وأَراكَ في هذا الموضع يشترك فيها البصر والقلب لأنها رؤية قلب ومعرفته وهي متركبة على رؤية بصر، ومُبِينٍ بمعنى واضح ظاهر، وهو من أبان الشيء، إذا ظهر ليس بالفعل المتعدي المنقول من بان يبين.

قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون المنقول، ويكون المفعول مقدرا تقديره: في ضلال مبين كفركم، وقيل كان آزر رجلا من أهل كوثا من سواد الكوفة، قال النقاش وبها ولد إبراهيم عليه السلام، وقيل كان من أهل حران، وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت، ونُرِي لفظها الاستقبال ومعناها المضي، وحكى المهدوي: أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه، ونُرِي هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى ثلاثة مفاعيل، وليس كذلك ولا يصح أن يقال:

إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي يدخل عليها علمت في هذا الموضع، وإنما هي من علم بمعنى عرف، ثم نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت «أرى» بمنزلتها في هذه الحال، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر، وروي في ذلك أن الله عز وجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص لإبراهيم عليه السلام بما لم يدركه غيره، قبله ولا بعده، وهذا هو قول مجاهد قال: تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في الجنة وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي، وقيل: هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره، وذلك ولا بد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه.

قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان الأخيران يناسبان الآية، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنين وبعده، واليقين يقع له ولغيره بالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو، ومَلَكُوتَ بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت، وقال عكرمة هو ملكوتي باليونانية أو بالنبطية، وقرأ «ملكوث» بالثاء مثلثة وقرأ أبو السمال «ملكوت» بإسكان اللام وهي لغة، ومَلَكُوتَ بمعنى الملك، والعرب تقول لفلان ملكوت اليمن أي ملكه، واللام في لِيَكُونَ متعلقة بفعل مؤخر تقديره وليكون من الموقنين أريناه، والموقن:

العالم بالشيء علما لا يمكن أن يطرأ له فيك شك، وقال الضحاك ومجاهد أيضا إن الإشارة هاهنا «بملكوت السماوات» هي إلى الكواكب والقمر والشمس، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها رؤية بصر في ظاهر الملكوت، وروي عن ابن عباس في تفسير وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ قال جلى له الأمور سرها وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا، فرده لا يرى أعمالهم.

قوله عز وجل:

٧٦

انظر تفسير الآية: ٧٧

٧٧

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧)

هذه الفاء في قوله فَلَمَّا رابطة جملة ما بعدها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية، و «جن الليل» : ستر وغطى بظلامه، ويقال الجن، والأول أكثر، ويشبه أن يكون الجن والمجن والجنة والجنن وهو القبر مشتقة من جن إذا ستر، ولفظ هذه القصة يحتمل أن تكون وقعت له في حال صباه وقبل بلوغه كما ذهب إليه ابن عباس. فإنه قال: رأى كوكبا فعبده، وقاله ناس كثير إن النازلة قبل البلوغ والتكليف، ويحتمل أن تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفا، وحكى الطبري هذا عن فرقة وقالت إنه استفهم على جهة التوقيف بغير ألف، قال وهذا كقول الشاعر: [الطويل]

رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

يريد أهم هم وكما قال الآخر: [الطويل]

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر

يريد أشعيث.

قال القاضي أبو محمد: والبيت الأول لا حجة فيه عندي وقد حكي أن نمرود جبار ذلك الزمن رأى منجموه أن مولودا يولد في سنة كذا في عمله، يكون خراب الملك على يديه فجعل يتبع الحبالى ويوكل بهن حراسا فمن وضعت أنثى تركت ومن وضعت ذكرا حمل إلى الملك فذبحه، وأن أم إبراهيم حملت وكانت شابة قوية فسترت حملها فلما قربت ولادتها بعثت تارخ أبا إبراهيم إلى سفر وتحيلت لمضيه إليه ثم خرجت هي إلى غار فولدت فيه إبراهيم وتركته في الغار وقد هيأت عليه، وكانت تفتقده فتجده يغتذي بأن يمص أصابعه فيخرج له منها عسل وسمن ونحوها، وحكي بل كان يغذيه ملك وحكي بل كانت تأتيه بألبان النساء اللاتي ذبح أبناؤهن، فشب إبراهيم أضعاف ما يشب غيره، والملك في خلال ذلك يحس بولادته ويشدد في طلبه فمكث في الغار عشرة أعوام وقيل خمس عشرة سنة، وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب وجرت قصة الآية.

قال القاضي أبو محمد: وجلبت هذه القصص بغاية الاختصار في اللفظ وقصدت استيفاء المعاني التي تخص الآية ويضعف عندي أن تكون هذه القصة في الغار لقوله في آخرها إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: ٧٨] وهي ألفاظ تقتضي محاجة وردا على قوم، وحاله في الغار بعيدة عن مثل هذا اللهم إلا أن يتأول في ذلك أنه قالها بينه وبين نفسه، أي قال في نفسه معنى العبارة عنه: يا قوم إني بريء مما تشركون، وهذا كما قال الشاعر: [الرجز]

ثم انثنى وقال في التّفكير ... إنّ الحياة اليوم في الكرور

قال القاضي أبو محمد: ومع هذا فالمخاطبة تبعده، ولو قال يا قوم إني بريء من الإشراك لصح هذا التأويل وقوي، فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبوة وعدم التكليف على ما ذهب إليه بعض المفسرين ويحتمله اللفظ فذلك ينقسم على وجهين: إما أن يجعل قوله هذا رَبِّي تصميما واعتقادا وهذا باطل لأن التصميم لم يقع من الأنبياء صلوات الله عليهم وإما أن يجعله تعريضا للنظر والاستدلال كأنه قال هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل ويجيء إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى لمحمد عليه السلام: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: ٦] أي مهمل المعتقد، وإن قلنا بأن القصة وقعت له في حال كفره وهو مكلف فلا يجوز أن يقول هذا رَبِّي مصمما ولا معرضا للنظر، لأنها رتبة جهل أو شك وهو عليه السلام منزه معصوم من ذلك كله، فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام، كأنه قال لهم: أهذا المنير ربي؟ أو هذا ربي وهو يريد على زعمكم؟ كما قال الله تعالى: أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: ٢٧، القصص: ٦٢- ٧٤، فصلت: ٤٧] فإنما المعنى على زعمكم، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركته وأفوله أمارة الحدوث، وأنه لا يصلح أن يكون ربّا ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ثم في الشمس كذلك، فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها، ويعضد عندي هذا التأويل قوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: ٧٨] ومثل لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك، وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة والكوكب وهو الزهرة، في قول قتادة وقال السدي وهو المشتري جانحا للغروب، فلما أفل بزغ القمر وهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضا من مغربه فسمي ذلك أفولا لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية، ثم بزغت الشمس على ذلك، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشرة من الشهر إلى ليلة عشرين، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي، وبذلك التجوز في أفول القمر، وأَفَلَ في كلام العرب معناه غاب، يقال: أين أفلت عنّا يا فلان، وقيل معناه ذهب.

قال القاضي أبو محمد: وهذا خلاف في عبارة فقط، وقال ذو الرمة: [الطويل]

مصابيح ليست باللّواتي تقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدّوالك

وقال الْآفِلِينَ فجمع بالياء والنون لما قصد الأرباب ونحو ذلك وعلى هذا يخرج قوله في الشمس هذا رَبِّي فذكر الإشارة إليها لما قصد ربه وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص: «رأى» بفتح الراء والهمزة، وقرأ نافع بين الفتح والكسر، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما، وقرأ أبو عمرو بن العلاء، بفتح الراء وكسر الهمزة، وقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً الآية، البزوغ في هذه الأنوار: أول الطلوع، وقد تقدم القول فيما تدعو إليه ألفاظ الآية وكون هذا الترتيب في ليلة واحدة من التجوز في أفول القمر لأن أفوله لو قدرناه مغيبه في المغرب لكان ذلك بعد بزوغ الشمس وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار ويَهْدِنِي يرشدني وهذا اللفظ يؤيد قول من قال: النازلة في حال الصغر، و «القوم الضالون» عبدة المخلوقات، كالأصنام وغيرها وإن كان الضلال أعمّ من هذا فهذا هو المقصود في هذا الموضع.

قوله عز وجل:

٧٨

انظر تفسير الآية: ٨٠

٧٩

انظر تفسير الآية: ٨٠

٨٠

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)

لما قصد قصد ربه قال هذا فذكر أي هذا المرئيّ أو المنير ونحو هذا، فلما أفلت الشمس لم يبق شيء يمثل لهم به، فظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم والتبري من إشراكهم، وقوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يؤيد قول من قال: النازلة في حال الكبر والتكليف: ووَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ب وَجْهِيَ، وفَطَرَ معناه: ابتدع في أجرام، وحَنِيفاً معناه مستقيما، والحنف الميل في كلام العرب، وأصله في الأشخاص وهو في المعاني مستعار، فالمعوج في الأجرام أحنف على الحقيقة أي مائل والمستقيم فيها أحنف على تجوز كأنه مال عن كل جهة إلى القوام وحاجَّهُ فاعله من الحجة، قال أتراجعوني في الحجة في توحيد الله، وقرأت فرقة «أتحاجونني» بإظهار النونين وهو الأصل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أتحاجوني» بإدغام النون الأولى في الثانية، وقرأ نافع وابن عامر «أتحاجوني» بحذف النون الواحدة فقيل:

هي الثانية وقيل هي الأولى، ويدل على ذلك أنها بقيت مكسورة، قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن تحذف الأولى لأنها للإعراب وإنما حذفت الثانية التي هي توطئة لياء المتكلم كما حذفت في «ليتي» وفي قول الشاعر: [الوافر] يسوء الفاليات إذا فليني وكسرت بعد ذلك الأولى الباقية لمجاورتها للياء و «قد هداني» أي أرشدني إلى معرفته وتوحيده، وأمال الكسائي «هدان» ، والإمالة في ذلك حسنة وإذا جازت الإمالة في غزا ودعا وهما من ذوات الواو فهي في «هدان» التي هي من ذوات الياء أجوز وأحسن، وحكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام خف أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقصك، فقال لهم لست أخاف الذي تشركون به، لأنه لا قدرة له ولا غناء عنده وما في هذا الموضع بمعنى الذي، والضمير في بِهِ يحتمل أن يعود على الله عز وجل فيكون على هذا في قوله تُشْرِكُونَ ضمير عائد على ما تقدير الكلام ولا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله في الربوبية، ويحتمل أن يعود الضمير على ما فلا يحتاج إلى غيره، كأن التقدير ما تشركون بسببه، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً استثناء ليس من الأول وشَيْئاً منصوب ب يَشاءَ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريده بضر، وعِلْماً نصب على التمييز وهو مصدر بمعنى الفاعل، كما تقول العرب: تصبب زيد عرقا، المعنى تصبب عرق زيد فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم.

قوله عز وجل:

٨١

انظر تفسير الآية: ٨٣

٨٢

انظر تفسير الآية: ٨٣

٨٣

وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)

هذه الآية إلى تَعْلَمُونَ هي كلها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، المعنى: وكيف أخاف الأصنام التي لا خطب لها وهي حجارة وخشب إذا أنا نبذتها ولم أعظمها، ولا تخافون أنتم الله عز وجل وقد أشركتم به في الربوبية أشياء لم ينزل بها عليكم حجة، و «السلطان» :

الحجة، ثم استفهم على جهة التقرير فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي من لم يشرك بالقادر العالم أحق أن يأمن وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا الآية، الَّذِينَ رفع بالابتداء، ويَلْبِسُوا معناه يخلطوا، و «الظلم» في هذه الآية الشرك تظاهرت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت هذه الآية أشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك كما قال لقمان: إن الشرك لظلم عظيم وروي أن عمر بن الخطاب قرأ في المصحف فلما أتى عليها عظمت عليه، فلبس رداءه ومر إلى أبي بن كعب، فقال: يا أبا المنذر وسأله عنها، فقال له إنه الشرك يا أمير المؤمنين فسري عن عمر، وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي بن كعب رضي الله عنهم، وقرأ مجاهد، «ولم يلبسوا إيمانهم بشرك» وقرأ عكرمة «يلبسوا» بضم الياء، والْأَمْنُ رفع بالابتداء وخبره في المجرور والجملة خبر أُولئِكَ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي راشدون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المراد بهذه الآية إبراهيم خاصة، وقال عكرمة: نزلت في مهاجري أصحاب محمد عليه السلام خاصة، وقالت فرقة: هي من قول إبراهيم لقومه فهي من الحجة التي أوتيها، وقال ابن جريج هي من قول قوم إبراهيم ويجيء هذا من الحجة أيضا أن أقروا بالحق وهم قد ظلموا في الإشراك، وقال ابن إسحاق وابن زيد وغيرهما: بل ذلك قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره ولكل مؤمن تقدم أو تأخر.

قال القاضي أبو محمد: وهذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية ويحسن رصفها، وهو خبر من الله تعالى وَتِلْكَ إشارة إلى هذه الحجة المتقدمة وهي رفع بالابتداء وحُجَّتُنا خبره وآتَيْناها في موضع الحال، ويجوز أن تكون حُجَّتُنا بدلا من تلك وآتيناها خبر «تلك» «وإبراهيم» مفعول ب «آتيناها» ، والضمير مفعول أيضا ب آتَيْناها مقدم وعَلى متعلقة بقوله حُجَّتُنا وفي ذلك فصل كثير، ويجوز أن تتعلق على ب «آتيناها» على المعنى إذ أظهرناها لإبراهيم على قومه ونحو هذا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «نرفع درجات من نشاء» بإضافة الدرجات إلى مَنْ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «نرفع درجات من نشاء» .

قال القاضي أبو محمد: وهما مأخذان من الكلام، والمعنى المقصود بهما واحد، ودَرَجاتٍ على قراءة من نون نصب على الظرف، وحَكِيمٌ عَلِيمٌ صفتان تليق بهذا الموضع إذ هو موضع مشيئة واختيار فيحتاج ذلك إلى العلم والإحكام، والدرجات أصلها في الأجسام ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية.

قوله عز وجل:

٨٤

انظر تفسير الآية: ٨٦

٨٥

انظر تفسير الآية: ٨٦

٨٦

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦)

وَوَهَبْنا عطف على آتَيْناها [الأنعام: ٨٣] وإِسْحاقَ ابنه من سارة، وَيَعْقُوبَ هو ابن إسحاق، وكُلًّا ونُوحاً منصوبان على المفعول مقدمان على الفعل، وقوله: مِنْ قَبْلُ لقومه صلى الله عليه وسلم، وقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ المعنى وهدينا من ذريته، والضمير في ذُرِّيَّتِهِ قال الزجّاج جائز أن يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكر «لوط» عليه السلام وهو ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن أخته ويتخرج عند من يرى الخال أبا وقيل: يعود الضمير على نوح وهذا هو الجيد، وداوُدَ يقال هو ابن إيشى وَسُلَيْمانَ ابنه، وَأَيُّوبَ هو فيما يقال أيوب بن رازح بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وَيُوسُفَ هو ابن يعقوب بن إسحاق، وَمُوسى وَهارُونَ هما ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، ونصب داوُدَ يحتمل أن يكون ب وَهَبْنا ويحتمل أن يكون ب هَدَيْنا وهذه الأسماء كلها فيها العجمة والتعريف، فهي غير مصروفة، وَمُوسى عند سيبويه وزنه مفعل فعلى هذا يتصرف في النكرة، وقيل وزنه فعلى، فعلى هذا لا يتصرف في معرفة ولا نكرة، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عمله وترغيب في الإحسان، وَزَكَرِيَّا فيما يقال هو ابن آذر بن بركنا، وَعِيسى ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزينا، وَإِلْياسَ هو ابن نسي بن فنحاص بن العيزان بن هارون بن عمران، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إدريس هو الياس ورد ذلك الطبري وغيره بأن إدريس هو جد نوح تظاهرت بذلك الروايات، «وزكرياء» قرأته طائفة بالمد وقرأته طائفة بالقصر «زكريا» ، وقرأ ابن عامر باختلاف عنه، والحسن وقتادة بتسهيل الهمزة من الياس، وفي هذه الآية أن عيسى عليه السلام من ذرية نوح أو إبراهيم بحسب الاختلاف في عود الضمير من ذريته، وهو ابن ابنته، وبهذا يستدل في الأحباس على أن ولد البنت من الذرية، وإسماعيل هو أكبر ولدي إبراهيم عليه السلام وهو من هاجر واليسع قال زيد بن أسلم وهو يوشع بن نون، وقال غيره: هو أليسع بن أخطوب بن العجوز، وقرأ جمهور الناس «وأليسع» وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» كأن الألف واللام دخلت على فيعل، قال أبو علي الفارسي: فالألف واللام في «اليسع» زائدة لا تؤثر معنى تعريف لأنها ليست للعهد كالرجل والغلام ولا للجنس كالإنسان والبهائم ولا صفة غالبة كالعباس والحارث لأن ذلك يلزم عليه أن يكون «اليسع» فعلا، وحينئذ يجري صفة. وإذا كان فعلا وجب أن يلزمه الفاعل ووجب أن يحكى إذ هي جملة ولو كان كذلك لم يجز لحاق اللام له إذ اللام لا تدخل على الفعل فلم يبق إلا أن تكون الألف واللام زائدة كما هي زائدة في قولهم الخمسة العشر درهما، وفي قول الشاعر: [الرجز]

يا ليت أمّ العمر كانت صاحبي بالعين غير منقوطة، وفي قوله: [الطويل]

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله

قال وأما الليسع فالألف واللام فيه بمنزلتها في الحارث والعباس لأنه من أبنية الصفات لكنها بمنزلة «اليسع» في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجىء فيها شيء هو على هذا الوزن كما لم يجىء منها شيء فيه لام تعريف فهما من الأسماء الأعجمية إلا أنهما مخالفان للأسماء فيما ذكر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وأما اليزيد فإنه لما سمي به أزيل منه معنى الفعل وأفردت فيه الاسمية فحصل علما وزيدت فيه الألف واللام لا لتعريف، وقال الطبري دخلت الألف واللام اتباعا للفظ الوليد، وَيُونُسَ هو ابن متّى ويقال يونس ويونس ويونس وكذلك يوسف ويوسف ويوسف وبكسر النون من يونس والسين من يوسف قرأ الحسن وابن مصرف وابن وثاب وعيسى بن عمر والأعمش في جميع القرآن والْعالَمِينَ معناه عالمي زمانهم.

قوله عز وجل:

٨٧

انظر تفسير الآية: ٩٠

٨٨

انظر تفسير الآية: ٩٠

٨٩

انظر تفسير الآية: ٩٠

٩٠

وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)

والمعنى وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات، ف مِنْ للتبعيض والمراد من آمن منهم نبيا كان أو غير نبي، ويدخل عيسى عليه السلام في ضمير قوله: وَمِنْ آبائِهِمْ، ولهذا قال محمد بن كعب الخال أب والخالة أم، وَاجْتَبَيْناهُمْ معناه تخيرناهم وأرشدناهم وضممناهم إلى خاصتنا وأرشدناهم إلى الإيمان والفوز برضى الله تعالى. قال مجاهد معناه أخلصناهم، و «الذرية» الأبناء وينطلق على جميع البشر ذرية لأنهم أبناء، وقال قوم: إن الذرية تقع على الآباء لقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ [يس: ٤١] يراد به نوع البشر وقوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ الآية، ذلِكَ إشارة إلى النعمة في قوله: وَاجْتَبَيْناهُمْ وإضافة الهدى إلى الله إضافة ملك، ولَحَبِطَ معناه تلف وذهب لسوء غلب عليه، وأُولئِكَ إشارة إلى من تقدم ذكره والْكِتابَ يراد به المصحف والتوراة والإنجيل والزبور، والْحُكْمَ يراد به اللب والفطنة والفقه في دين الله، وهؤُلاءِ إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كل كفار في ذلك العصر، قاله قتادة وابن عباس والسدي وغيرهم، وقَوْماً يراد به مؤمنو أهل المدينة، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم، فالآية على هذا التأويل وإن كان القصد في نزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال قتادة أيضا والحسن بن أبي الحسن المراد ب «القوم» من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقال أبو رجاء: المراد الملائكة، والباء في به متعلقة بقوله: بِكافِرِينَ والباء في قوله بِكافِرِينَ زائدة للتأكيد وقوله تعالى:

أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الآية، الظاهر في الإشارة، ب أُولئِكَ أنها إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين ومعنى الاقتداء اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة، وإنما يصح اقتداؤه بجميعهم في العقود والإيمان والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف وأما أعمال الشرائع فمختلفة، وقد قال عز وجل:

لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨] ويحتمل أن تكون الإشارة ب أُولئِكَ إلى قوله قَوْماً.

قال القاضي أبو محمد: وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم ويقلق بعضها، قال القاضي ابن الباقلاني: واختلف الناس هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه متعبدا بشرع من كان قبله، فقالت طائفة كان متعبدا، واختلف بشرع من؟ فقالت فرقة بشرع إبراهيم، وفرقة بشرع موسى، وفرقة بشرع عيسى، وقالت طائفة بالوقف في ذلك، وقالت طائفة لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله وهو الذي يترجح.

قال القاضي أبو محمد: ولا يحمل كلام القاضي على أنه لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله في توحيد ولا معتقد لأنّا نجد شرعنا ينبىء أن الكفار الذين كانوا قبل النبي عليه السلام كأبويه وغيرهما في النار ولا يدخل الله تعالى أحدا النار إلا بترك ما كلف، وذلك في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] وغير ذلك وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب ولا يكلف وإنما يوجب الشرع، فالوجه في هذا أن يقال إن آدم عليه السلام فمن بعده دعا إلى توحيد الله دعاء عاما واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي البالغ أن يبحث على الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن ولا يعبد غير الله، فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله وهو مع ذلك لم يكفر ولا عبد صنما بل تخلى فأولئك أهل الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث فعبد صنما وكفر فهذا تارك للواجب عليه مستوجب العقاب بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل بتوحيد الله عز وجل، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم إذ هي مختلفة وإذ لم يدعهم إليها نبي، وأما بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهل هو وأمته مخاطبون بشرع من تقدم فقالت فرقة لسنا مخاطبين بشيء من ذلك وقالت فرقة نحن مخاطبون بشرع من قبلنا.

قال القاضي أبو محمد: ومن قال من هذه الطائفة إن محمدا عليه السلام وأمته مخاطبون بكل شرائع من تقدم على الإطلاق فقد أحال لأن أحكام الشرائع تأتي مختلفة، وإنما يتحدق قول من قال منها إنّا متعبدون بما صح نقله من شرائع من قبلنا ولم تختلف فيه الشرائع وبالآخر مما اختلفت فيه لأنه الناسخ المتقدم ويرتبط في صحة نقل ذلك إلى ما وقع في القرآن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حكاية أحكام سالفة كقوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ [ص: ٤٤] وكقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] وكحكاية تزويج شعيب ابنته بموسى عليهما السلام، وكحديث النبي عليه السلام في قضية سليمان بين المرأتين في الولد ونحو ذلك، ولا يقتضي قولهم أكثر من جواز أن يتعبد بذلك وأما وجوب أن تعبد فغير لازم، ولا يتعلق عندي أشبه في ذلك من أن يقال النبي عليه السلام شرع لأمته أن يصلي الناس صلاته إذا ذكرها، ثم مثل في ذلك لا على طريق التعليل بقوله عز وجل لموسى وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] فننقل نحن هذا إلى غير ذلك من النوازل ونقول إنه كما شرع عندنا المثال في نسيان الصلاة كذلك نشرع هذه الأمثلة كلها.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قياس ضعيف، ولو ذكر النبي عليه السلام قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] على جهة التعليل لكانت الحجة به قوية، ولا يصح أن يقال يصح عندنا نقل ما في الشرائع من جهة من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره صحة ننقلها، وكذلك ما شرعه الحواريون لا سبيل إلى صحة شرع عيسى عليه السلام له، وقرأ ابن كثير وأهل مكة ونافع وأبو عمرو وأهل المدينة وعاصم «اقتده» بهاء السكت ثابتة في الوقف والوصل، وقرأ حمزة والكسائي «اقتد» قال بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف، وهذا هو القياس، وهي تشبه ألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء وتوصل غير مبتدأ بها، فكذلك هذه تثبت في الوقف وتحذف في الوصل، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء دون بلوغ الياء، قال ابن مجاهد وهذا غلط لأنها هاء وقف لا تعرب على حال، قال أبو علي ووجه ذلك أن تكون ضمير المصدر كأنه قال اقتد الاقتداء، وقرأ ابن ذكوان على هذه «اقتده» بإشباع الياء بعد الهاء، وقالت فرقة إن كسر الهاء إنما هو في هاء السكت كما قد تسكن هاء الضمير أحيانا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، ولا تجوز عليه القراءة بإشباع الياء، وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ الآية، المعنى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله وتوحيده أستكثر بها وأختص بدنياها، إن القرآن إلا موعظة، وذكرى ودعاء لجميع العالمين.

قوله عز وجل:

٩١

وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)

الضمير في قَدَرُوا وقالُوا قيل يراد به العرب قاله مجاهد وغيره، وقيل يراد به بنو إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل رجل مخصوص منهم يقال له مالك بن الصيف قاله سعيد بن جبير، وقيل في فنحاص قاله السدي، قَدَرُوا هو من توفية القدر والمنزلة فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك، غير أن تعليله بقولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثه الرسل وحَقَّ نصب على المصدر، ومن قال إن المراد كفار العرب فيجيء الاحتجاج عليهم بقوله:

مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى احتجاجا بأمر مشهور منقول بكافة قوم لم تكن العرب مكذبة لهم، ومن قال إن المراد بني إسرائيل فيجيء الاحتجاج عليهم مستقيما لأنهم يلتزمون صحة نزول الكتاب على موسى عليه السلام، وروي أن مالك بن الصيف كان سمينا فجاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله ألست تقرأ فيما أنزل على موسى أن الله يبغض الحبر السمين» فغضب وقال والله ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ والآية على قول من قال نزلت في قول بني إسرائيل تلزم أن تكون مدنية، وكذلك حكى النقاش أنها مدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وغيرهما «وما قدّروا» بتشديد الدال «الله حق قدره» بفتح الدال، وقرأ الجمهور في الأول بالتخفيف وفي الثاني بإسكانه.

وقوله تعالى:

قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الآية، أمره الله تعالى أن يستفهم على جهة التقرير على موضع الحجة، والمراد ب الْكِتابَ التوراة، ونُوراً وَهُدىً اسمان في موضع الحال بمعنى نيرا وهاديا، فإن جعلناه حالا من الْكِتابَ فالعامل فيه أَنْزَلَ، وإن جعلناه حالا من الضمير في بِهِ فالعامل فيه جاءَ، وقرأ جمهور الناس «تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون» بالتاء من فوق في الأفعال الثلاثة، فمن رأى أن الاحتجاج على بني إسرائيل استقامت له هذه القراءة وتناسقت مع قوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا ومن رأى أن الاحتجاج إنما هو على كفار العرب فيضطر في هذه القراءة إذ لا يمكن دفعها إلى أن يقول إنه خرج من مخاطبة قريش في استفهامهم وتقريرهم إلى مخاطبة بني إسرائيل بتوبيخهم وتوبيخ أفعالهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا مع بعده أسهل من دفع القراءة، فكأنه على هذا التأويل قال لقريش من أنزل الكتاب على موسى، ثم اعترض على بني إسرائيل فقال لهم خلال الكلام تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا» بالياء في الأفعال الثلاثة، فمن رأى الاحتجاج على قريش رآه إخبارا من الله عز وجل بما فعلته اليهود في الكتاب، ويحتمل أن يكون الإخبار بذلك لقريش أو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن فأمته متلقية ذلك، وقَراطِيسَ جمع قرطاس أي بطائق وأوراقا والمعنى يجعلونه ذا قراطيس من حيث يكتب فيها، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم آيات محمد عليه السلام والإخبار بنبوته وجميع ما عليهم فيه حجة وقوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال مجاهد وغيره هي مخاطبة للعرب، فالمعنى على هذا قصد ذكر منة الله عليهم بذلك أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم.

قال القاضي أبو محمد: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا يصلح على هذا المعنى لمخاطبة من انتفع بالتعليم ومن لم ينتفع به، ويصح الامتنان بتعليم الصنفين، وليس من شرط من علم أن يعلم ولا بد، اما أن التعليم الكامل هو الذي يقع معه التعلم، وقالت فرقة بل هي مخاطبة لبني إسرائيل، والمعنى على هذا يترتب على وجهين، أحدهما أن يقصد به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به، لأن آباء المخاطبين من بني إسرائيل كانوا علموا أيضا وعلم بعضهم، وليس ذلك في آباء العرب، والوجه الآخر أن يكون المقصود منهم أي وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه بعد التعليم ولا انتفعتم به لإعراضكم وضلالكم ثم أمره تعالى بالمبادرة إلى موضع الحجة أي قل: الله هو الذي أنزل الكتاب على موسى ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا أو نحو هذا فقل الله ثم أمره بترك من كفر وأعرض، وهذه آية منسوخة بآية القتال إن تأولت موادعة، وقد يحتمل أن لا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا ووعيدا مجردا من موادعة، و «الخوض» الذهاب فيما لا تسبر حقائقه، وأصله في الماء ثم يستعمل في المعاني المشكلة الملتبسة، ويَلْعَبُونَ في موضع الحال.

قوله عز وجل:

٩٢

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)

قوله هذا إشارة إلى القرآن، ومُبارَكٌ صفة له، ومُصَدِّقُ كذلك، وحذف التنوين من مُصَدِّقُ للإضافة وهي إضافة غير محضة لم يتعرف بها مصدق ولذلك ساغ أن يكون وصفا لنكرة، والَّذِي في موضع المفعول، والعامل فيه مصدر، ولا يصلح أن يكون مُصَدِّقُ مع حذف التنوين منه يتسلط على الَّذِي، ويقدر حذف التنوين للالتقاء وإنما جاء ذلك شاذا في الشعر في قوله: [المتقارب]

فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا

ولا يقاس عليه، وبَيْنَ يَدَيْهِ هي حال التوراة والإنجيل لأن ما تقدم فهو بين يدي ما تأخر، وقالت فرقة الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ القيامة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة، وقرأ الجمهور «ولتنذر أم القرى» أي أنت يا محمد، وقرأ أبو بكر عن عاصم «ولينذر» أي القرآن بمواعظه وأوامره، واللام في لِتُنْذِرَ متعلقة بفعل متأخر تقديره ولتنذر أم القرى أو من حولها أنزلناه، وأُمَّ الْقُرى مكة سميت بذلك لوجوه أربعة، منها أنها منشأ الدين والشرع ومنها ما روي أن الأرض منها دحية ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى، ومنها ما لحق عن الشرع من أنها قبلة كل قرية فهي لهذا كله أم وسائر القرى بنات، وتقدير الآية لتنذر أهل أم القرى، وَمَنْ حَوْلَها يريد أهل سائر الأرض، وحَوْلَها ظرف العامل فيه فعل مضمر تقديره ومن استقر حولها، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح وصفهم وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور، ويُؤْمِنُونَ بالقرآن ويصدقون بحقيقته، ثم قوى عز وجل مدحهم بأنهم «يحافظون على صلاتهم» التي هي قاعدة العبادات وأم الطاعات، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو بكر عن عاصم «صلواتهم» بالجمع، ومن قرأ بالإفراد فإنه مفرد يدل على الجميع وإذا انضافت الصلاة إلى ضمير لم تكتب إلا بالألف ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تنضف إلى ضمير.

قوله عز وجل:

٩٣

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)

هذه ألفاظ عامة فكل من واقع شيئا مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم وقال قتادة وغيره: المراد بهذه الآيات مسيلمة والأسود العنسي، وذكروا رؤية النبي عليه السلام للسوارين وقال السدي: المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الغامدي وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] فقال عبد الله بن سعد من تلقاء نفسه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: ٢٣] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبها فهكذا أنزلت، فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتدا وقال أنا أنزل مثل ما أنزل الله، وروي عنه أيضا أن النبي عليه السلام ربما أملى عليه «والله غفور رحيم» فبدلها هو «والله سميع عليم» فقال النبي عليه السلام: ذلك سواء ونحو هذا، وقال عكرمة: أولها في مسيلمة والآخر في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن بقوله والزارعات زرعا والخابزات خبزا إلى غير ذلك من السخافات.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فخصص المتأولون في هذه الآيات ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئا من معانيها كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما وقرأ الجمهور «سأنزل مثل ما أنزل» بتخفيف وقرأ أبو حيوة «سأنزّل» بفتح النون وتشديد الزاي.

قوله عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ الآية، جواب لَوْ محذوف تقديره لرأيت عجبا أو هولا ونحو هذا وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله والظَّالِمُونَ لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره وغير ذلك من أنواع الظلم الذي هو كفر و «الغمرات» جمع غمرة وهي المصيبة المبهمة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء، ومنه قول الشاعر [بشر بن أبي خازم] :

[الوافر]

ولا ينجي من الغمرات إلّا ... براكاء القتال أو الفرار

وَالْمَلائِكَةُ ملائكة قبض الروح، وباسِطُوا أَيْدِيهِمْ كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [المائدة: ٢٨] .

وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته، قال ابن عباس: يضربون وجوههم وأدبارهم، وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة، وقيل إن المراد بسط الأيدي في جهنم، والغمرات كذلك لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، وقوله: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ حكاية لما تقوله الملائكة، والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم، ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا فأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح، قال الحسن: هذا التوبيخ على هذا الوجه هو في جهنم، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر والإهانة كما يقول الرجل لمن يقهره بنفسه على أمر ما أفعل كذا، لذلك الأمر الذي هو يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليه.

وقوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ الآية، هذه حكاية عن قول الملائكة للكفرة عند قبض أرواحهم، والْهُونِ الهوان ومنه قول ذي الأصبع: [البسيط]

إليك عني فما ألمى براعية ... ترعى المخاض ولا أفضى على الهون

وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة «عذاب الهوان» بالألف.

وقوله تعالى: تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ لفظ جامع لكل نوع من الكفر ولكنه يظهر منه ومن قوله وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الإنحاء على من قرب ذكره من هؤلاء الذين ادعوا الوحي وأن ينزلوا مثل ما أنزل الله، فإنها أفعال بين فيها «قول غير الحق على الله» وبين فيها الاستكبار.

قوله عز وجل:

٩٤

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل، وفُرادى معناه فردا فردا، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] :

ترى النعرات الزرق تحت لبانه ... فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقرأ أبو حيوة «فرادى» منونا على وزن فعال وهي لغة تميم، وفُرادى قيل هو جمع فرد بفتح الراء، وقيل جمع فرد بإسكان الراء والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء، فيكون قوله: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشبيها بالانفراد الأول في وقت الخلقة، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله: كَما خَلَقْناكُمْ زيادة معان على الانفراد كأنه قال ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا، وخَوَّلْناكُمْ معناه أعطيناكم، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير:

[الطويل] :

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

وَراءَ ظُهُورِكُمْ إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجودا.

وقوله تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الآية، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها، قال الطبري: وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى.

قال القاضي أبو محمد: ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر، وحمزة «بينكم» بالرفع، وقرأ نافع والكساء «بينكم» بالنصب أما الرفع فعلى وجوه، أولاها أنه الظرف استعمل اسما وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه، اسما في قوله تعالى: مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصّلت: ٥] وكقولهم فيما حكى سيبويه أحمر بن بين العينين، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين» في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعا عن العرب وإنما انتزع من الآية، والآية محتملة، قال الخليل في العين «والبين» الوصل.

لقوله عز وجل: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فعلل سوق اللفظة بالآية، والآية معرضة لغير ذلك، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين» الوصل وقال: «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله: قد أنصف البين من البين» .

والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين» على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد، ويكون في قوله:

تَقَطَّعَ تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد ذلك، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك «بالبين» الذي هو الفرقة، وأما وجه قراءة النصب فأن يكون ظرفا ويكون الفعل مستندا إلى شيء محذوف وتقديره لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس: مجاهد والسدي وغيرهما، وجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش وهو أن يكون الفعل مسندا إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه وهو في النية مرفوع، ومثل هذا عنده قوله: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الجن: ١١] وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم» بزيادة ما وضَلَّ معناه تلف وذهب، وما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك الله في الألوهية.

قوله عز وجل:

٩٥

انظر تفسير الآية: ٩٦

٩٦

إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)

هذا ابتداء تنبيه على العبرة والنظر، ويتصل المعنى بما قبله لأن القصد أن الله لا هذه الأصنام، وقال مجاهد وأبو مالك هذه إشارة إلى الشق الذي في حبة البر ونواة التمر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والعبرة على هذا القول مخصوصة في بعض الحب وبعض النوى، وليس لذلك وجه، وقال الضحاك وقتادة والسدي وغيرهما هذه إشارة إلى فعل الله في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا هو الظاهر الذي يعطي العبرة التامة، فسبحان الخلاق العليم، وقال الضحاك: فالِقُ بمعنى خالق، وقال السدي وأبو مالك: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ إشارة إلى إخراج النبات الأخضر والشجر الأخضر من الحب اليابس والنوى اليابس، فكأنه جعل الخضرة والنضارة حياة واليبس موتا ومُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ إشارة إلى إخراج اليابس من النبات والشجر، وقال ابن عباس وغيره، بل ذلك كله إشارة إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وإخراج النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك سائر الحيوان والطير من البيض والحوت وجميع الحيوان.

قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أرجح وإنما تعلق قائلو القول الأول بتناسب تأويلهم مع قوله:

فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وهما على هذا التأويل الراجح معنيان متباينان فيهما معتبر، وقال الحسن: المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، وقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ ابتداء وخبر متضمن التنبيه، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي تصرفون وتصدون وفالِقُ الْإِصْباحِ أي شاقه ومظهره، والفلق الصبح، وقرأ الجمهور «فالق الإصباح» بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء «فالق الأصباح» بفتح الهمزة جمع صبح، وقرأت فرقة «فالق الإصباح» بحذف التنوين «فالق» لالتقاء الساكنين، ونصب «الإصباح» ب «فالق» كأنه أراد «فالق الإصباح» بتنوين القاف، وهذه قراءة شاذة، وإنما جوز سيبويه مثل هذا في الشعر وأنشد عليها: [المتقارب]

فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا

وحكى النحاس عن المبرد جواز ذلك في الكلام، وقرأ أبو حيوة وإبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فلق الإصباح» بفعل ماض، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وجاعل الليل» وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وجعل الليل» ، وهذا لما كان «فالق» بمعنى الماضي فكأن اللفظ «فلق الإصباح» وجعل، ويؤيد ذلك نصب الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وقرأ الجمهور «سكنا» وروي عن يعقوب «ساكنا» قال أبو عمرو الداني ولا يصح ذلك عنه، ونصبه بفعل مضمر إذا قرأنا «وجاعل» لأنه بمعنى المضي، وتقدير الفعل المضمر وجاعل الليل يجعله سكنا، وهذا مثل قولك هذا معطي زيد أمس درهما، والذي حكاه أبو علي في هذا أن ينتصب بما في الكلام من معنى معطي. وقرأ أبو حيوة «والشمس والقمر» بالخفض عطفا على لفظ «الليل» وحُسْباناً جمع حساب كشهبان في جمع شهاب، أي تجري بحساب، هذا قول ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد، وقال مجاهد في صحيح البخاري المراد حسبان كحسبان إلى حي وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه.

قوله عز وجل:

٩٧

انظر تفسير الآية: ٩٨

٩٨

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)

هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين، فالحجة بها على الكافرين قائمة والعبرة بها للمؤمنين ممكنة متعرضة، وجَعَلَ هنا بمعنى خلق لدخولها على مفعول واحد، وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني في لِتَهْتَدُوا لأنه يقدر وهو الذي جعل لكم النجوم هداية، وفِي ظُلُماتِ هي هاهنا على حقيقتها في ظلمة الليل بقرينة النجوم التي لا تكون إلا بالليل، ويصح أن تكون «الظلمات» هاهنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها الشمس، وذكر الله تعالى النجوم في ثلاث منافع وهي قوله:

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: ٥] وقوله: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: ٥] وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فالواجب أن يعتقد أن ما عدا هذه الوجوه من قول أهل التأثير باطل واختلاق على الله وكفر به، وفَصَّلْنَا معناه بينا وقسمنا والْآياتِ الدلائل ولِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ تخصيص لهم بالذكر وتنبيه منهم لتحصلهم الآية المفصلة المنصوبة، وغيرهم تمر عليهم الآيات وهم معرضون عنها، وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ الآية، الإنشاء فعل الشيء، ومِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يريد آدم عليه السلام، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «فمستقر» بفتح القاف على أنه موضع استقرار، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف على أنه اسم فاعل، وأجمعوا على فتح الدال من «مستودع» بأن يقدر موضع استيداع، وأن يقدر أيضا مفعولا ولا يصح ذلك في مستقر لأن استقر لا يتعدى فيبنى منه مفعول أما أنه روى هارون الأعور عن أبي عمرو «ومستودع» بكسر الدال، فمن قرأ «فمستقر ومستودع» على أنها موضع استقرار وموضع استيداع علقها بمجرور تقديره فلكم مستقر ومستودع، ومن قرأ «فمستقر ومستودع» على اسم الفاعل في «مستقر» واسم المفعول في «مستودع» علقها بمجرور تقديره فمنكم مستقر ومستودع واضطرب المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع، فقال الجمهور مستقر في الرحم ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم، وقال ابن عون: مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالوا قد توفي فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن «مستقر ومستودع» فقال: مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، وقال الحسن بن أبي الحسن: مستقر في القبور ومستودع في الدنيا، وقال ابن عباس: المستقر الأرض والمستودع عند الرحم، وقال ابن جبير: المستودع في الصلب والمستقر في الآخرة والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقرارا مطلقا لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقرارا مطلقا، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر» بالإضافة إلى التي قبلها و «مستودع» بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة ولا بد، ويَفْقَهُونَ معناه يفهمون وقد تقدم تفسير مثل هذا آنفا.

قوله عز وجل:

٩٩

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)

السَّماءِ في هذا الموضع السحاب، وكل ما أظلك فهو سماء، وماءً أصله موه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فجاء ماه فبدلت الهاء بالهمزة لأن الألف والهاء ضعيفان مهموسان، وقوله: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ قال بعض المفسرين أي مما ينبت، وحسن إطلاق العموم في كُلِّ شَيْءٍ لأن ذكر النبات قبله قد قيد المقصد وقال الطبري والمراد ب كُلِّ شَيْءٍ ما ينمو من جميع الحيوانات والنبات والمعادن وغير ذلك، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء، والضمير في مِنْهُ يعود على النبات، وفي الثاني يعود على الخضر، وخَضِراً بمعنى أخضر، ومنه قوله عليه السلام: «الدنيا خضرة حلوة» بمعنى خضراء.

قال القاضي أبو محمد: وكأن «خضرا» إنما يأتي أبدا لمعنى النضارة وليس للون فيه مدخل، وأخضر إنما تمكنه في اللون، وهو في النضارة تجوز، وقوله: حَبًّا مُتَراكِباً يعم جميع السنابل وما شاكلها كالصنوبر، والرمان وغيرها من جميع النبات، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ تقديره ونخرج من النخل ومِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول بنخرج، و «الطلع» أول ما يخرج من النخلة في أكمامه، وقِنْوانٌ جمع قنو وهو العذق بكسر العين وهي الكباسة، والعرجون عوده الذي ينتظم التمر، قرأ الأعرج «قنوان» بفتح القاف، وقال أبو الفتح ينبغي أن يكون اسما للجمع غير مكسر لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع قال المهدوي وروي عن الأعرج ضم القاف، وكذلك أنه جمع «قنو» بضم القاف، قال الفراء وهي لغة قيس وأهل الحجاز، والكسر أشهر في العرب، وقنو يثنى قنوان منصرفة النون، ودانِيَةٌ معناه قريبة من المتناول، قاله ابن عباس والبراء بن عازب والضحاك وقيل قريبة بعضها من بعض، وقرأ الجمهور «وجنات» بنصب جنات عطفا على قوله نبات، وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى ورويت عن أبي بكر عن عاصم «وجنات» بالرفع على تقدير ولكم جنات أو نحو هذا، وقال الطبري وهو عطف على قنوان.

قال القاضي أبو محمد: وقوله ضعيف والزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ بالنصب إجماعا عطفا على قوله:

حَبًّا، ومُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ قال قتادة: معناه تتشابه في اللون وتتباين في الثمر، وقال الطبري: جائز أن تتشابه في الثمر وتتباين في الطعم، ويحتمل أن يريد تتشابه في الطعم وتتباين في المنظر، وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات، وقوله تعالى: انْظُرُوا وهو نظر بصر يترتب عليه فكرة قلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم «إلى ثمره» بفتح الثاء والميم وهو جمع ثمرة كبقرة وبقر وشجرة وشجر، وقرأ يحيى بن وثاب ومجاهد «ثمره» بضم الثاء والميم قالا وهي أصناف المال.

قال القاضي أبو محمد: كأن المعنى انظروا إلى الأموال التي تتحصل منه، وهي قراءة حمزة والكسائي، قال أبو علي والأحسن فيه أن يكون جمع ثمره كخشبة وخشب وأكمة وأكم، ومنه قول الشاعر:

[الطويل]

ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر نظيره في المعتل لابة ولوب وناقة ونوق وساحة وسوح.

ويجوز أن يكون جمع جمع فتقول ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر، وقرأت فرقة «إلى ثمره» بضم الثاء وإسكان الميم كأنها ذهبت إلى طلب الخفة في تسكين الميم، والثمر في اللغة جنى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر ثمارا فتجوز، وقرأ جمهور الناس و «ينعه» بفتح الياء وهو مصدر ينع يينع إذا نضج، يقال ينع وأينع، وبالنضج فسر ابن عباس هذه الآية، ومنه قول الحجاج «إني لأرى رؤوسا قد أينعت» ، ويستعمل ينع بمعنى استقل واخضر ناضرا، ومنه قول الشاعر: [المديد]

في قباب حول دسكرة ... حولها الزّيتون قد ينعا

وقيل في يَنْعِهِ إنه جمع يانع مثل في تاجر وتجر وراكب وركب ذكره الطبري، وقرأ ابن محيصن وقتادة والضحاك «وينعه» بضم الياء أي نضجه، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني. «ويانعه» ، وقوله إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ إيجاب تنبيه وتذكير وتقدم تفسير مثله.

قوله عز وجل:

١٠٠

انظر تفسير الآية: ١٠٢

١٠١

انظر تفسير الآية: ١٠٢

١٠٢

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)

جَعَلُوا بمعنى صيروا، والْجِنَّ مفعول وشُرَكاءَ مفعول ثان مقدم، ويصح أن يكون قوله شُرَكاءَ مفعولا أولا ولِلَّهِ في موضع المفعول الثاني والْجِنَّ بدل من قوله شُرَكاءَ، وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا، أما الذين «خرقوا البنين» فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكرو البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في جَعَلُوا وخَرَقُوا لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء الجنّ» بخفض النون، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجن والجن» بالخفض والرفع على تقديرهم الجن، وقرأ الجمهور «وخلقهم» بفتح اللام على معنى وهو خلقهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو خلقهم» يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين، وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» بسكون اللام عطفا على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناما شركاء بالله، وقرأ السبعة سوى نافع «وخرقوا» بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء على المبالغة، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا» من التحريف كذا قال أبو الفتح، قال أبو عمرو الداني قرأ ابن عباس «حرفوا» خفيفة الراء، وابن عمر «حرّفوا» مشددة الراء، وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى، سُبْحانَهُ أي تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى وبَدِيعُ بمعنى: مبدع ومخترع وخالق، فهو بناء اسم فاعل كما جاء: سميع بمعنى مسمع وأَنَّى بمعنى كيف ومن أين، فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير، وقرأ جمهور الناس «ولم تكن» بالتاء على تأنيث علامة الفعل، وقرأ إبراهيم النخعي: بالياء على تذكيرها وتذكير كان وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال، فقولك: كان في الدار هند أسوغ من قام في الدار هند، وحسن القراءة الفصل بالظرف الذي هو الخبر ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون في تَكُنْ ضمير اسم الله تعالى، وتكون الجملة التي هي لَهُ صاحِبَةٌ خبر كان، ويتجه أن يكون في «يكن» ضمير أمر وشأن وتكون الجملة بعد تفسيرا له وخبرا، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد، وقوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه، فليس هو عموما مخصصا على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا ثم يخرجه التخصيص، وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان: قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه، وأما قوله وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهذا عموم على الإطلاق ولأن الله عز وجل يعلم كل شيء لا رب غيره ولا معبود سواه، ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية جاء قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ الآية تتضمن تقريرا وحكما إخلاصا أمرا بالعبادة وإعلاما بأنه حفيظ رقيب على كل فعل وقول وفي هذا الإعلام تخويف وتحذير.

قوله تعالى:

١٠٣

انظر تفسير الآية: ١٠٥

١٠٤

انظر تفسير الآية: ١٠٥

١٠٥

لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)

أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلا ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفا ولا محدودا، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢] وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة، وذكر هذا المذهب لمالك فقال: فأين هم عن قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطفّفين: ١٥] .

قال القاضي أبو محمد: فقال بدليل الخطاب ذكره النقاش ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ونحوه من الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها، وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحال ذلك بآراء مجردة، وتمسكوا بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها، وانفصال آخر، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك ومعنى الرؤية، ونقول إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه، وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ويحسن معناه، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي، فرقوا بين الرؤية والإدراك، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنّا لمدركون فقال إنهم رأوهم ولم يدركوهم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا كله خطأ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو باشتراك، وقال بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة، قال: وقال بعضهم: إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين، أي إنه لا تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الأقوال كلها ضعيفة ودعا ولا تستند إلى قرآن ولا حديث، واللَّطِيفُ المتلطف في خلقه واختراعه وإتقانه، وبخلقه وعباده والْخَبِيرُ المختبر لباطن أمورهم وظاهرها، و «البصائر» جمع بصيرة وهي ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها، بالاعتبار، فكأنه قال قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، والبصيرة أيضا هي المعتقد المحصل في قول الشاعر [الأسعر الجعفي] : [الكامل]

راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأي

وقال بعض الناس في هذا البيت البصيرة طريقة الدم، والشاعر إنما يصف جماعة مشوا به في طلب دم ففتروا فجعلوا الأمر وراء ظهورهم، وقوله تعالى: فَمَنْ أَبْصَرَ ومَنْ عَمِيَ عبارة مستعارة فيمن اهتدى ومن ضل، وقوله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ كان في أول الأمر وقبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حفيظا على العالم آخذا لهم بالإسلام والسيف، وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ الآية، الكاف في قوله وَكَذلِكَ في موضع نصب ب نُصَرِّفُ أي ومثل ما بينا البصائر وغير ذلك نصرف الآيات أي نرددها ونوضحها وقرأت طائفة «وليقولوا درست» بسكون اللام على جهة الأمر ويتضمن التوبيخ والوعيد. وقرأ الجمهور «وليقولوا» بكسر اللام على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] إلى ذلك، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «درست» أي يا محمد درست في الكتب القديمة ما تجيبنا به، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» أي أنت يا محمد دارست غيرك في هذه الأشياء أي قارأته وناظرته، وهذا إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود، وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة «درست» بإسناد الفعل إلى الآيات كأنهم أشاروا إلى أنها ترددت على أسماعهم حتى بليت في نفوسهم وامحت، قال أبو علي واللام في لِيَقُولُوا على هذه القراءة بمعنى لئلا يقولوا أي صرفت الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه الأساطير قديمة قد بليت وتكررت على الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة، وقرأت فرقة «دارست» كأنهم أرادوا دراستك يا محمد أي الجماعة المشار إليها قبل من سلمان واليهود وغيرهم، وقرأت فرقة «درست» بضم الراء وكأنها في معنى درست أي بليت، وقرأ قتادة «درست» بضم الدال وكسر الراء وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه ورويت عن الحسن، قال أبو الفتح في «درست» ضمير الآيات، ويحتمل أن يراد عفيت وتنوسيت، وقرأ أبي بن كعب «درس» وهي في مصحف عبد الله، قال المهدوي وفي بعض مصاحف عبد الله أيضا «درس» ، ورويت عن الحسن، وقرأت فرقة «درّس» بتشديد الراء على المبالغة في درس، وهذه الثلاثة الأخيرة مخالفة لخط المصحف، واللام في قوله ولِيَقُولُوا وفي قوله وَلِنُبَيِّنَهُ متعلقان بفعل متأخر تقديره صرفناها، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «ولتبينه» بالتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأه فرقة «وليبينه» بياء أي الله تعالى، وذهب بعض الكوفيين إلى أن لا مضمرة بعد أن المقدرة في قوله وَلِيَقُولُوا فتقدير الكلام عندهم وأن لا يقولوا كما أضمروها في قوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: ١٧٦] .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قلق ولا يجيز البصريون إضمار لا في موضع من المواضع.

قوله عز وجل:

١٠٦

انظر تفسير الآية: ١٠٨

١٠٧

انظر تفسير الآية: ١٠٨

١٠٨

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)

هذان أمران للنبي صلى الله عليه وسلم مضمنهما الاقتصار على اتباع الوحي وموادعة الكفار. وذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ الإعراض عنهم بالقتال والسوق إلى الدين طوعا أو كرها، وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا في ظاهرها رد على المعتزلة القائلين إنه ليس عند الله لطف يؤمن به الكافر وإن الكافر والإنسان في الجملة يخلق أفعاله، وهي متضمنة أن إشراكهم وغيره وقف على مشيئة الله عز وجل، وقوله تعالى: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً كان في أول الإسلام، وكذلك وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وقوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، مخاطبة للمؤمنين والنبي عليه السلام، وقال ابن عباس وسببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إلهه ونهجوه فنزلت الآية، وحكمها على كل حال باق في الأمة، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل فلا يحل للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو نحوه، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب الَّذِينَ وذلك على معتقد الكفرة فيها، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة.

وقرأ جمهور الناس «عدوا» بفتح العين وسكون الدال نصب على المصدر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن زيد «عدوّا» بضم العين والدال وتشديد الواو، وهذا أيضا نصب على المصدر وهو من الاعتداء، وقرأ بعض الكوفيين «عدوا» بفتح العين وضم الدال نصب على الحال أي في حال عداوة لله، وهو لفظ مفرد يدل على الجمع، وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ بيان لمعنى الاعتداء المتقدم، وقوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذنب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء، وقوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ يتضمن وعدا جميلا للمحسنين ووعيدا ثقيلا للمسيئين.

قوله عز وجل:

١٠٩

انظر تفسير الآية: ١١٠

١١٠

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

الضمير في قوله وَأَقْسَمُوا عائد على المشركين المتقدم ذكرهم، وجَهْدَ نصب على المصدر والعامل فيه أَقْسَمُوا على مذهب سيبويه لأنه في معناه، وعلى مذهب أبي العباس المبرد فعل من لفظة، واللام في قوله لَئِنْ لام موطئة للقسم مؤذنة به، وأما اللام المتلقية للقسم فهي قوله لَيُؤْمِنُنَّ وآيَةٌ يريد علامة، وحكي أن الكفار لما نزلت إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: ٤] أقسموا حينئذ أنها إن نزلت آمنوا فنزلت هذه الآية.

وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهبا وأقسموا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في ذلك فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم إذا لم تؤمن بالآيات المقترحة، وإن شئت أخروا حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل حتى يتوب تائبهم ونزلت هذه الآية، وقرأ ابن مصرف «ليؤمنن» بفتح الميم والنون وبالنون الخفيفة، ثم قال تعالى قل لهم يا محمد على جهة الرد والتخطية إنما الآيات بيد الله وعنده، ليست عندي فتقترح عليّ، ثم قال وَما يُشْعِرُكُمْ فاختلف المتأولون فمن المخاطب بقوله وَما يُشْعِرُكُمْ ومن المستفهم ب «ما» التي يعود عليها الضمير الفاعل في «يشعركم» ، فقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بذلك الكفار، وقال الفراء وغيره، المخاطب بها المؤمنون، وَما يُشْعِرُكُمْ معناه وما يعلمكم وما يدريكم، وقرأ قوم «يشعركم» بسكون الراء، وهي على التخفيف، ويحسنها أن الخروج من كسرة إلى ضمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية دواد الايادي «إنها» بكسر الألف على القطع واستئناف الإخبار، فمن قرأ «تؤمنون» بالتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة استقامت له المخاطبة أولا وآخرا للكفار، ومن قرأ «يؤمنون» بالياء وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي فيحتمل أن يخاطب أولا وآخرا المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله وَما يُشْعِرُكُمْ الكفار ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، ومفعول يُشْعِرُكُمْ الثاني محذوف ويختلف تقديره بحسب كل تأويل، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي وابن عامر «أنها» بفتح الألف، فمنهم من جعلها «أن» التي تدخل على الجمل وتأتي بعد الأفعال كعلمت وظننت وأعمل فيها يُشْعِرُكُمْ، والتزم بعضهم «أن لا» زائدة في قوله لا يُؤْمِنُونَ وأنّ معنى الكلام وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو تؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: ٩٥] لأن المعنى وحرام على قرية مهلكة رجوعهم، وكما جاءت في قول الشاعر: [الطويل]

أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

قال الزجاج أراد «أبى جوده البخل» ، كما جاءت زائدة في قول الشاعر:

أفمنك لا برق كان وميضه ... غاب تسنمه ضرام مثقب

ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى لأنها لو لم تكن زائدة لعاد الكلام عذرا للكفار وفسد المراد بالآية، وضعّف الزجّاج وغيره زيادة لا وقال هذا غلط، ومنهم من جعل «أنها» بمعنى لعلها وحكاها سيبويه عن الخليل وهو تأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة لا، وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب: وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، ومن هذا المعنى قول الشاعر [أبو النجم] : [الرجز]

قلت لشيبان ادن من لقائه ... أنّى تغذّى القوم من شوائه

فهذه كلها بمعنى لعل وضعّف أبو علي هذا بأن التوقع الذي فيه لا يناسب الآية بعد التي حكمت بأنهم لا يؤمنون، وترجح عنده في الآية أن تكون «أن» على بابها وأن يكون المعنى قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت «لا يؤمنون» ، فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم، وتكون الآية نظير قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: ٥٩] أي بالآيات المقترحة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويترتب على هذا التأويل أن تكون «ما» نافية، ذكر ذلك أبو علي فتأمل وترجح عنده أيضا أن تكون لا زائدة، وبسط شواهده في ذلك، وحكى بعض المفسرين أن في آخر الآية حذفا يستغنى به عن زيادة لا، وعن تأويلها بمعنى لعل وتقديره عندهم أنها إذا جاءت «لا يؤمنون» أو يؤمنون.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف لا يعضده لفظ الآية ولا يقتضيه وتحتمل الآية أن يكون المعنى يتضمن الإخبار أنهم لا يؤمنون، وقيل لهم وما يشعركم بهذه الحقيقة أي لا سبيل إلى شعوركم بها وهي حق في نفسها وهم لا يؤمنون أن لو جاءت، وما استفهام على هذا التأويل، وفي مصحف ابن مسعود «وما يشعركم إذا جاءتهم يؤمنون» بسقوط أنها، وقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا المعنى على ما قالت فرقة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار وفي لهيبها في الآخرة لما لم يؤمنوا في الدنيا ثم استأنف على هذا ونذرهم في الدنيا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

وقالت فرقة إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى، والترك في الضلالة والكفر، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لو يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة الله، فأخبر الله تعالى على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقرأ أبو رجاء «يذرهم» بالياء ورويت عن عاصم، وقرأ إبراهيم النخعي «ويقلب ويذرهم» بالياء فيهما كناية عن الله تبارك وتعالى وقرأ أيضا فيما روى عنه مغيرة «وتقلب» بفتح التاء واللام بمعنى وتنقلب أفئدتهم وأبصارهم بالرفع فيهما، «ويذرهم» بالياء وجزم الراء، وقالت فرقة قوله كَما في هذه الآية إنما هي بمعنى المجازاة أي لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على الله عز وجل أو على القرآن أو على النبي عليه السلام، ونَذَرُهُمْ معناه نتركهم، وقرأ الأعمش والهمداني «ويذرهم» بالياء وجزم الراء على وجه التخفيف، والطغيان: التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء، والعمى التردد والحيرة.

قوله عز وجل:

١١١

انظر تفسير الآية:١١٢

١١٢

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)

أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره، فيخبر بصدق محمد أو يجمع عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره، وهذا يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار إلى الإيمان، وقال ابن جريج: نزلت هذه الآية في المستهزئين.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: لا يثبت إلا بسند، وقرأ نافع وابن عامر وغيرهما «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس، وغيره ونصبه على الحال، وقال المبرد: المعنى ناحية كما تقول له قبل فلان دين.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فنصبه على هذا هو على الظرف، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم «قبلا» بضم القاف والباء، وكذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا وقرأ الْعَذابُ قُبُلًا [الكهف: ٥٥] مكسورة القاف واختلف في معناه فقال عبد الله بن زيد ومجاهد وابن زيد: «قبل» جمع قبيل أي صنفا صنفا ونوعا نوعا كما يجمع قضيب على قضب وغيره، وقال الفراء والزجّاج هو جمع قبيل وهو الكفيل «وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء» بصدق محمد وذكره الفارسي وضعفه، وقال بعضهم قبل الضم بمعنى قبل بكسر القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر، ومنه قوله تعالى: قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف: ٢٦] ومنه قراءة ابن عمر لقبل عدتهن [الطلاق: ١] أي لاستقبالها ومواجهتها في الزمن وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة «قبلا» بضم القاف وسكون الباء، وذلك على جهة التخفيف.

وقرأ طلحة بن مصرف «قبلا» بفتح القاف وإسكان الباء، وقرأ أبيّ والأعمش «قبيلا» بفتح القاف وكسر الباء وزيادة ياء، والنصب في هذا كله على الحال، وقوله عز وجل: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ الضمير عائد إلى الكفار المتقدم ذكرهم، والمعنى يجهلون أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت «لم يؤمن إلا أن يشاء الله» له ذلك، وقوله تعالى:

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ الآية، تتضمن تسلية النبي عليه السلام وعرض القدوة عليه، أي إن هذا الذي امتحنت به يا محمد من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء ليبتلي الله أولي العزم منهم، وعَدُوًّا مفرد في معنى الجمع، ونصبه على المفعول الأول ل جَعَلْنا والمفعول الثاني في قوله لِكُلِّ نَبِيٍّ، وشَياطِينَ بدل من قوله عَدُوًّا، ويصح أن يكون المفعول الأول شَياطِينَ والثاني عَدُوًّا، وقوله شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يريد به المتمردين من النوعين الذين هم من شيم السوء كالشياطين، وهذا قول جماعة من المفسرين ويؤيده حديث أبي ذر أنه صلى يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوذ يا أبا ذر من شياطين الجن والإنس» ، قال وإن من الإنس لشياطين؟ قال: نعم. قال السدي وعكرمة: المراد بالشياطين الموكلون بالإنس والشياطين الموكلون بمؤمني الجن، وزعما أن للجن شياطين موكلين بغوايتهم وأنهم يوحون إلى شياطين الإنس بالشر والوسوسة يتعلمها بعضهم من بعض، قالا: ولا شياطين من الإنس.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر، ويُوحِي معناه يلقيه في اختفاء فهو كالمناجاة والسرار، وزُخْرُفَ الْقَوْلِ معناه محسنه ومزينه بالأباطيل، قاله عكرمة ومجاهد، و «الزخرفة» أكثر ذلك إنما يستعمل في الشر والباطل، وغُرُوراً نصب على المصدر ومعناه أنهم يغرون به المضللين ويوهمون لهم أنهم على شيء والأمر بخلاف، والضمير في قوله فَعَلُوهُ عائد على اعتقادهم العداوة، ويحتمل على الوحي الذي تضمنته يُوحِي. وقوله فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ لفظ يتضمن الأمر بالموادعة منسوخ بآيات القتال، قال قتادة كل ذر في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال ويَفْتَرُونَ معناه يختلفون ويشتقون، وهو من الفرقة تشبيها بفري الأديم.

قوله عز وجل:

١١٣

انظر تفسير الآية:١١٤

١١٤

وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)

وَلِتَصْغى إِلَيْهِ معناه لتميل يقال صغى يصغى وأصلها يصغي بكسر الغين لكن رده حرف الحلق إلى الفتح ويقال صغى يصغو وأصغى يصغي وصغى يصغى وأَفْئِدَةُ جمع فؤاد و «يقترفون» معناه يواقعون ويجترحون، وهي مستعملة أكثر ذلك في الشر والذنوب ونحوه، والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال على أنها لام كي، فإما أن تكون معطوفة على غُرُوراً [الأنعام: ١١٢] ، وإما أن تكون متعلقة بفعل مؤخر تقديره فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك، فهي لام صيرورة قاله الزجّاج، ولا يحتمل أن تكون هذه اللامات على هذه القراءة لام الأمر وضمنها الوعيد، وتبقى في «لتصغى» على نحو ما جاء من ذلك في قول الشاعر:

ألم يأتيك إلخ....

إلى غير ذلك مما قد قرىء به. قال أبو الفتح قرأها الحسن بالتسكين في الثلاثة وهي لام كي وهي معطوفة على قوله غُرُوراً [الأنعام: ١١٢] التقدير لأجل الغرور «ولتصغى» وإسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال قوي في القياس.

قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن تحمل قراءة الحسن بسكون اللامات الثلاثة على أنها لام الأمر المضمن الوعيد والتهديد، والخط على هذه القراءة «ولتصغ» ذكر أبو عمرو الداني أن تسكينه في اللامات الثلاثة وكذلك قال أبو الفتح وذكر أن الحسن إنما يسكن اللامين الثانية والثالثة.

قال القاضي أبو محمد: وذلك يخالفه خط المصحف في «ولتصغى» .

قال القاضي أبو محمد: ويتحصل أن يسكن اللام في وَلِتَصْغى على ما ذكرناه في قراءة الجماعة، قال أبو عمرو: وقراءة الحسن إنما هي «لتصغي» بكسر الغين، وقراءة إبراهيم النخعي «لتصغي» بضم التاء وكسر الغين من أصغى يصغي، وكذلك قرأ الجراح بن عبد الله، وقوله تعالى: أَفَغَيْرَ نصب ب أَبْتَغِي، وحَكَماً نصب على البيان، والتمييز، ومُفَصَّلًا معناه مزال الإشكال قد فصلت آياته، وإن كان معناها يعم في أن الله لا يبتغى سواه حكما في كل شيء وفي كل قضية فإنّا نحتاج في وصف الكلام واتساق المعاني أن ننظر إلى قضية فيما تقدم تكون سببا إلى قوله أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً فهي والله أعلم حكمه عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات. وحكمه بأن جعل الأنبياء أعداء من الجن والإنس، وحَكَماً أبلغ من حاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر، وحَكَماً نصب على البيان أو الحال، وبهذه الآية خاصمت الخوارج عليا رضي الله عنه في تكفيره بالتحكيم، ولا حجة لها لأن الله تعالى حكم في الصيد وبين الزوجين فتحكيم المؤمنين من حكمه تعالى.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.

يتضمن الإشهاد بمؤمنيهم والطعن والتنبيه على مشركيهم وحسدتهم، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «منزّل» بالتشديد، والباقون بالتخفيف، «والكتاب» أولا هو القرآن، وثانيا اسم جنس التوراة والإنجيل والزبور والصحف، ووصفه أهل الكتاب بالعلم عموم بمعنى الخصوص وإنما يريد علماءهم وأحبارهم، وقوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين.

قوله عز وجل:

١١٥

انظر تفسير الآية:١١٧

١١٦

انظر تفسير الآية:١١٧

١١٧

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)

تَمَّتْ في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقا وعدلا، وليس بتمام من نقص، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل، و «الكلمات» ما نزل على عباده، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة» بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن. وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك «كلمات» بالجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات» بالجمع، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة.

قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي بعيد معترض، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى:

صِدْقاً فيما تضمنه من خبر وَعَدْلًا فيما تضمنه من حكم، وهما مصدران في موضع الحال، قال الطبري نصبا على التمييز وهذا غير صواب، ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ [التوبة ٨٣] إلى الخالفين، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح: ١٥] أو في قوله فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: ٨٣] لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها، هذا مذهب جماعة من العلماء، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح، وفي حرف أبي بن كعب، «لا مبدل لكلمات الله» ، وقوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ الآية، المعنى فامض يا محمد لما أمرت به وانفذ لرسالتك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك وذكر أَكْثَرَ لأن أهل الأرض حينئذ كان أكثرهم كافرين ولم يكن المؤمنون إلا قلة، وقال ابن عباس: الْأَرْضِ هنا الدنيا، وحكي أن سبب هذه الآية أن المشركين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمر الذبائح وقالوا: تأكل ما تقتل وتترك ما قتل الله؟، فنزلت الآية، ووصفهم عز وجل بأنهم يقتدون بظنونهم ويتبعون تخرصهم، والخرص الحزر والظن وقرأ جمهور الناس «يضل» بفتح الياء.

وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يضل» بضم الياء، ورواه أحمد بن أبي شريح عن الكسائي، ومَنْ في قوله مَنْ يَضِلُّ في موضع نصب بفعل مضمر تقديره يعلم من، وقيل في موضع رفع كأنه قال أي يضل عن سبيله ذكره أبو الفتح وضعفه أبو علي وقيل في موضع خفض بإضمار باء الجر كأنه قال: بمن يضل عن سبيله، وهذا ضعيف، قال أبو الفتح هذا هو المراد فحذفت باء الجر ووصل أَعْلَمُ بنفسه، قال ولا يجوز أن يكون أَعْلَمُ مضافا إلى مَنْ لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه، وهذه الآية خبر في ضمنه وعيد للضالين ووعد للمهتدين.

قوله عز وجل:

١١٨

انظر تفسير الآية:١١٩

١١٩

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)

القصد بهذه الآية النهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة وأنواعها، فجاءت العبارة أمرا بما يضاد ما قصد النهي عنه، ولا قصد في الآية إلى ما نسي فيه المؤمن التسمية أو تعمدها بالترك، وقال عطاء: هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والطعام والذبح وكل مطعوم وقوله إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم بأحكامه وأوامره آخذين، فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها، وقوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا الآية، ما استفهام يتضمن التقرير، وتقدير هذا الكلام أي شيء لكم في أن لا تأكلوا، ف «أن» في موضع خفض بتقدير حرف الجر، ويصح أن تكون في موضع نصب على أن لا يقدر حرف جر ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله ما لَكُمْ تقديره ما يجعلكم وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ أي قد بين لكم الحرام من الحلال وأزيل عنكم اللبس والشك.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم» على بناء الفعل للمفعول في الفعلين وقرأ نافع وحفص عن عاصم «وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم» على بناء الفعل للفاعل في الفعلين، وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي «وقد فصّل» على بناء الفعل إلى المفعول، وقرأ عطية العوفي «وقد فصل» على بناء الفعل للفاعل وفتح الصاد وتخفيفها، «ما حرّم» على بناء الفعل للمفعول، والمعنى قد فصل الحرام من الحلال وانتزعه بالنبيين، وما في قوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ يريد بها من جميع ما حرم كالميتة وغيرها، وهي في موضع نصب بالاستثناء والاستثناء منقطع، وقوله تعالى وَإِنَّ كَثِيراً يريد الكفرة المحادين المجادلين في المطاعم بما ذكرناه من قولهم: تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلون» بفتح الياء على معنى إسناد الضلال إليهم في هذه السورة وفي يونس رَبَّنا لِيُضِلُّوا [الآية: ٨٨] وفي سورة إبراهيم أَنْداداً لِيُضِلُّوا [الآية: ٣٠] وفي الحج ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ [الآية: ٩] وفي لقمان لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الآية: ٦] وفي الزمر أَنْداداً لِيُضِلَّ [الزمر: ٨] .

وقرأ نافع وابن عامر كذلك في هذه وفي يونس وفي الأربعة التي بعد هذه يضمان الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم، وهذه أبلغ في ذمهم لأن كل مضل ضال وليس كل ضال مضلا، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي في المواضع الستة «ليضلون» بضم الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم، ثم بين عز وجل في ضلالهم أنه على أقبح الوجوه وأنه بالهوى لا بالنظر والتأمل، وبِغَيْرِ عِلْمٍ معناه في غير نظر فإن لمن يضل بنظر ما بعض عذر لا ينفع في أنه اجتهد، ثم توعدهم تعالى بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ.

قوله عز وجل:

١٢٠

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)

هذا نهي عام من طرفيه لأن الْإِثْمِ يعم الأحكام والنسب اللاحقة للعصاة عن جميع المعاصي، والظاهر والباطن يستوفيان جميع المعاصي، وقد ذهب المتأونون إلى أن الآية من ذلك في مخصص، فقال السدي: ظاهره الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله، وباطنه اتخاذ الأخدان، وقال سعيد بن جبير: الظاهر ما نص الله على تحريمه من النساء بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: ٢٣] ، وقوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء: ٢٢] ، والباطن الزنا، وقال ابن زيد: الظاهر التعري والباطن الزنا.

قال القاضي أبو محمد: يريد التعري الذي كانت العرب تفعله في طوافها، قال قوم: الظاهر الأعمال والباطن المعتقد.

قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن لأنه عاد ثم توعد تعالى كسبة الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك وتحملوا ثقله، و «الاقتراف» الاكتساب.

قوله عز وجل:

١٢١

وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)

المقصد بهذه الآية النهي عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين تتركون ما قتل الله، والنهي أيضا عما ذبح للأنصاب، ومع ذلك فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبح الإسلام، وبهذا العموم تعلق محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن يزيد الخطمي والشعبي وغيرهم فيما تركت التسمية عليه نسيانا أو عمدا لم يؤكل، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم:

يؤكل ما ذبح ولم يسم عليه نسيانا، ولا يؤكل ما لم يسم عليه عمدا، وهذا قول الجمهور، وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا، وعن ربيعة أيضا قال عبد الوهاب: التسمية سنة فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه، وإذا تركها عمدا فقال مالك لا تؤكل، فحمل بعض أصحابه قوله لا تؤكل على التحريم، وحمله بعضهم على الكراهة، وقال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري، وذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وتشرع، وقال قوم نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن، والضمير في إِنَّهُ من قوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل في قوله وَلا تَأْكُلُوا ويحتمل أن يعود على ترك الذكر الذي يتضمنه قوله لَمْ يُذْكَرِ، والفسق الخروج عن الطاعة، هذا عرفه في الشرع، وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ الآية، قال عكرمة عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس، وذلك أنهم كانوا يوالون قريشا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبوهم منبهين على الحجة التي ذكرناها في أمر الذبح من قولهم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، فذلك من مخاطبتهم هو الوحي الذي عنى، و «الأولياء» قريش، و «المجادلة» هي تلك الحجة، وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير: بل الشَّياطِينَ الجن واللفظة على وجهها وكفرة الجن أولياء الكفرة قريش، ووحيهم إليهم كان بالوسوسة حتى ألهموهم لتلك الحجة أو على ألسنة الكهان، وقال أبو زميل: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إن إسحاق يعني المختار زعم أنه أوحي إليه الليلة. فقال ابن عباس صدق، فنفرت فقال ابن عباس: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ ثم نهى الله عز وجل عن طاعتهم بلفظ يتضمن الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه المؤمن بمشرك، وحكى الطبري عن ابن عباس قولا: إن الذين جادلوا بتلك الحجة هم قوم من اليهود.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن اليهود لا تأكل الميتة، أما أن ذلك يتجه منهم على جهة المغالطة كأنهم يحتجون عن العرب.

قوله عز وجل:

١٢٢

انظر تفسير الآية:١٢٣

١٢٣

أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)

تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك الإثم وباطنه وغير ذلك، وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم وغير ذلك، فمثل الله عز وجل في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين.

وقرأ جمهور الناس «أو من» بفتح الواو فهي ألف استفهام دخلت على واو عطف جملة على جملة، ومَنْ بمعنى الذي، وقرأ طلحة بن مصرف: «أفمن» بالفاء، والمعنى قريب من معنى الواو، والفاء في قوله فَأَحْيَيْناهُ عاطفة، ونُوراً أمكن ما يعنى به الإيمان ويَمْشِي بِهِ يراد به جميع التصرف في الأفعال والأقوال، قال أبو علي: ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم القيامة، وفِي النَّاسِ متعلق ب يَمْشِي، ويصح أن يتعلق ب كانَ مَيْتاً وقوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ بمنزلة كمن هو، والكاف في قوله كَذلِكَ زُيِّنَ متعلقة بمحذوف يدل ظاهر الكلام عليه، تقديره وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نورا كذلك زين للكافرين، ويحتمل أن يتعلق بقوله كَمَنْ مَثَلُهُ أي كهذه الحال هو التزيين، وقرأ نافع وحده «ميّتا» بكسر الياء وشدها، وقرأ الباقون «ميتا» بسكون الياء، قال أبو علي: التخفيف كالتشديد، والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب، وقالت طائفة إن هذه الألفاظ التي مثل بها وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر فإنما نزلت في مخصوصين، فقال الضحاك: المؤمن الذي كان ميتا فأحيي عمر بن الخطاب، وحكى المهدوي عن بعضهم أنه حمزة بن عبد المطلب، وقال عكرمة:

عمار بن ياسر، وقال الزجاج: جاء في التفسير أنه يعني به النبي عليه السلام.

قال القاضي أبو محمد: واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل بن هشام، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وهذه الآية تتضمن إنذارا بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم، لأنه مقتضى حال من تقدمهم من نظرائهم، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في المستهزئين.

قال القاضي أبو محمد: يعني أن التمثيل لهم، وجَعَلْنا في هذه الآية بمعنى صيرنا، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول مُجْرِمِيها والثاني أَكابِرَ وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، وقدم الأهم إذ لعلة كبرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعول الأول أَكابِرَ ومُجْرِمِيها مضاف والمفعول الثاني قوله فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ولِيَمْكُرُوا نصب بلام الصيرورة، والأكابر جمع أكبر كما الأفاضل جمع أفضل، ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة، ومنه قول الشاعر [الأعشى] : [الكامل]

إنّ الأحامرة الثّلاثة أتلفت ... مالي وكنت بهنّ قدما مولعا

يريد الخمر واللحم والزعفران، و «المكر» التخيل بالباطل والخديعة ونحوهما، وقوله وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ يريد لرجوع وبال ذلك عليهم، وَما يَشْعُرُونَ أي ما يعلمون، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي البدن، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس، وفي ذلك مبالغة في صفة جهله، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة.

قوله عز وجل:

١٢٤

انظر تفسير الآية:١٢٥

١٢٥

وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)

هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا إنما يقلق لنا البحر إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك، فرد الله عز وجل عليهم بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله، قال الزجاج:

قال بعضهم: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم، وأَعْلَمُ معلق العمل، والعامل في حَيْثُ فعل تقديره: يعلم حيث، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة، وعِنْدَ اللَّهِ متعلقة ب سَيُصِيبُ، ويصح أن تتعلق ب صَغارٌ لأنه مصدر، قال الزجّاج: التقدير صغار ثابت عند الله، قال أبو علي: وهو متعلق ب صَغارٌ دون تقدير ثابت ولا شيء غيره، وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، الآية، «من» أداة شرط، ويَشْرَحْ جواب الشرط، والآية نص في أن الله عز وجل يريد هدى المؤمن وضلال الكافر، وهذا عند جميع أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى، و «الهدى» في هذه الآية هو خلق الإيمان في القلب واختراعه، و «شرح الصدر» هو تسهيل الإيمان وتحبيبه وإعداد القلب لقبوله وتحصيله، والهدى لفظة مشتركة تأتي بمعنى الدعاء كقوله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] وتأتي بمعنى إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق والأعمال المفضية إليها، كقوله تعالى: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: ٥] وغير ذلك، إلا أنها في هذه الآية وفي قوله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ١٧٨] ، وفي قوله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: ٥٦] ونحوها لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان واختراعه، إذ الوجوه من الهدى تدفعها قرائن الكلام مما قبل وبعد، وقوله يَشْرَحْ صَدْرَهُ ألفاظ مستعارة هاهنا إذ الشرح التوسعة والبسط في الأجسام وإذا كان الجرم مشروحا موسعا كان معدا ليحل فيه، فشبه توطئة القلب وتنويره وإعداده للقبول بالشرح والتوسيع، وشبه قبوله وتحصيله للإيمان بالحلول في الجرم المشروح، و «الصدر» عبارة عن القلب وهو المقصود، إذ الإيمان من خصاله، وكذلك الإسلام عبارة عن الإيمان إذ الإسلام أعم منه، وإنما المقصود هنا الإيمان فقط بدليل قرينة الشرح والهدى، ولكنه عبر بالإسلام إذ هو أعم وأدنى الهدى حب الأعمال وامتثال العبادات، وفي يَشْرَحْ ضمير عائد على الهدى، قال: وعوده على الله عز وجل أبين.

قال القاضي أبو محمد: والقول بأن الضمير عائد على المهدي قول يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأفعال وينبغي أن يعتقد ضعفه وأن الضمير إنما هو عائد على اسم الله عز وجل فإن هذا يعضده اللفظ والمعنى، وروي عن النبي عليه السلام أنه لما نزلت هذه الآية، «قالوا يا رسول الله، كيف يشرح الصدر؟

قال: إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قالوا وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: نعم:

الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الفوت» . والقول في قوله وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ كالقول في قوله فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، وقوله يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ألفاظ مستعارة تضاد شرح الصدر للإسلام ويجعل في هذا الموضع تكون بمعنى يحكم له بهذا الحكم، كما تقول هذا يجعل البصرة مصرا أي يحكم لها بحكمها.

قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى يقرب من صير، وحكاه أبو علي الفارسي، وقال أيضا يصح أن يكون «جعل» بمعنى سمى، كما قال تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] أي سموهم، قال وهذه الآية تحتمل هذا المعنى.

قال القاضي أبو محمد: وهذا الوجه يضعف في هذه الآية، وقرأ جمهور الناس والسبعة سوى ابن كثير «ضيّقا» بكسر الياء وتشديدها، وقرأ ابن كثير «ضيقا» بسكون الياء وكذلك قرأ في الفرقان، قال أبو علي وهما بمنزلة الميّت والميت، قال الطبري وبمنزلة الهيّن والليّن والهين واللين، قال ويصح أن يكون الضيق مصدرا من قولك ضاق والأمر يضيق ضيقا وضيقا، وحكي عن الكسائي أنه قال الضّيق بشد الضاد وكسرها في الأجرام والمعاش، والضّيق بفتح الضاد: في الأمور والمعاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «حرجا» بفتح الراء وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «حرجا» بكسرها، قال أبو علي فمن فتح الراء كان وصفا بالمصدر كما تقول رجل قمن بكذا وحرى بكذا ودنف، ومن كسر الراء فهو كدنف وقمن وفرق، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها يوما بفتح الراء فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء، فقال: ابغوني رجلا من كنانة وليكن راعيا من بني مدلج، فلما جاءه قال له: يا فتى ما الحرجة عندكم، قال: الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية.

قال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير، وقوله تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأن هذا الضيق الصدر يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء، قال بهذا التأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي، وقال ابن جبير: المعنى لا يجد مسلكا إلا صعدا من شدة التضايق، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «يصعد» بإدغام التاء من يتصعد في الصاد، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «يصّاعد» بإدغام التاء من يتصاعد في السماء، وقرأ ابن كثير وحده «يصعد» ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وابن مصرف «يتصعد» بزيادة تاء، وفِي السَّماءِ يريد من سفل إلى علو في الهواء، قال أبو علي: ولم يرد السماء المظلة بعينها، وإنما هو كما قال سيبويه والقيدود: الطويل في غير سماء، يريد في غير ارتفاع صعدا قال ومن هذا قوله عز وجل: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: ١٤٤] أي في وجهة الجو.

قال القاضي أبو محمد: وهذا على غير من تأول تقلب الوجه أنه الدعاء إلى الله عز وجل في الهداية إلى قبلة فإن مع الدعاء يستقيم أن يقلب وجهه في السماء المظلة حسب عادة الداعين إذ قد ألفوا مجيء النعم والآلاء من تلك الجهة، وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها الهواء، ويَصَّعَّدُ معناه يعلو، ويَصَّعَّدُ معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه. ومنه قول عمر بن الخطاب:

«ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح» ، إلى غير ذلك من الشواهد، «ويصاعد» في المعنى مثل «يصعد» ، وقوله تعالى: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي وكما كان هذا كله من الهدى والضلال بإرادة الله عز وجل ومشيئته كذلك يجعل الله الرجس، قال أهل اللغة الرِّجْسَ يأتي بمعنى العذاب ويأتي بمعنى النجس، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: الرِّجْسَ كل ما لا خير فيه وقال بعض الكوفيين: الرجس والنجس لغتان بمعنى، «ويجعل» في هذا الموضع يحسن أن تكون بمعنى يلقي كما تقول جعلت متاعك بعضه على بعض، وكما قال عز وجل وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ [الأنفال: ٣٧] .

قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى في جعل حكاه أبو علي الفارسي، ويحسن أن تكون يَجْعَلْ في هذه الآية بمعنى يصير ويكون المفعول الثاني في ضمن عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، كأنه قال قرين الذين أو لزيم الذين ونحو ذلك.

قوله عز وجل:

١٢٦

انظر تفسير الآية:١٢٧

١٢٧

وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)

هذا إشارة إلى القرآن والشرع الذي جاء به محمد عليه السلام، قاله ابن عباس، و «الصراط» الطريق، وإضافة الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره ومُسْتَقِيماً حال مؤكدة وليست كالحال في قولك جاء زيد راكبا بل هذه المؤكدة تتضمن المعنى المقصود وفَصَّلْنَا معناه بينا وأوضحنا، وقوله لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي للمؤمنين الذين يعدون أنفسهم للنظر ويسلكون طريق الاهتداء، والضمير في قوله لَهُمْ عائد على القوم المتذكرين والسَّلامِ يتجه فيه معنيان، أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله عز وجل فأضاف «الدار» إليه هي ملكه وخلقه، والثاني أنه المصدر بمعنى السلامة، كما تقول السلام عليك، وكقوله عز وجل تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: ١٠] يريد في الآخرة بعد الحشر، ووَلِيُّهُمْ أي ولي الانعام عليهم، وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي مسبب ما كانوا يقدمون من الخير ويفعلون من الطاعة والبر.

قوله عز وجل:

١٢٨

انظر تفسير الآية:١٢٩

١٢٩

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)

يَوْمَ نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويحتمل أن يكون العامل وَلِيُّهُمْ [الأنعام: ١٢٧] والعطف على موضع قوله بِما كانُوا [الأنعام: ١٢٧] ، والضمير في يَحْشُرُهُمْ عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جنا وإنسا، والذين لهم دار السلام جنا، وإنسا، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله جَمِيعاً.

وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم» بالياء، وقرأ الباقون بالنون وكلّ متجه، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن، وقوله قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ معناه فرطتم، ومِنَ الْإِنْسِ يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموبخين على جهة الاعتذار عن الجن رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع.

قال القاضي أبو محمد: وذلك في وجوه كثيرة، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير بالمستجير إذ كان العربي إذا نزل واديا ينادي يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض.

قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال في الاستمتاع ولو تتبع لبينت له وجوه أخر كلها دنياوية، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه، وقيل هو الحشر، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل، وقرأ الحسن «وبلّغنا أجلنا» بكسر اللام مشددة، وقوله تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ الآية، إخبار من الله عز وجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه، وهذا كثير في القرآن وفصيح الكلام ومَثْواكُمْ أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة، هذا قول الزجّاج وغيره، قال أبو علي في الإغفال: المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالِدِينَ والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملا، والتقدير النار ذات ثوابكم، والاستثناء في قوله إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قالت فرقة ما بمعنى من، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة.

قال القاضي أبو محمد: ولما كان هؤلاء صنفا ساغت في العبارة عنهم ما، وقال الفراء إِلَّا بمعنى سوى، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب، ونحا إليه الزجّاج، وقال الطبري: إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار.

قال القاضي أبو محمد: وساغ هذا من حيث العبارة بقوله النَّارُ مَثْواكُمْ لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره، وقال الطبري عن ابن عباس انه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا.

قال القاضي أبو محمد: والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد: ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وليس مما يقال يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار: النَّارُ مَثْواكُمْ استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافرا، وتقع ما على صفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أي بمن يمكن أن يؤمن منهم، وحَكِيمٌ عَلِيمٌ صفتان مناسبتان لهذه الآية، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء، وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي قال قتادة نُوَلِّي معناه نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل ما تقدم من ذكر الجن والإنس «واستمتاع بعضهم ببعض» ، وقال قتادة أيضا: معنى نُوَلِّي نتبع بعضهم بعضا في دخول النار، أي نجعل بعضهم يلي بعضا، وقال ابن زيد معناه نسلط بعض الظالمين على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل لا تؤيده ألفاظ الآية المتقدمة، أما أنه حفظ في استعمال الصحابة والتابعين من ذلك ما روي أن عبد الله بن الزبير لما بلغه أن عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد الأشدق صعد المنبر فقال إن فم الذبان قتل لطيم الشيطان وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.

قوله عز وجل:

١٣٠

انظر تفسير الآية:١٣٢

١٣١

انظر تفسير الآية:١٣٢

١٣٢

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)

قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ داخل في القول يوم الحشر، والضمير في نْكُمْ قال ابن جريج وغيره عمم بظاهرة الطائفتين والمراد الواحدة تجوزا، وهذا موجود في كلام العرب، ومنه قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٢٢] وذلك إنما يخرج من الأجاج، وقال الضحاك الضمير عائد على الطائفتين وفي الجن رسل منهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال ابن عباس الضمير عائد على الطائفتين ولكن رسل الجن هم رسل الإنس، فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، وهم النذر، وقُصُّونَ من القصص، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «ألم تكن تأتيكم» بالتاء على تأنيث لفظ «الرسل» ، وقولهم: هِدْنا إقرار منهم بالكفر واعتراف أي شهدنا على أنفسنا بالتقصير، وقوله غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل رَّتْهُمُ أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر فرخه وقوله شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ تظهر بينه وبين ما في القرآن من الآيات التي تقتضي إنكار المشركين الإشراك مناقضة، والجمع بينهما هو إما بأنها طوائف، وإما طائفة واحدة في مواطن شتى، وإما أن يريد بقوله هاهنا: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، شهادة الأيدي والأرجل والجلود بعد إنكارهم بالألسنة.

قال القاضي أبو محمد: واللفظ هاهنا يبعد من هذا، وقوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الآية، ذلِكَ يصح أن يكون في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره ذلك الأمر، ويصح أن يكون في موضع نصب بتقدير فعلنا وأَنْ مفعول من أجله والْقُرى المدن، والمراد أهل القرى، وبِظُلْمٍ يتوجه فيه معنيان، أحدهما أن الله عز وجل لم يكن ليهلك المدن دون نذارة، فيكون ظلما لهم إذا لم ينذرهم، والله ليس بظلام للعبيد، والآخر أن الله عز وجل لم يهلك أهل القرى بظلم إذ ظلموا دون أن ينذرهم، وهذا هو البين القويّ. وذكر الطبري رحمه الله التأويلين، وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ الآية إخبار من الله عز وجل أن المؤمنين في الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم وتفضل الله عليهم، والمشركين أيضا على درجات من العذاب.

قال القاضي أبو محمد: ولكن كل مؤمن قد رضي بما أعطي غاية الرضى، وقرأت الجماعة سوى ابن عامر «يعملون» على لفظ كل، وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على المخاطبة بالتاء.

قوله عز وجل:

١٣٣

انظر تفسير الآية:١٣٥

١٣٤

انظر تفسير الآية:١٣٥

١٣٥

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)

الْغَنِيُّ صفة ذات لله عز وجل لأنه تبارك وتعالى لا يفتقر إلى شيء من جهة من الجهات، ثم تليت هذه الصفة بقوله ذُو الرَّحْمَةِ فأردف الاستغناء بالتفضل وهذا أجمل تناسق، ثم عقب بهذه الألفاظ المضمنة الوعيد المحذرة من بطش الله عز وجل في التعجيل بذلك وأما مع المهلة ومرور الجديدين، فكذلك عادة الله في الخلق، وأما «الاستخلاف» فكما أوجد الله تعالى هذا العالم الآدمي بالنشأة من ذرية قوم متقدمين أصلهم آدم عليه السلام، وقرأت الجماعة «ذرّية» بضم الذال وشد الراء المكسورة، وقرأ زيد بن ثابت بكسر الذال وكذلك في سورة آل عمران وحكى أبو حاتم عن أبان بن عثمان أنه قرأ «ذرية» بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة، وحكى عنه أبو الزناد أنه قرأ على المنبر «ذرية» بفتح الذال وسكون الراء على وزن فعلة، قال فسألته فقال أقرأنيها زيد بن ثابت، ومِنْ في قوله مِنْ ذُرِّيَّةِ للتبعيض وذهب الطبري إلى أنها بمعنى قولك أخذت من ثوبي دينارا بمعنى عنه وعوضه وتُوعَدُونَ مأخوذ من الوعيد بقرينة وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدم خصوصا. وأما أن يكون العموم مطلقا فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد، والعقائد ترد ذلك، وبِمُعْجِزِينَ معناه بناجين هربا أي يعجزون طالبهم.

ثم أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله اعْمَلُوا أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد، وصيغة افعل هاهنا بمعنى الوعيد والتهديد، وعَلى مَكانَتِكُمْ معناه على حالكم وطريقتكم، وقرأ أبو بكر عن عاصم «على مكاناتكم» بجمع المكانة في كل القرآن، وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن، ومَنْ يتوجه أن يكون بمعنى الذي، فتكون في موضع نصب ب تَعْلَمُونَ، ويتوجه أن يكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله تَكُونُ لَهُ، وعاقِبَةُ الدَّارِ أي مآل الآخرة، ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب، ثم جزم الحكم ب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي ينجح سعيهم، وقرأ حمزة والكسائي من «يكون له عاقبة» بالياء هاهنا وفي القصص على تذكير معنى العاقبة.

قوله عز وجل:

١٣٦

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)

الضمير في جَعَلُوا عائد على كفار العرب العادلين بربهم الأوثان الذين تقدم الرد عليهم من أول السورة، وذَرَأَ معناه خلق وأنشأ وبث في الأرض، يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا وذروءا أي خلقهم، وقوله وجعلوا من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول، فبينه بقوله:

فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، ثم اعترضهم أثناء القول بأن ذلك زعم وتقول، والزعم في كثير كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق، يقال «زعم» بفتح الزاي وبه قرأت الجماعة، «وزعم» بضمها، وقرأ الكسائي وحده في هذه الآية «زعم» بكسر الزاي، ولا أحفظ أحدا قرأ به والْحَرْثِ في هذه الآية يريد به الزرع والأشجار وما يكون من الأرض، وقوله لِشُرَكائِنا يريد به الأصنام والأوثان، وسموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم بساهمونهم في الخير والشر ويكسبونهم ذلك، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلّاتها وزرعها وثمارها ومن أنعامها جزءا تسميه لله وجزءا تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم أقروه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردوه، وإذا تفجر من سقي ما جعلوا لله في نصيب شركائهم تركوه، وإن بالعكس سدوه، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئا قالوا لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك.

قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام وكانوا إذا أصابتهم السنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم، وقوله تعالى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ الآية قال جمهور المتأولين إن المراد بقوله فَلا يَصِلُ وقوله يَصِلُ ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك، وقال ابن زيد إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله ذكروا آلهتهم على ذلك الذبح وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله، فكأنه قال «فلا يصل» إلى ذكر الله وقال فهو «يصل» إلى ذكر شركائهم، وما في موضع رفع كأنه قال ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن يجري هنا ساءَ مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الأعراف: ١٧٧] . لأن المفسر ظاهر في الكلام.

قوله عز وجل:

١٣٧

وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)

«الكثير» في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب، و «الشركاء» هاهنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون عليه أيضا من بني آدم الناقلين له عصرا بعد عصر إذ كلهم مشتركون في قبح هذا الفعل وتباعته في الآخرة، ومقصد هذه الآية الذم للوأد والإنحاء على فعلته، واختلفت القراءة فقرأت الجماعة سوى ابن عامر «وكذلك زين» بفتح الزاي «قتل» بالنصب «أولادهم» بكسر الدال «شركاؤهم» ، وهذه أبين قراءة، وحكى سيبويه أنه قرأت فرقة «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل أولادهم» بكسر الدال «شركاؤهم» بالرفع.

قال القاضي أبو محمد: وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن وأبي عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر، كأنه قال: زينه شركاؤهم قال سيبويه: وهذا كما قال الشاعر: [الطويل]

ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما يطيح الطوائح

كأنه قال يبكيه ضارع لخصومة، وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في هذه القراءة ارتفعوا بالقتل كأن المصدر أضيف إلى المفعول، ثم ذكر بعده الفاعل كأنه قال إن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول حبب إليّ ركوب الفرس زيد أي أن ركب الفرس زيد.

قال القاضي أبو محمد: والفصيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول أن لا يذكر الفاعل، وأيضا فالجمهور في هذه الآية على أن الشركاء مزينون لا قاتلون، والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح، ومنه قوله عز وجل على قراءة من قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: ٣٦] بفتح الباء المشددة أي «يسبّح رجال» ، وقرأ ابن عامر «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل» بالرفع «أولادهم» بنصب الدال «شركائهم» بخفض الشركاء، وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله [أبو حية النميري] : [الوافر]

كما خطّ بكفّ يوما ... يهوديّ يقارب أو يزيل

فكيف بالمفعول في أفصح الكلام؟ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش وهو: [مجزوء الكامل]

فزججته بمزجّة ... زجّ القلوص أبي مزادة

وفي بيت الطرماح وهو قوله: [الطويل]

يطفن بحوزيّ المرابع لم يرع ... بواديه من قرع القسيّ الكنائن

والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتأولون وأد بنات الغير فهم القاتلون، والصحيح من المعنى أنهم المزينون لا القاتلون، وذلك مضمن قراءة الجماعة.

وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر «زين» بكسر الزاي وسكون الياء على الرتبة المتقدمة من الفصل بالمفعول، وحكى الزهراوي أنه قرأت فرقة من أهل الشام «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل» بالرفع «أولادهم» بكسر الدال «شركائهم» بالخفض والشركاء على هذه القراءة هم الأولاد الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث، وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم وفيها بيان لفساد الفعل إذ هو قتل من له حرمة. ولِيُرْدُوهُمْ معناه ليهلكوهم من الردى، وَلِيَلْبِسُوا معناه ليخلطوا، والجماعة على كسر الباء، وقرأ إبراهيم النخعي «وليلبسوا» بفتح الباء، قال أبو الفتح: هي استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة، وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا في قوله وَكَذلِكَ زَيَّنَ. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله عز وجل، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله، وقوله تعالى: فَذَرْهُمْ وعيد محض، ويَفْتَرُونَ معناه يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك واعتقادهم أنها مباحات لهم.

قوله عز وجل:

١٣٨

وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)

هذه الآية تتضمن تعديد ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذبا منهم على الله وافتراء عليه، فوصف تعالى أنهم عمدوا إلى بعض أنعامهم وهي الإبل والبقر والغنم أو الإبل بانفرادها، وما غيرها إذا انفرد فلا يقال له أنعام، وإلى بعض زروعهم وثمارهم، وسمي ذلك «حرثا» إذ عن الحرث يكون، وقالوا هذه حجر أي حرام، وقرأ جمهور الناس «حجر» بكسر الحاء وسكون الجيم، وقرأ قتادة والحسن والأعرج «حجر» بضم الحاء وسكون الجيم، وقرأ ابن عباس وأبيّ وابن مسعود وابن الزبير والأعمش وعكرمة وعمرو بن دينار «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها، فالأولى والثانية بمعنى التحجير وهو المنع والتحريم، والأخيرة من الحرج وهو التضييق والتحريم، وكانت هذه الأنعام على ما قال ابن زيد محللة للرجال محرمة على النساء، وقيل كانت وقفا لمطعم سدنة بيوت الأصنام وخدمتها، حكاه المهدوي، فذلك المراد بقوله مَنْ نَشاءُ وقوله بِزَعْمِهِمْ أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق، و «زعمهم» هنا هو في قولهم «حجر» وتحريمهم بذلك ما لم يحرم الله تعالى، وقرأ ابن أبي عبلة «بزعمهم» بفتح الزاي والعين، وكذلك في الذي تقدم، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها كانت للعرب سنن، إذا فعلت الناقة كذا من جودة النسل والمواصلة بين الإناث ونحوه حرم ظهورها فلم تركب وإذا فعل الفحل كذا وكذا حرم فعدد الله ذلك على جهة الرد عليهم إذ شرعوا ذلك برأيهم وكذبهم، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا قيل كانت لهم سنة في أنعام ما أن لا يحج عليها فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج، فذلك قوله وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا هذا قول جماعة من المفسرين.

ويروى ذلك عن أبي وائل، وقالت فرقة: بل ذلك في الذبائح يريد أنهم جعلوا لآلهتهم منها نصيبا لا يذكرون الله على ذبحها، وقوله افْتِراءً مصدر نصب على المفعول من أجله أو على إضمار فعل تقديره يفترون ذلك، وسَيَجْزِيهِمْ وعيد بمجازاة الآخرة، والضمير في عَلَيْهِ عائد على اسم الله، ويَفْتَرُونَ أي يكذبون ويختلفون.

قوله عز وجل:

١٣٩

وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)

هذه الآية تتضمن تعديد مذاهبهم الفاسدة، وكانت سنتهم في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم، والهاء في خالِصَةٌ قيل هي للمبالغة كما هي في رواية وغيرها، وهذا كما تقول فلان خالصتي وإن كان باب هاء المبالغة أن يلحق بناء مبالغة كعلامة ونسابة وبصيرة ونحوه، وقيل هي لتأنيث الأنعام إذ ما في بطونها أنعام أيضا، وقيل هي على تأنيث لفظ ما لأن ما واقعة في هذا الموضع موقع قولك جماعة وجملة، وقرأ جمهور القراء والناس «خالصة» بالرفع، وقرأ عبد الله بن مسعود وابن جبير وابن أبي عبلة والأعمش «خالص» دون هاء ورفع هاتين القراءتين على خبر الابتداء.

وقرأ ابن عباس بخلاف والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين «خالصة» بالنصب، وقرأ سعيد بن جبير فيما ذكر أبو الفتح «خالصا» ، ونصب هاتين القراءتين على أن الحال من الضمير الذي في قوله فِي بُطُونِ، وذلك أن تقدير الكلام: وقالوا ما استقر هو في بطون هذه الأنعام فحذف الفعل وحمل المجرور الضمير، والحال من الضمير والعامل فيها معنى الاستقرار، قال أبو الفتح ويصح أن يكون حالا من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها، وقرأ ابن عباس أيضا وأبو حيوة والزهري «خالصه» بإضافة «خالص» إلى ضمير يعود على ما، ومعناه ما خلص وخرج حيا، والخبر على قراءة من نصب «خالصة» في قوله لِذُكُورِنا والمعنى المراد بما في قوله ما فِي بُطُونِ قال السدي: هي الأجنة، وقال ابن عباس وقتادة والشعبي: هو اللبن، قال الطبري واللفظ يعمهما، وقوله وَمُحَرَّمٌ يدل على أن الهاء في خالِصَةٌ للمبالغة، ولو كانت لتأنيث لقال ومحرمة، وأَزْواجِنا يريد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجا، قال مجاهد، وحكى الطبري عن ابن زيد أن المراد ب أَزْواجِنا البنات.

قال القاضي أبو محمد: وهذا يبعد تحليقه على المعنى، وقوله وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتا من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعا وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها، وقرأ ابن كثير «وإن يكن» بالياء «ميتة» بالرفع فلم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي، والمعنى وإن وقع ميتة أو حدث ميتة، وقرأ ابن عامر «وإن تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع فألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثا، وأسند الفعل إلى الميتة كما فعل ابن كثير، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه «تكن» بالتاء «ميتة» بالنصب فأنث وإن كان المتقدم مذكرا لأنه حمله على المعنى.

قال القاضي أبو محمد: فالتقدير وإن تكن النسمة أو نحوها ميتة، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «يكن» بالياء «ميتة» بالنصب، فذكروا الفعل لأنهم أسندوه إلى ضمير ما تقدم من قوله ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ وهو مذكر، وانتصبت الميتة على الخبر، قال أبو عمرو بن العلاء ويقوي هذه القراءة قوله فَهُمْ فِيهِ ولم يقل فيها، وقرأ يزيد بن القعقاع «وإن تكن ميّتة» بالتشديد، وقرأ عبد الله بن مسعود «فهم فيه سواء» ، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات إلى الله تعالى وشرعوه من الباطل والإفك إِنَّهُ حَكِيمٌ أي في عذابهم على ذلك عَلِيمٌ بقليل ما تقوّلوه من ذلك وكثيره.

قوله عز وجل:

١٤٠

انظر تفسير الآية:١٤١

١٤١

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)

هذا لفظ يتضمن التشنيع بقبح فعلهم والتعجب من سوء حالهم في وأدهم البنات وحجرهم الأنعام والحرث، قال عكرمة: وكان الوأد في ربيعة ومضر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكان جمهور العرب لا يفعله، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والإقتار وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السباء وقرأ ابن عامر وابن كثير: «قتّلوا» بتشديد التاء على المبالغة وقرأ الباقون: «قتلوا» بتخفيفها وما رَزَقَهُمُ اللَّهُ: هي تلك الأنعام والغلات التي توقف بغير شرع ولا مثوبة في معاد بل بالافتراء على الله والكذب وقَدْ ضَلُّوا إخبارا عنهم بالحيرة وهو من التعجيب بمنزلة قوله قَدْ خَسِرَ، وَما كانُوا يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد: وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين ولكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالا وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار وأَنْشَأَ معناه خلق واخترع و «الجنة» : مأخوذة من جن إذا ستر، ومَعْرُوشاتٍ قال ابن عباس: ذلك في ثمر العنب، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات» ما عرش كهيئة الكرم، وغيره البساتين وقيل: المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل: المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق، ومُخْتَلِفاً: نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء، ومُتَشابِهاً يريد في المنظر، وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك، ويقرأ «من ثمره» بضم الثاء وقد تقدم، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فقالت طائفة من أهل العلم: هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه، وقاله مالك بن أنس.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة، ومعترض أيضا بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه، وقال ابن الحنفية أيضا وعطاء ومجاهد وغيرهم من أهل العلم:

بل قوله وَآتُوا حَقَّهُ ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر، فإذا صفا وكال أخرج من ذلك الزكاة، وقال الربيع بن أنس حقه إباحة لقط السنبل، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها.

وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن، وقال السدي في هذه السورة مكية نسختها الزكاة فقال له سفيان عمن قال عن العلماء.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والنسخ غير مترتب في هذه الآية، لأن هذه الآية وآية الزكاة لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي «حصاده» ، وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حصاده» بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر، وقوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا الآية، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل، وقاله ابن زيد، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته.

وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة، فنزلت هذه الآية، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئا عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية، ومن قال إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية.

قوله عز وجل:

١٤٢

انظر تفسير الآية:١٤٣

١٤٣

وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣)

حَمُولَةً عطف على جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الأنعام: ١٤١] التقدير وأنشأنا من الأنعام حمولة، والحمولة ما تحمل الأثقال من الإبل والبقر عند من عادته أن يحمل عليها والهاء في حَمُولَةً للمبالغة، وقال الطبري هو اسم جمع لا واحد من لفظه، و «الفرش» ما لا يحمل ثقلا كالغنم وصغار البقر والإبل، هذا هو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم، يقال له الفرش والفريش، وذهب بعض الناس إلى أن تسميته فَرْشاً إنما هي لوطاءته وأنه مما يمتهن ويتوطأ ويتمكن من التصرف فيه إذ قرب جسمه من الأرض.

وروي عن ابن عباس أنه قال: «الحمولة» الإبل والخيل والبغال والحمير، ذكره الطبري.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا منه تفسير لنفس اللفظة لا من حيث هي في هذه الآية، ولا تدخل في الآية لغير الأنعام وإنما خصت بالذكر من جهة ما شرعت فيها العرب، وقوله مِمَّا رَزَقَكُمُ نص إباحة وإزالة ما سنه الكفار من البحيرة والسائبة وغير ذلك، ثم تابع النهي عن تلك السنن الآفكة بقوله وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وهي جمع خطوة أي لا تمشوا في طرقه المضلّة، وقد تقدم في سورة البقرة اختلاف القراء في «خطوات» ، ومن شاذها قراءة علي رضي الله عنه والأعرج وعمرو بن عبيد «خطؤات» بضم الخاء والطاء وبالهمزة، قال أبو الفتح وذلك جمع خطأة من الخطأ ومن الشاذ قراءة أبي السمال «خطوات» بالواو دون همزة وهو جمع خطوة وهي ذرع ما بين قدمي الماشي، ثم علل النهي عن ذلك بتقرير عداوة الشيطان لابن آدم، وقوله تعالى ثَمانِيَةَ اختلف في نصبها فقال الأخفش علي بن سليمان بفعل مضمر تقديره كلوا لحم ثمانية أزواج فحذف الفعل والمضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل نصب على البدل من ما في قوله كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وقيل نصبت على الحال، وقيل نصبت على البدل من قوله حَمُولَةً وَفَرْشاً، وهذا أصوب الأقوال وأجراها مع معنى الآية، وقال الكسائي نصبها أَنْشَأَ [الأنعام: ١٤١] والزوج الذكر والزوج الأنثى كل واحد منهما زوج صاحبه، وهي أربعة أنواع فتجيء ثمانية أزواج، والضَّأْنِ جمع ضائنة وضائن، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر والحسن من «الضأن» بفتح الهمزة، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ومن المعز» بسكون العين وهو جمع ماعز وماعزة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ومن المعز» بفتح العين فضأن ومعز كراكب وركب وتاجر وتجر وضان ومعز كخادم وخدم ونحوه، وقرأ أبان بن عثمان «من الضأن اثنان» على الابتداء والخبر المقدم، ويقال في جمع ماعز معز ومعز ومعيز وأمعوز وقوله تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله، أي لا بد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم جميع الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئا مما يوجبه هذا التقسيم، وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ ثم اتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله نَبِّئُونِي أخبروني بِعِلْمٍ أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وإِنْ شرط وجوابه في نَبِّئُونِي، وجاز تقديم جواب هذا الشرط لما كانت إِنْ لا يظهر لها عمل في الماضي، ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب.

قوله عز وجل:

١٤٤

وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)

القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم كالقول المتقدم في قوله مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام: ١٤٣] وكأنه قال أنتم الذين تدعون أن الله حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في آلذَّكَرَيْنِ أو فيما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم.

وقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا الآية استفهام على جهة التوبيخ، إذ لم يبق لهم الادعاء المحال والتقوّل أنهم شاهدوا وصية الله لهم بهذا، وشُهَداءَ جمع شهيد، ثم تضمن قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ ذكر حال مفتري الكذب على الله وتقرير إفراط ظلمه، وقال السدي: كان الذين سيبوا وبحروا يقولون: الله أمرنا بهذا ثم بيّن تعالى سوء مقصدهم بالافتراء لأنه لو افترى أحد فرية على الله لغير معنى لكان ظلما عظيما فكيف إذا قصد بهما إضلال أمة. وقد يحتمل أن تكون اللام في لِيُضِلَّ لام صيرورة، ثم جزم الحكم لا رب غيره بأنه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أي لا يرشدهم، وهذا عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه مما يقتضيه الشرع أن الله يهدي ظلمة كثيرة بالتوبة.

قوله عز وجل:

١٤٥

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)

هذا أمر من الله عز وجل بأن يشرع للناس جميعا ويبين عن الله ما أوحي إليه، وهذه الآية نزلت بمكة ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، فإن هذه وإن كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات لأنها بأسباب وليست حتف الأنف، فلما بين النص إلحاقها بالميتة كانت زيادة في المحرمات، ثم نزل النص على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر بوحي غير منجز، وبتحريم كل ذي ناب من السباع، فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على إذلاله وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام» .

وقد روي عنه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ثم اختلف الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يجمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهية ونحوها، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنها لم تخمس، وتأول بعضهم أن ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها.

وروي عن ابن عامر أنه قرأ «فيما أوحى إلي» بفتح الهمزة والحاء وقرأ جمهور الناس يطعمه وقرأ أبو جعفر محمد بن علي «يطّعمه» بتشديد الطاء وكسر العين، وقرأ محمد بن الحنفية وعائشة وأصحاب عبد الله «طعمه» بفعل ماض، وقرأ نافع والكسائي وأبو عمر وعاصم «إلا أن يكون» بالياء على تقدير إلا أن يكون المطعوم، وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو أيضا «إلا أن تكون» بالتاء من فوق «ميتة» على تقدير إلا أن تكون المطعومة، وقرأ ابن عامر وحده وذكرها مكي عن أبي جعفر «إلا أن تكون» بالتاء «ميتة» بالرفع على أن تجعل «تكون» بمعنى تقع، ويحتاج على هذه القراءة أن يعطف أَوْ دَماً على موضع «أن تكون» ، لأنها في موضع نصب بالاستثناء، والمسفوح الجاري الذي يسيل وجعل الله هذا فرقا بين القليل والكثير، والمنسفح، السائل من الدم ونحوه، ومنه قول الشاعر وهو طرفة:

إذا ما عاده منّا نساء ... سفحن الدّمع من بعد الرّنين

وقول امرئ القيس: وإن شفائي عبرة إن سفحتها.

فالدم المختلط باللحم والدم الخارج من مرق اللحم وما شاكل هذا حلال والدم غير المسفوح هو هذا وهو معفوّ عنه، وقيل لأبي مجلز في القدر تعلوها الحمرة من الدم قال: إنما حرم الله المسفوح، وقالت نحوه عائشة وغيرها وعليه إجماع العلماء.

وقيل: الدم حرام لأنه إذا زايل فقد انسفخ، و «الرجس» النتن والحرام، يوصف بذلك الأجرام والمعاني كما قال عليه السلام: دعوها فإنها منتنة الحديث، فكذلك قيل في الأزلام والخمر رجس، والرجس أيضا العذاب لغة بمعنى الرجز، وقوله أَوْ فِسْقاً يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم، وقوله تعالى:

فَمَنِ اضْطُرَّ الآية، أباح الله فيها مع الضرورة ركوب المحظور دون بغي.

واختلف الناس فيم ذا فقالت فرقة دون أن يبغي الإنسان في أكله فيأكل فوق ما يقيم رمقه وينتهي إلى حد الشبع وفوقه، وقالت فرقة: بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق أو قتل نفس أو يكون تصرفه في معصية فإن ذلك لا رخصة له، وأما من لم يكن بهذه الأحوال فاضطر فله أن يشبع ويتزود، وهذا مشهور قول مالك بن أنس رحمه الله، وقال بالأول الذي هو الاقتصار على سد الرمق عبد المالك بن حبيب رحمه الله، وقوله فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إباحة تعطيها قوة للفظ.

قوله عز وجل:

١٤٦

وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦)

لما ذكر الله عز وجل ما حرم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم إن الله لم يحرم علينا شيئا وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه، وقد تقدم القول في سورة البقرة في هادُوا ومعنى تسميتهم يهودا، وكُلَّ ذِي ظُفُرٍ يراد به الإبل والنعام والإوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر، وقال أبو زيد:

المراد الإبل خاصة وهذا ضعيف التخصيص، وذكر النقاش عن ثعلب أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر، وقرأ جمهور الناس «ظفر» بضم الظاء والفاء، وقرأ الحسن والأعرج «ظفر» بسكون الفاء، وقرأ أبو السمال قعنب «ظفر» بكسر الظاء وسكون الفاء.

وأخبرنا الله عز وجل في هذه الآية بتحريم الشحوم على بني إسرائيل وهي الثروب وشحم الكلى وما كان شحما خالصا خارجا عن الاستثناء الذي في الآية.

واختلف العلماء في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود فحكى ابن المنذر في الأشراف عن مالك وغيره منع أكل الشحم من ذبائح اليهود وهو ظاهر المدونة.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على القول في قوله عز وجل: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: ٥] بأنه المطعوم من ذبائحهم وأما ما لا يحل لهم فلا تقع عليه ذكاة بل هو كالدم في ذبائح المسلمين، وعلى هذا القول يجيء قول مالك رحمه الله في المدونة فيما ذبحه اليهودي مما لا يحل لهم كالجمل والأرنب أنه لا يؤكل.

وروي عن مالك رحمه الله كراهية الشحم من ذبائح أهل الكتاب دون تحريم وأباح بعض الناس الشحم من ذبائح أهل الكتاب وذبحهم ما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مستنيبا أو نحوه.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن يجعل قوله وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: ٥] يراد به الذبائح فمتى وقع الذبح على صفته وقعت الإباحة، وهذا قول ضعيف لأنه جرد لفظة وَطَعامُ من معنى أن تكون مطعوما لأهل الكتاب وخلصها لمعنى الذبح وذلك حرج لا يتوجه، وأما الطريق فحرمه قوم وكرهه قوم وأباحه قوم وخففه مالك في المدونة ثم رجع إلى منعه، وقال ابن حبيب ما كان محرما عليهم وعلمنا ذلك من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم، وما لم نعلم تحريمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم، وقوله إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يريد ما اختلط باللحم في الظهر والأجناب ونحوه، قال السدي وأبو صالح: الأليات مما حملت ظهورهما أَوِ الْحَوايا قال هو جمع حوية على وزن فعلية، فوزن «حوايا» على هذا فعائل كسفينة وسفائن، وقيل هو جمع حاوية على وزن فاعلة، فحوايا على هذا فواعل كضاربة وضوارب وقيل جمع حاوياء، فوزنها على هذا أيضا فواعل كقاصعاء وقواصع وأما «الحوايا» على الوزن الأول فأصلها حوايي فقلب الياء الأخيرة ألفا فانفتحت لذلك الهمزة ثم بدلت ياء، وأما على الوزنين الأخيرين فأصل «حوايا» حواوي وبدلت الواو الثانية همزة، والحوية ما تحوى في البطن واستدار وهي المصارين والحشوة ونحوهما، وقال مجاهد وقتادة وابن عباس والسدي وابن زيد: «الحوايا» المباعر وقال بعضهم: هي المرابط التي تكون فيها الأمعاء وهي بنات اللبن، وقوله أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يريد في سائر الشخص، والْحَوايا معطوف على ما في قوله إِلَّا ما حَمَلَتْ فهي في موضع نصب عطفا على المنصوب بالاستثناء، وقال الكسائي الْحَوايا معطوف على الظهور، كأنه قال «إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا» ، وقال بعض الناس الْحَوايا معطوف على الشحوم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وعلى هذا تدخل الْحَوايا في التحريم، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه، وقوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، ذلِكَ في موضع رفع وجَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يقتضي أن هذا التحريم إنما كان عقوبة لهم على ذنوبهم وبغيهم واستعصائهم على الأنبياء، وقوله وَإِنَّا لَصادِقُونَ إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم ما حرم الله علينا شيئا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم.

قوله عز وجل:

١٤٧

انظر تفسير الآية:١٤٨

١٤٨

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)

يريد فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما أخبرت به أن الله حرمه عليهم وقالوا لم يحرم الله علينا شيئا وإنما حرمنا ما حرم إسرائيل على نفسه، قال السدي وهذه كانت مقالتهم فَقُلْ يا محمد على جهة التعجب من حالهم والتعظيم لفريتهم في تكذيبهم لك مع علمهم بحقيقة ما قلت، رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، إذ لا يعاجلكم بالعقوبة مع شدة جرمكم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا كما تقول عند رؤية معصية أو أمر مبغي ما أحلم الله، وأنت تريد لإمهاله على مثل ذلك في قوله رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ قوة وصفهم بغاية الاجترام وشدة الطغيان، ثم أعقب هذه المقالة بوعيد في قوله وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فكأنه قال: ولا تغتروا أيضا بسعة رحمته فإن له بأسا لا يرد عن المجرمين إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانسها من آيات مكة مرتفع حكمه بالقتال، وأخبر الله عز وجل نبيه عليه السلام: أن المشركين سيحتجون لصواب ما هم عليه من شركهم وتدينهم بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى وتقريره حالهم وأنه لو شاء غير ذلك لما تركهم على تلك الحال.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وبين أن المشركين لا حجة لهم فيما ذكروه لأنّا نحن نقول: إن الله عز وجل لو شاء ما أشركوا ولكنه عز وجل شاء إشراكهم وأقدرهم على اكتساب الإشراك والمعاصي ومحبته والاشتغال به ثم علق العقاب والثواب على تلك الأشياء والاكتسابات، وهو الذي يقتضيه ظواهر القرآن في قوله جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: ٨٢- ٩٥] ونحو ذلك، ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صوابا، إذ كلها لو شاء الله لم تكن.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقال بعض المفسرين: إنما هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء، وهذا ضعيف، وتعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالت: إن الله قد ذم لهم هذه المقالة وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله تعالى بل هو خلق لهم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليس الأمر على ما قالوا، وإنما ذم الله تعالى ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه عقاب وأما أنه ذم قولهم: لولا المشيئة لم نكفر فلا، ثم قال كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام، كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا وليس في ذلك حجة لهم، ولا شيء يقتضي تكذيبك ولكن كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم، وفي قوله حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا وعيد بيّن، وليس في الآية رد منصوص على قولهم: لو شاء الله ما أشركنا، وإنما ترك الرد عليهم مقدرا في الكلام لوضوحه وبيانه، وقوله وَلا آباؤُنا معطوف على الضمير المرفوع في أَشْرَكْنا والعطف على الضمير المرفوع لا يرده قياس، بخلاف المظنون، لكن سيبويه قد قبح العطف على الضمير المرفوع، ووجه قبحه أنه لما بني الفعل صار كحرف من الفعل فقبح العطف عليه لشبهه بالحرف، وكذلك كقولك: قمت وزيد، لأن تأكيده فيه يبين معنى الاسمية، ويذهب عنه شبه الحرف، وحسن عند سيبويه العطف في قوله ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا لما طال الكلام، ب لا، فكان معنى الاسمية اتضح واقتضت- لا ما يعطف بعدها وقوله تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ الآية: المعنى قل يا محمد للكفرة: هل عندكم من علم من قبل الله تعالى فتبينوه حتى تقوم به الحجة، ومِنْ في قوله مِنْ عِلْمٍ زائدة مؤكدة وجاءت زيادتها لأن الاستفهام داخل في غير الواجب، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي لا شيء عندكم إلا الظن وهو أكذب الحديث.

وقرأ جمهور الناس: «تتبعون» على المخاطبة، وقرأ النخعي وإبراهيم وابن وثاب: «إن يتبعوا» بالياء حكاية عنهم.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه قراءة شاذة يضعفها قوله وَإِنْ أَنْتُمْ وتَخْرُصُونَ معناه: تقدرون وتظنون وترجمون.

قوله عز وجل:

١٤٩

انظر تفسير الآية:١٥٠

١٥٠

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)

ثم أعقب تعالى أمره نبيه صلى الله عليه وسلم بتوقيف المشركين على موضع عجزهم بأمره إياه بأن يقول مبينا مفصحا فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ يريد البالغة غاية المقصد في الأمر الذي يحتج فيه، ثم أعلم بأنه لو شاء لهدى العالم بأسره.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الآية ترد على المعتزلة في قولهم إن الهداية والإيمان إنما هي من العبد لا من الله، فإن قالوا معنى لَهَداكُمْ لاضطركم إلى الهدى فسد ذلك بمعتقدهم أن الإيمان الذي يريد الله من عباده ويثيب عليه ليس الذي يضطر إليه العبد، وإنما هو عندهم الذي يقع من العبد وحده، وهَلُمَّ معناها هات، وهي حينئذ متعدية، وقد تكون بمعنى أقبل، فهي حينئذ لا تتعدى، وبعض العرب يجعلها اسما للفعل كرويدك، فيخاطب بها الواحد والجميع والمذكر والمؤنث على حد واحد، وبعض العرب يجعلها فعلا فيركب عليها الضمائر فيقول هلم يا زيد وهلموا أيها الناس وهلمي يا هند ونحو هذا، وذكر اللغتين أبو علي في الإغفال، وقال أبو عبيدة اللغة الأولى لأهل العالية واللغة الثانية لأهل نجد، وقال سيبويه والخليل: أصلها هالم، وقال بعضهم: أصلها هالمم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين فجاء هلمم فحذف من قال أصلها هالم وأدغم من قال أصلها هلمم على غير قياس، ومعنى هذه الآية قل هاتوا شهداءكم على تحريم الله ما زعمتم أنه حرمه، ثم قال الله تعالى لنبيه عليه السلام فَإِنْ شَهِدُوا أي فإن افترى لهم أحدا وزور شهادة أو خبرا عن نبوة ونحو ذلك فتجنب أنت ذلك ولا تشهد معهم.

وفي قوله فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ قوة وصف شهادتهم بنهاية الزور، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ يريد لا تنحط في شهوات الكفرة وتوافقهم على محابهم والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ عطف نعت على نعت، كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل، هذا مذهب عظم الناس، وقال النقاش: نزلت في الدهرية من الزنادقة. وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أندادا يسوونهم به، وإن كانت في الزنادقة فعدلهم غير هذا.

قوله عز وجل:

١٥١

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

هذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوا جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر، وتَعالَوْا معناه أقبلوا، وأصله من العلو فكأن الدعاء لما كان أمرا من الداعي استعمل فيه ترفيع المدعو، وتعالى هو مطاوع عالى، إذ تفاعل هو مطاوع فاعل.

وأَتْلُ معناه اسردوا نص من التلاوة التي يصح هي اتباع بعض الحروف بعضا، وما نصب بقوله أَتْلُ وهي بمعنى الذي، وقال الزجّاج أن يكون قوله أَتْلُ معلقا عن العمل وما نصب ب حَرَّمَ.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قلق وأن في قوله «أن لا تشركوا» يصح أن تكون في موضع رفع الابتداء التقدير، الأمر أن أو ذلك أن، ويصح أن تكون في موضع نصب على البدل من ما قاله مكي وغيره.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والمعنى يبطله فتأمله، ويصح أن يكون مفعولا من أجله التقدير إرادة أن لا تشركوا به شيئا، إلا أن هذا التأويل يخرج أن لا تشركوا من المتلو ويجعله سببا لتلاوة المحرمات، وتُشْرِكُوا يصح أن يكون منصوبا بأن، ويتوجه أن يكون مجزوما بالنهي وهو الصحيح في المعنى المقصود، وأن قد توصل بما نصبته، وقد توصل بالفعل المجزوم بالأمر والنهي، وشَيْئاً عام يراد به كل معبود من دون الله، وإِحْساناً نصب على المصدر وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا والمحرمات تنفك من هذه المذكورات بالمعنى وهي الإشراك والعقوق وقرب الفواحش وقتل النفس وقال كعب الأحبار: هذه الآيات مفتتح التوراة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الآية، وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة، وقد قيل إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى، وإن اعترض من قال إن تُشْرِكُوا منصوب بأن بعطف المجزومات عليه فذلك موجود في كلام العرب، وأنشد الطبري حجة لذلك: [الرجز] .

حج وأوصى بسليمى الأعبدا ... أن لا ترى ولا تكلم أحدا

ولا يزل شرابها مبرّدا وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ الآية نهي عن عادة العرب في وأد البنات، والولد يعم الذكر والأنثى من البنين، و «الإملاق» الفقر وعدم المال، قاله ابن عباس وغيره، يقال أملق الرجل إذا افتقر.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويشبه أن يكون معناه أملق أي لم يبق له إلا الملق كما قالوا أترب إذا لم يبق له إلا التراب وأرمل إذا لم يبق له إلا الرمل، والملق الحجارة السود واحدته ملقة، وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق، ويقال أملق ماله بمعنى أنفقه، وذكر أن عليا قال لامرأة أملقي من مالك ما شئت وذكر النقاش عن محمد بن نعيم الترمذي أنه السرف في الإنفاق، وحكى أيضا النقاش عن مؤرج أنه قال: الإملاق الجوع بلغة لخم.

وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي، و «ظهر وبطن» حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء، وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات، فقال السدي وابن عباس: ما ظَهَرَ هو زنا الحوانيت الشهير، وما بَطَنَ هو متخذات الأخدان، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم الله الجميع، وقال مجاهد ما ظَهَرَ هو نكاح حلائل الآباء ونحو ذلك، وما بَطَنَ هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة، بل هو دعوى مجردة، وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا الآية متضمنة تحريم قتل النفس المسلمة والمعاهدة، ومعنى الآية إِلَّا بِالْحَقِّ الذي يوجب قتلها وقد بينته الشريعة وهو الكفر بالله وقتل النفس والزنا بعد الإحصان والحرابة وما تشعب من هذه، وذلِكُمْ إشارة إلى هذه المحرمات، و «الوصية» الأمر المؤكد المقرر ومنه قول الشاعر: [الطويل]

أجدّك لم تسمع وصاة محمّد ... نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا

وقوله لَعَلَّكُمْ ترج بالإضافة إلينا أي من سمع هذه الوصية ترجى وقوع أثر العقل بعدها والميز بالمنافع والمضار في الدين.

قوله عز وجل:

١٥٢

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)

هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه، قال مجاهد: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ التجارة فيه ممن كان من الناظرين له مال يعيش به، فالأحسن إذا ثمر مال يتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها من كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره وإلا دعته الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف، قاله ابن زيد، و «الأشد» جمع شد وجمع شدة، وهو هنا الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليس هذا بالأشد المقرون ببلوغ الأربعين، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وتلك الأشد هي التجارب والعقل المحنك، ولكن قد خلطهما المفسرون، وقال ربيعة والشعبي ومالك فيما روي عنه وأبو حنيفة، «بلوغ الأشد» البلوغ مع أن لا يثبت سفه، وقال السدي:

«الأشد» ثلاثون سنة، وقالت فرقة ثلاثة وثلاثون سنة، وحكى الزجاج عن فرقة ثمانية عشرة سنة، وضعّفه ورجح البلوغ مع الرشد وحكى النقاش أن «الأشد» هنا من خمسة عشر إلى ثلاثين، والفقه ما رجح الزجّاج، وهو قول مالك رحمه الله الرشد وزوال السفه مع البلوغ.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع، وقوله تعالى:

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ الآية أمر بالاعتدال في الأخذ والإعطاء، و «القسط» العدل، وقوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه، قال الطبري: لما كان الذي يعطي ناقصا يتكلف في ذلك مشقة والذي يعطي زائدا يتكلف أيضا مثل ذلك، رفع الله عز وجل الأمر بالمعادلة حتى يتكلف واحد منهما مشقة، وقوله وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس وغير ذلك، أي ولو كان ميل الحق على قراباتكم، وقوله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ يحتمل أن يراد جميع ما عهده الله إلى عباده، ويحتمل أن يراد به جميع ذلك مع جميع ما انعقد بين إنسانين وأضاف ذلك العهد إلى الله من حيث قد أمر بحفظه والوفاء به، وقوله لَعَلَّكُمْ ترجّ بحسبنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تذكّرون» بتشديد الذال والكاف جميعا وكذلك «يذّكّرون» و «يذكّر الإنسان» وما جرى من ذلك مشددا كله، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ [مريم: ٦٧] فإنهم خففوها، وروى أبان وحفص عن عاصم «تذكرون» خفيفة الذال في كل القرآن.

وقرأ حمزة والكسائي «تذكرون» بتخفيف الذال إذا كان الفعل بالتاء، وإذا كان بالياء قرأه بالتشديد، وقرأ حمزة وحده في سورة الفرقان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الآية: ٦٢] بسكون الذال وتخفيف الكاف، وقرأ ذلك الكسائي بتشديدهما وفتحهما.

قوله عز وجل:

١٥٣

وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)

الإشارة هي إلى الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بجملته، وقال الطبري: الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدمت من قوله قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: ١٥١] قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «وأنّ هذا» بفتح الهمزة وتشديد النون «صراطي» ساكن الياء، وقرأ حمزة والكسائي «وإنّ» بكسر الألف وتشديد النون، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق وابن عامر من السبعة «وأن» بفتح الهمزة وسكون النون «صراطي» مفتوح الياء، فأما من فتح الألف فالمعنى عنده كأنه قال ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، أي اتبعوه لكونه كذا وتكون الواو على هذا إنما عطفت جملة على جملة، ويصح غير هذا أن يعطف على «ان لا تشركوا» وكأن المحرم من هذا اتباع السبل والتنكيب عن الصراط الأقوم، ومن قرأ بتخفيف النون عطف على قوله «أن لا تشركوا» ومذهب سيبويه أنها المخففة من الثقيلة، وأن التقدير وأنه هذا صراطي، ومن قرأ بكسر الألف وتشديد النون فكأنه استأنف الكلام وقطعه من الأول، وفي مصحف ابن مسعود «وهذا صراطي» بحذف أن، وقال ابن مسعود إن الله جعل طريقا صراطا مستقيما طرفه محمد عليه السلام وشرعه ونهايته الجنة، وتتشعب منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار وقال أيضا خط لنا الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، فقال: هذا سبيل الله، ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الآية تعلم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد وتقدم القول في ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ، وفي قوله لَعَلَّكُمْ ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله جاءت العبارة لعلكم تعقلون، والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر، وركوب الجادة الكاملة يتضمن فعل الفضائل، وتلك درجة التقوى.

قوله عز وجل:

١٥٤

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)

ثُمَّ في هذه الآية إنما مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال ثم مما قضيناه أنا آتينا موسى الكتاب، ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدم بالزمان على محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته ما حرم الله، والْكِتابَ التوراة، وتَماماً نصب على المصدر، وقوله عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مختلف في معناه فقالت فرقة الَّذِي بمعنى الذين، وأَحْسَنَ فعل ماض صلة «الذين» ، وكأن الكلام وآتينا موسى الكتاب تفضلا على المحسنين من أهل ملته وإتماما للنعمة عندهم، هذا تأويل مجاهد، وفي مصحف عبد الله «تماما على الذين أحسنوا» ، فهذا يؤيد ذلك التأويل، وقالت فرقة الَّذِي غير موصولة، والمعنى تماما على ما أحسن هو من عبادة ربه والاضطلاع بأمور نبوته، يريد موسى عليه السلام، هذا تأويل الربيع وقتادة، وقالت فرقة: المعنى تَماماً أي تفضلا وإكمالا على الذي أحسن الله فيه إلى عباده من النبوءات والنعم وغير ذلك، ف الَّذِي أيضا في هذا التأويل غير موصولة، وهذا تأويل ابن زيد.

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «تماما على الذي أحسن» بضم النون، فجعلها صفة تفضيل ورفعها على خبر ابتداء مضمر تقديره «على الذي هو أحسن» وضعف أبو الفتح هذه القراءة لقبح حذف المبتدأ العائد، وقال بعض نحويي الكوفة يصح أن يكون أَحْسَنَ صفة ل الَّذِي من حيث قارب المعرفة إذ لا تدخله الألف واللام كما تقول العرب مررت بالذي خير منك ولا يجوز فالذي عالم، وخطأ الزجاج هذا القول الكوفي، وتَفْصِيلًا يريد بيانا وتقسيما ولَعَلَّهُمْ ترج بالإضافة إلى البشر، وبِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي بالبعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء صلوات الله عليهم، إذ لا تلزمه العقول بذواتها وإنما ثبت بالسمع مع تجويز العقل له.

قوله عز وجل:

١٥٥

انظر تفسير الآية:١٥٧

١٥٦

انظر تفسير الآية:١٥٧

١٥٧

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)

هذا إشارة إلى القرآن، ومُبارَكٌ وصف بما فيه من التوسعات وإزالة أحكام الجاهلية وتحريماتها وجمع كلمة العرب وصلة أيدي متبعيه وفتح الله على المؤمنين به ومعناه منمي خيره مكثر، و «البركة» الزيادة والنمو، وفَاتَّبِعُوهُ دعاء إلى الدين، وَاتَّقُوا الأظهر فيه أنه أمر بالتقوى العامة في جميع الأشياء بقرينة قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وأَنْ من قوله أَنْ تَقُولُوا في موضع نصب، والعامل فيه أَنْزَلْناهُ والتقدير وهذا كتاب أنزلناه كراهية أن، وهذا أصح الأقوال وأضبطها للمعنى المقصود، وقيل العامل في أَنْ قوله وَاتَّقُوا فكأنه قال واتقوا أن تقولوا، وهذا تأويل يتخرج على معنى واتقوا أن تقولوا كذا، لأنه لا حجة لكم فيه، ولكن يعرض فيه قلق لقوله أثناء ذلك لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وفي التأويل الأول يتسق نظم الآية، و «الطائفتان» اليهود والنصارى بإجماع من المتأولين والدراسة القراءة والتعلم بها، وأَنْ في قوله وَإِنْ كُنَّا مخففة من الثقيلة، واللام في قوله لَغافِلِينَ لام توكيد، هذا مذهب البصريين وحكى سيبويه عن بعض العرب أنهم يخففونها ويبقونها على عملها، ومنه قراءة بعض أهل المدينة وإن كلا وأما المشهور فإنها إذا خففت ترجع حرف ابتداء لا تعمل، وأما على مذهب الكوفيين ف أَنْ في هذه الآية بمعنى ما النافية، واللام بمعنى إلا، فكأنه قال وما كنا عن دراستهم إلا غافلين.

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: معنى هذه الآية إزالة الحجة عن أيدي قريش وسائر العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب، فكأنه قال: وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا إنما أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا، ونحن لم نعرف ذلك، فهذا كتاب بلسانكم ومع رجل منكم، وقوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا جملة معطوفة على الجملة الأولى، وهي في غرضها من الاحتجاج على الكفار وقطع تعلقهم في الآخرة بأن الكتب إنما أنزلت على غيرهم وأنهم غافلون عن الدراسة والنظر في الشرع وأنهم لو نزل عليهم كتاب لكانوا أسرع إلى الهدى من الناس كلهم، فقيل لهم: قد جاءكم بيان من الله وهدى ورحمة، ولما تقرر أن البينة قد جاءت والحجة قد قامت حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بهذه الآيات البينات، وَصَدَفَ معناه حاد وراغ وأعرض، وقرأ يحيى بن وثاب وابن أبي عبلة «كذب» بتخفيف الذال، والجمهور «كذّب» بتشديد الذال، وسَنَجْزِي الَّذِينَ وعيد، وقرأت فرقة «يصدفون» بكسر الدال وقرأت فرقة «يصدفون» بضم الدال.

قوله عز وجل:

١٥٨

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)

الضمير في يَنْظُرُونَ هو للطائفة التي قيل لها قبل فقد جاءكم بينة من ربكم وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات السورة في جدالهم، ويَنْظُرُونَ معناه ينتظرون، والْمَلائِكَةُ هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج.

ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة، وقرأ حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم» بالياء، وقرأ الباقون «تأتيهم» بالتاء من فوق، وقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قال الطبري: لموقف الحساب يوم القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين، ويحكي الزجاج أن المراد بقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي العذاب الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات والرجفات والخسف ونحوه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى. ألا ترى أن الله تعالى يقول فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: ٢] فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف، وقوله:

أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أما ظاهر اللفظ لو وقفنا معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن يخص من ذلك شرطا يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى تخيله، لكن لما قال بعد ذلك يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها وبينت الآثار الصحاح في البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من المغرب، قوى أن الإشارة بقوله أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها، وقال بهذا التأويل مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، ويقوي أيضا أن تكون الإشارة إلى غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر.

ففي الحديث أن توبة العبد تقبل ما لم يغرغر، وهذا إجماع لأن من غرغر وعاين فهو في عداد الموتى، وكون المرء في هذه الحالة من آيات الله تعالى، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام الساعة.

قال القاضي أبو محمد: فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال لا يخلون منها كأنه قال: هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا الموت الذي لهم بعده أشد العذاب، والأخذات المعهودة لله عز وجل، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة.

قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يريد بقوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الآية التي ترفع التوبة معها، وقد بينت الأحاديث أنها طلوع الشمس من مغربها، وقرأ زهير الفرقبي «يوم يأتي» بالرفع وهو على الابتداء والخبر في الجملة التي هي «لا ينفع» بتاء، وأنث الإيمان لما أضيف إلى مؤنث. أو لما نزل منزلة التوبة، وقال جمهور أهل التأويل كما تقدم الآية التي لا تنفع التوبة من الشرك أو من المعاصي بعدها، هي طلوع الشمس من المغرب.

وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث، إما طلوع الشمس من مغربها، وإما خروج الدابة، وإما خروج يأجوج ومأجوج.

قال أبو محمد: وهذا فيه نظر لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس.

وروي في هذا الحديث أن الشمس تجري كل يوم حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها في طلوع المشرق، وحتى إذا أراد الله عز وجل سد باب التوبة أمرها بالطلوع من مغربها، قال ابن مسعود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتطلع هي والقمر كالبعيرين القرينين، ويقوي النظر أيضا أن الغرغرة هي الآية التي ترفع معها التوبة، وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يريد جميع أعمال البر فرضها ونفلها، وهذا الفصل هو للعصاة المؤمنين كما قوله لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ هو للكفار، والآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين، وقرأ أبو هريرة «أو كسبت في إيمانها صالحا» ، وقوله تعالى: قُلِ انْتَظِرُوا الآية تتضمن الوعيد أي فسترون من يحق كلامه ويتضح ما أخبر به.

قوله تعالى:

١٥٩

انظر تفسير الآية:١٦٠

١٦٠

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)

قال ابن عباس والصحاب وقتادة: المراد اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم الحنيفية، وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد، فهو دين جميع الناس بهذا الوجه ووصفهم «بالشيع» إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة الاختلاف، وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة محمد، أي فرقوا دين الإسلام، وقرأ علي بن أبي طالب وحمزة والكسائي «فارقوا» . ومعناه تركوا، ثم بيّن قوله وَكانُوا شِيَعاً أنهم فرقوه أيضا، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد ما يتشايعون عليه، وقوله لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع، ولأنهم لهم حظ من تفريق الدين، وقوله إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ إلى آخر الآية وعيد محض، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله فيه وعيد، كما أن القرينة في قوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة: ٢٧٥] تعطي أن في ذلك الأمر رجاء كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير، وقرأ النخعي والأعمش وأبو صالح «فرقوا» بتخفيف الراء وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة فيشبه أن يقال إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر. وقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية. قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر: هذه الآية نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة فضاعف الله حسناتهم للحسنة عشر. وكان المهاجرون قد ضوعف لهم الحسنة سبعمائة.

قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل يحتاج إلى سند يقطع العذر، وقالت فرقة: هذه الآية لجميع الأمة، أي إن الله يضاعف الحسنة بعشرة ثم بعد هذا المضمون قد يزيد ما يشاء، وقد يزيد أيضا على بعض الأعمال كنفقة الجهاد، وقال ابن مسعود ومجاهد والقاسم بن أبي بزة وغيرهم: «الحسنة» لا إله إلا الله «والسيئة» الكفر.

قال القاضي أبو محمد: وهذه هي الغاية من الطرفين، وقالت فرقة: ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات، وهذا هو الظاهر. وأنث لفظ «العشر» لأن الأمثال هاهنا بالمعنى حسنات، ويحتمل أن الأمثال أنث لما أضيفت إلى مؤنث، وهو الضمير كما قال الشاعر: [الطويل]

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أعاليها مرّ الرياح النواسم

فأنث وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب «فله عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأعمال ست موجبة وموجبة ومضعفة ومضعفة ومثل ومثل. فلا إله إلا الله توجب الجنة. والشرك يوجب النار. ونفقة الجهاد تضعف سبعمائة ضعف، والنفقة على الأهل حسنتها بعشرة، والسيئة جزاؤها مثلها، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وقوله تعالى: لا يُظْلَمُونَ أي لا يوضع في جزائهم شيء في غير موضعه، وتقدير الآية من جاء بالحسنة فله ثواب عشر أمثالها، والمماثلة بين الحسنة والثواب مترتبة إذا تدبرت، وقال الطبري قوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية، يريد من الذين فرقوا دينهم أي من جاء مؤمنا فله الجنة.

قال القاضي أبو محمد: والقصد بالآية إلى العموم في جميع العالم أليق باللفظ.

قوله عز وجل:

١٦١

انظر تفسير الآية:١٦٣

١٦٢

انظر تفسير الآية:١٦٣

١٦٣

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)

هذا أمر من الله عز وجل نبيه عليه السلام بالإعلان بشريعته والانتباه من سواها من أضاليلهم، ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة، وهَدانِي معناه أرشدني بخلق الهدى في قلبي. والرب المالك، ولفظه مصدر من قولك ربه يربه، وإنما هو مثل عدل ورضى في أنه مصدر وصف به وأصله ذو الرب ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل الرب. و «الصراط» الطريق.

ودِيناً منصوب ب هَدانِي المقدر الذي يدل عليه هَدانِي الأول، وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار إلى. إذ هدى يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني وبحرف الجر، فهو فعل متردد.

وقيل نصب دِيناً فعل مضمر تقديره عرفني دينا. وقيل تقديره فاتبعوا دينا أو فالزموا دينا، وقيل نصب على البدل من صِراطٍ على الموضع، أن تقديره هداني ربي صراطا مستقيما، وقِيَماً نعت للدين، ومعناه مستقيما معتدلا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «قيّما» بفتح القاف وكسر الياء وشدها. وأصله قيوم عللت كتعليل سيد وميت، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «قيما» بكسر القاف وفتح الياء على وزن فعل، وكأن الأصل أن يجيء فيه قوما كعوض وحول إلا أنه شذ كشذوذ قولهم جياد في جمع جواد وثيرة في جمع ثور، ومِلَّةَ بدل من الدين، والملة الشريعة وحَنِيفاً نصب على الحال من إِبْراهِيمَ، والحنف في كلام العرب الميل فقد يكون الميل إلى فساد كحنف الرجل.

وكقوله فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [البقرة: ١٨٢] على قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة ونحو ذلك. وقد يكون الحنف إلى الصلاح كقوله عليه السلام: «الحنيفية السمحة» ، و «الدين الحنيف» ونحوه، وقال ابن قتيبة: الحنف الاستقامة وإنما سمي الأحنف في الرجل على جهة التفاؤل له. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفي للنقيصة عنه صلى الله عليه وسلم، وقوله قُلْ إِنَّ صَلاتِي الآية، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادة وجهه وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه وحياته وموته بيد الله عز وجل، يصرفه في جميع ذلك كيف شاء، وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم، ويكون قوله بِذلِكَ أُمِرْتُ على هذا التأويل راجعا إلى قوله لا شَرِيكَ لَهُ فقط أو راجعا إلى القول الأول وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما ذكر من صلاة وغيرها، أي أمرت بأن أقصد وجه الله عز وجل في ذلك وأن التزم العمل، وقرأ جمهور الناس: «ونسكي» بضم السين، وقرأ أبو حيوة والحسن بإسكان السين، وقالت فرقة «النسك» في هذه الآية الذبائح.

قال القاضي أبو محمد: ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة، وقالت فرقة: «النسك» في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبد، وقرأ السبعة سوى نافع و «محياي ومماتي» بفتح الياء من «محياي» وسكونها من «مماتي» ، وقرأ نافع وحده و «محياي» بسكون الياء من «محياي» ، قال أبو علي الفارسي وهي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين، وشاذة في الاستعمال ووجهها أنه قد سمع من العرب التقت حلقتا البطان ولفلان ثلثا المال، وروى أبو خليد عن نافع و «محياي» بكسر الياء، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري و «محيي» ، وهذه لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب:

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتصرعوا ولكل جنب مصرع

وقرأ عيسى بن عمر «صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي» بفتح الياء فيهن وروي ذلك عن عاصم. وقوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أي من هذه الأمة، وقال النقاش من أهل مكة.

قال القاضي أبو محمد: والمعنى واحد بل الأول أعم وأحسن وقرأت فرقة «وأنا» بإشباع الألف وجمهور القراء على القراءة «وأنا» دون إشباع، وهذا كله في الوصل.

قال القاضي أبو محمد: وترك الإشباع أحسن لأنها ألف وقف فإذا اتصل الكلام استغنى عنها لا سيما إذا وليتها همزة.

قوله عز وجل:

١٦٤

انظر تفسير الآية:١٦٥

١٦٥

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت هذه الآية، وهي استفهام يقتضي التقرير والتوقيف والتوبيخ، وأَبْغِي معناه أطلب، فكأنه قال: أفيحسن عندكم أن أطلب إلها غير الله الذي هو رب كل شيء؟ وما ذكرتم من كفالتكم لا يتم لأن الأمر ليس كما تظنونه، وإنما كسب كل نفس من الشر والإثم عليها وحدها وَلا تَزِرُ أي لا تحمل وازرة أي حاملة حمل أخرى وثقلها، والوزر أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم لأنه ينقض الظهر تجوزا واستعارة، يقال منه: وزر الرجل يزر فهو وازر ووزر يوزر فهو موزور، وقوله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ تهديد ووعيد فَيُنَبِّئُكُمْ أي فيعلمكم أن العقاب على الاعوجاج تبيين لموضع لحق، وقوله بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يريد على ما حكى بعض المتأولين من أمري في قول بعضكم هو ساحر وبعضكم هو شاعر. وبعضكم افتراه، وبعضكم اكتتبه ونحو هذا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع وإن كان اللفظ يعم جميع أنواع الاختلافات من الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك، وخَلائِفَ جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا يتصور في جميع الأمم وسائر أصناف الناس، لأن من أتى خليفة لمن مضى ولكنه يحسن في أمة محمد عليه السلام أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم، وليس لهم من يخلفهم إذ هم آخر الأمم وعليهم قيام الساعة.

وروى الحسن بن أبي الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله، ويروى أنتم آخرها وأكرمها على الله: وقوله وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لفظ عام في المال والقوة والجاه وجودة النفوس والأذهان وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله تعالى الخلق فيرى المحسن من المسيء، ولما أخبر عز وجل بهذا ففسح للناس ميدان العمل وحضهم على الاستباق إلى الخير توعّد ووعد تخويفا منه وترجية، فقال إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وسرعة عقابه إما بأخذاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحسن أن يوصف عقاب الآخرة ب سَرِيعُ لما كان متحققا مضمون الإتيان والوقوع، فكل آت يحكم عليه بالقرب ويوصف به وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ترجية لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب الله كثير اقتران الوعيد بالوعد لطفا من الله تعالى بعباده.

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

﴿ ٠