٤٠لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «ليميز» بفتح الياء وكسر الميم، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة بن نصاح وشبل وأبي عبد الرحمن والحسن وعكرمة ومالك بن دينار، تقول مزت الشيء، والعرب تقول مزته فلم يتميز لي، حكاه يعقوب وفي شاذ القراءة وانمازوا اليوم، وأنشد أبو زيد: [البسيط] لما ثنى الله عني شرّ عدوته ... وانمزت لا منشئا ذعرا ولا وجلا وهو مطاوع ماز، وقرأ حمزة والكسائي «ليميّز» بضم الياء وفتح الميم وشد الياء، وهي قراءة قتادة وطلحة بن مصرف والأعمش والحسن أيضا وعيسى البصري، تقول ميزت أميز إذا فرقت بين شيئين فصاعدا، وفي القرآن تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: ٨] فهو مطاوع ميز ومعناه تتفصل، وقال ابن عباس رضي الله عنه والسدي، المعنيّ ب الْخَبِيثَ الكفار وب الطَّيِّبِ المؤمنون. قال القاضي أبو محمد: واللام على هذا التأويل من قوله لِيَمِيزَ متعلقة ب يُحْشَرُونَ [الأنفال: ٣٦] ، والمعنى أن الله يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين بأن يجمع الكافرين جميعا فيلقيهم في جهنم، ثم أخبر عنهم أنهم هم الخاسرون أي الذين خابت سعايتهم وتبت أيديهم وصاروا إلى النار، وقال ابن سلام والزجّاج: المعنيّ ب الْخَبِيثَ المال الذي أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله، والطَّيِّبِ هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله. قال القاضي أبو محمد: واللام على هذا التأويل من قوله لِيَمِيزَ متعلقة ب يُغْلَبُونَ [الأنفال: ٣٦] ، والمعنى: الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب، وقوله تعالى على هذا التأويل وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ إلى قوله فِي جَهَنَّمَ مترتب على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يخرج من الأموال ما كان صدقة أو قربة يوم القيامة ثم يأمر بسائر ذلك فيلقى في النار، وحكى الزهراوي عن الحسن أن الكفار يعذبون بذلك المال، فهي كقوله فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة: ٣٥] وقاله الزجّاج: وعلى التأويلين فقوله وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً إنما هي عبارة عن جمع ذلك وضمه وتأليف أشتاته وتكاثفه بالاجتماع، وفَيَرْكُمَهُ في كلام العرب يكثفه، ومنه سحاب مركوم وركام، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط] زع بالزمام وجوز الليل مركوم وقوله وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بمعنى يلقي، قاله أبو علي، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ على هذا التأويل يراد المنافقون من الكفار، ولفظة الخسارة تليق بهم من جهة المال وبغير ذلك من الجهات، وقوله قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية، أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى الذي تضمنه ألفاظ قوله إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وسواء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبارة أو غيرها، ولو كان الكلام كما ذكر الكسائي أنه في مصحف ابن مسعود «قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لكم» لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها، هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ، وقوله إِنْ يَنْتَهُوا يريد به عن الكفر ولا بد، والحامل على ذلك جواب الشرط ب يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر، وقوله إِنْ يَعُودُوا يريد به إلى القتال لأن لفظة عاد يعود إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان الإنسان عليها ثم تنقّل عنها. ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال، ولا يصح أن يتأول وَإِنْ يَعُودُوا إلى الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه وإنما قلنا في عاد إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر بمنزلة صار، وذلك كما تقول عاد زيد ملكا تريد صار، ومنه قول أبي الصلت: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شبيبا بماء فعادا بعد أبوالا وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل، لكنها مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونه، فحكمها حكم صار، وقوله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ عبارة بجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله حين صد في وجه نبيه وبمن هلك في يوم بدر بسيف الإسلام والشرع، والمعنى فقد رأيتم وسمعتم عن الأمم ما حل. قال القاضي أبو محمد: والتخويف عليهم بقصة بدر أشد إذ هي القريبة منهم والمعاينة عندهم وعليها نص ابن إسحاق والسدي، وقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ الآية، أمر من الله عز وجل فرض به على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار، و «الفتنة» قال ابن عباس وغيره معناها الشرك، وقال ابن إسحاق: معناها حتى لا يفتن أحد عن دينه كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم كبلال وغيره، وهو مقتضى قول عروة بن الزبير في جوابه لعبد الملك بن مروان حين سأله عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا، وقوله وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أي لا يشرك معه صنم ولا وثن ولا يعبد غيره، وقال قتادة حتى تستوسق كلمة الإخلاص لا إله إلا الله. قال القاضي أبو محمد: وهذه المعاني تتلازم كلها، وقال الحسن: حتى لا يكون بلاء، وهذا يلزم عليه القتال في فتن المسلمين الفئة الباغية، على سائر ما ذكرناه من الأقوال يكون المعتزل في فسحة، وعلى هذا جاء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أما نحن فقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وأما أنت وأصحابك فتريدون أن نقاتل حتى تكون فتنة. قال القاضي أبو محمد: فمذهب عمر أن «الفتنة» الشرك في هذه الآية وهو الظاهر، وفسر هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» ، ومن قال المعنى حتى لا يكون شرك فالآية عنده يريد بها الخصوص فيمن لا يقبل منه جزية، قال ابن سلام: وهي في مشركي العرب، ثم قال الله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا أي عن الكفر فإن الله بصير بعملهم مجاز عليه، عنده ثوابه وجميل المعاوضة عليه وقرأ يعقوب بن إسحاق وسلام بن سليمان «بما تعملون» بالتاء أي في قتالكم وجدكم وجلادكم عن دينه. وقوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا الآية، معادل لقوله فَإِنِ انْتَهَوْا، والمعنى فإن انتهوا عن الكفر فالله مجازيهم أو مجازيكم على قراءة «تعملون» ، وإن تولوا ولم ينتهوا فاعلموا أن الله ينصركم عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظفر، أي فجدوا، و «المولى» هاهنا الموالي والمعين، والمولى في اللغة على معان هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها، والمولى الذي هو السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين. قوله عز وجل: |
﴿ ٤٠ ﴾