بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة هود

هذه سورة مكية إلا قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود: الآية ١٢] ، وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [هود: الآية ١٧] ، ونزلت في ابن سلام وأصحابه، وقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١٤] ، نزلت في شأن الثمار وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل، على أن الأولى تشبه المكي.

وإذا أردت ب «هود» اسم السورة لم ينصرف كما تفعل إذا سميت امرأة بعمرو وزيد وإذا أردت سورة هود صرفت.

قوله عز وجل:

١

انظر تفسير الآية:٤

٢

انظر تفسير الآية:٤

٣

انظر تفسير الآية:٤

٤

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)

تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وتختص هذه بأن قيل إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي حم [غافر: ١، فصلت: ١، الشورى: ١، الزخرف: ١، الدخان: ١، الجاثية: ١، الأحقاف: ١] وفي ن وَالْقَلَمِ [القلم: ١] .

وكِتابٌ مرتفع على خبر الابتداء، فمن قال الحروف إشارة إلى حروف المعجم كانت الحروف المبتدأ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ «هذا كتاب» والمراد بالكتاب القرآن.

وأُحْكِمَتْ معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد صلى الله عليه وسلم في أزمنة مختلفة ف ثُمَّ على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: فُصِّلَتْ معناه فسرت، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير- فيما روي عنه-: «ثم فصلت» بفتح الفاء والصاد واللام، ويحتمل ذلك معنيين:

أحدهما: «فصلت» أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى. والثاني فصلت بين المحق والمبطل من الناس.

ومِنْ لَدُنْ معناه من حيث ابتدئت الغاية، كذا قال سيبويه وفيها لغات: يقال: لدن ولدن بسكون الدال: وقرىء بهما. مِنْ لَدُنْ، ويقال: «لد» بفتح اللام وضم الدال دون نون، ويقال «لدا» ، بدال منونة مقصورة. ويقال: «لد» بدال مكسورة منونة، حكى ذلك أبو عبيدة.

وحَكِيمٍ أي محكم، وخَبِيرٍ أي ذو خبرة بالأمور أجمع، أَلَّا تَعْبُدُوا أن في موضع نصب إما على إضمار فعل وإما على تقدير ب «أن» وإسقاط الخافض، وقيل على البدل من موضع الآيات، وهذا معترض ضعيف لأنه موضع للآيات، وإن نظر موضع الجملة فهو رفع: ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير: تفصيله ألا تعبدوا وقيل: على البدل من لفظ الآيات.

وقوله تعالى: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي من عقابه وبثوابه: وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم وأَنِ معطوفة على التي قبلها.

ومعنى الآية: استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه. وثُمَّ مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.

وقرأ الجمهور «يمتّعكم» بشد التاء، وقرأ ابن محيصن «يمتعكم» بسكون الميم وتخفيف التاء، وفي كتاب أبي حاتم: «إن هذه القراءات بالنون» ، وفي هذا نظر. ومَتاعاً مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وقيل نصب بتعدي يُمَتِّعْكُمْ لأنك تقول: متعت زيدا ثوبا. ووصف المتاع «بالحسن» إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا، وأما من قال بأن «المتاع الحسن» هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة والأجل المسمى» : هو أجل الموت معناه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لكل واحد منكم، وهذا ظاهر الآية: «واليوم الكبير» - على هذا- هو يوم القيامة.

وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام، و «اليوم الكبير» - على هذا- يوم بدر ونحوه والمجهلة في أي الأمرين يكون إنما هي بحسب البشر والأمر عند الله تعالى معلوم محصل والأجل واحد.

وقوله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي كل ذي إحسان بقوله، أو بفعله، أو قوته، أو بماله، أو غير ذلك، مما يمكن أن يتقرب به وفَضْلَهُ، يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين، وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور لمن شاء، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال: ويل لمن غلبت آحاده عشراته. ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقا للمعنى الأول.

وقرأ جمهور «وإن تولّوا» بفتح التاء واللام، فبعضهم قال الغيبة، أي فقل لهم: إني أخاف عليكم، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر:

«وإن تولوا» بضم التاء واللام وإسكان الواو.

وقوله تعالى: فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ، توعد بيوم القيامة: ويحتمل أن يريد به يوما من الدنيا كبدر وغيره.

وقوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ توعد، وهو يؤيد أن «اليوم الكبير» يوم القيامة لأنه توعد به، ثم ذكر الطريق إليه من الرجوع إلى الله، والمعنى إلى عقاب الله وجزائه لكم رجوعكم وهو القادر الذي لا يضره شيء ولا يجير عليه مجير ولا تنفع من قضائه واقية. وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ عموم والشيء في اللغة الموجود وما يتحقق أنه يوجد كزلزلة الساعة وغيرها التي هي أشياء.

قوله عز وجل:

٥

انظر تفسير الآية:٦

٦

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)

قيل إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك.

وصُدُورَهُمْ منصوبة على هذا ب يَثْنُونَ. وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول: فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عليها.

فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون.

وقرأ سعيد بن جبير «يثنون» بضم الياء والنون من أثنى، وقرأ ابن عباس «ليثنوه» ، وقرأ ابن عباس أيضا ومجاهد وابن يعمر وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود والضحاك «تثنوني صدورهم» برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في يَثْنُونَ، وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر، كما تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك. وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوما كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء. وقرأ ابن عباس- فيما روى ابن عيينة- «تثنو» بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «ينثوي» بتقديم النون على الثاء، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى «تثنون» بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة، وقرأ أيضا هما ومجاهد فيما روي عنه «تثنان» بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع: وأصل «تثنون» تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها، وأما «تثنان» فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا: اثنانت كما قالوا احمار وابياض، والضمير في مِنْهُ عائد على الله تعالى، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، ويَسْتَغْشُونَ معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء: [البسيط]

أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها ... وتارة أتغشّى فضل أطماري

وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» ومن هذا الاستعمال قول النابغة: [الطويل]

على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

وذات الصُّدُورِ: ما فيها، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدها كقول العرب الذيب مغبوط بذي بطنه أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى.

وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ ... الآية، تماد في وصف الله تعالى بنحو قوله يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. و «الدابة» ما دب من الحيوان، والمراد جميع الحيوان الذي يحتاج إلى رزق ويدخل في ذلك الطائر والهوام وغير ذلك كلها دواب، وقد قال الأعشى: [الطويل]

نياف كغصن البان ترتج إن مشت ... دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبيدة لطيرهن دبيب وفي حديث أبي عبيدة: فإذا دابة مثل الظرب يريد من حيوان البحر، وتخصيصه بقول فِي الْأَرْضِ إنما هو لأنه الأقرب لحسهم: والطائر والعائم إنما هو في الأرض، وما مات من الحيوان قبل أن يتغذى فقد اغتذى في بطن أمه بوجه ما.

وهذه الآية تعطي أن الرزق كل ما صح الانتفاع به خلافا للمعتزلة في قولهم إنه الحلال المتملك.

وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ إيجاب لأنه تعالى لا يجب عليه شيء عقلا. و «المستقر» : صلب الأب:

و «المستودع» بطن الأم، وقيل «المستقر» : المأوى، و «المستودع» القبر، وهما على هذا الطرفان، وقيل «المستقر» ، ما حصل موجودا من الحيوان، والمستودع ما يوجد بعد.

قال القاضي أبو محمد: و «المستقر» على هذا- مصدر استقر وليس بمفعول كمستودع لأن استقر لا يتعدى. وقوله: فِي كِتابٍ إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال بعض الناس: هذا مجاز وهي إشارة إلى علم الله.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وحمله على الظاهر أولى.

قوله عز وجل:

٧

انظر تفسير الآية:٨

٨

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)

قال أكثر أهل التفسير: «الأيام» هي من أيام الدنيا، وقالت فرقة: هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة. قاله كعب الأحبار، والأول أرجح.

وأجزاء ذكر السماوات عن كل ما فيها إذ كل ذلك خلق في الستة الأيام، واختلفت الأحاديث في يوم بداية الخلق، فروى أبو هريرة- فيما أسند الطبري- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال:

خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، ونحو هذا من أن البداءة يوم السبت في كتاب مسلم، وفي الدلائل لثابت: وكان خلق آدم في يوم الجمعة، لا يعتد به إذ هو بشر كسائر بنيه، ولو اعتد به لكانت الأيام سبعة خلاف ما في كتاب الله، وروي عن كعب الأحبار أنه قال: بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، وخلق آدم في آخر ساعة منه. ونحو هذا في جل الدواوين أن البدأة يوم الأحد، وقال قوم: خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة. نهجا إلى طريق التؤدة والمهلة في الأعمال ليحكم البشر أعمالهم، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان العرش على الماء، وكان الماء على الريح.

وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ متعلق ب خَلَقَ والمعنى أن خلقه إياها كان لهذا وقال بعض الناس: هو متعلق بفعل مضمر تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا القائل: أن هذه المخلوقات لم تكن لسبب البشر.

وقرأ عيسى الثقفي: «ولئن قلت» بضم التاء، وقرأ الجمهور «قلت» بفتح التاء.

ومعنى الآية: أن الله عز وجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم: إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا: هذا سحر. أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض، فهم من جملة المقرين بهذا، ومع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.

واللام في لَئِنْ مؤذنة بأن اللام في لَيَقُولَنَّ لام قسم لا جواب شرط.

وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة «سحر» وقرأت فرقة «ساحر» وقد تقدم.

وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الآية، المعنى: ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب؟ على جهة التكذيب. و «الأمة» في هذه الآية: المدة كما قال وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: ٤٥] . قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس ونحدث فيها أخرى، فهي على هذه المدة الطويلة.

ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده شيء ولا يصرفه. وحاقَ معناه: حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه ويَوْمَ منتصب بقوله: مَصْرُوفاً.

قوله عز وجل:

٩

انظر تفسير الآية:١١

١٠

انظر تفسير الآية:١١

١١

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)

أَذَقْنَا هاهنا مستعارة، لأن «الرحمة» هاهنا تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك. والْإِنْسانَ هاهنا اسم الجنس والمعنى أن هذا الخلق في سجية الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح.

ويؤس وكَفُورٌ بناءان للمبالغة، وكَفُورٌ هاهنا من كفر النعمة، والمعنى أنه ييأس ويحرج ويتسخط، ولو نظر إلى نعمة الله الباقية عليه في عقله وحواسه وغير ذلك، ولم يكفرها لم يكن ذلك، فإن اتفق هذا أن يكون في كافر أيضا بالشرع صح ذلك ولكن ليس من لفظ الآية.

وقال بعض الناس في هذه الآية: الْإِنْسانَ إنما يراد به الكافر وحمله على ذلك لفظة كَفُورٌ، وهذا عندي مردود، لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس كما تقتضي لفظة الإنسان.

و «النعماء» تشمل الصحة والمال ونحو ذلك و «الضراء» من الضر وهو أيضا شامل. وقد يكثر استعمال الضراء فيما يخص البدن.

ولفظة ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي تقتضي بطرا وجهلا أن ذلك بإنعام من الله، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل، لم يقع ذلك.

والسَّيِّئاتُ هاهنا كل ما يسوء في الدنيا.

وقرأت فرقة «لفرح» بكسر الراء، وقرأت فرقة «لفرح» بضمها، وهذا الفرح مطلق، ولذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس: ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير.

وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الآية، هذا الاستثناء متصل على ما قدمناه من أن الإنسان عام يراد به الجنس: ومن قال إنه مخصوص بالكافر قال هاهنا: إن الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجيد، وكذلك قاله من النحاة قوم.

واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره ومثابرة عبادة الله: وليس شيء من ذلك في سجية البشر وإنما حمل على ذلك حب الله وخوف الدار الآخرة. و «الصبر» و «العمل الصالح» لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة تحريضا عليها وحضا، بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.

قوله عز وجل:

١٢

انظر تفسير الآية:١٣

١٣

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)

سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك. وقالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال. فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم ومبطلا لها، وليس المعنى أنه صلى الله عليه وسلم هم بشيء من ذلك فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.

و «لعلك» هاهنا بمعنى التوقيف والتقرير، وما يُوحى إِلَيْكَ هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم، كما جاءت آيات الموادعة. وعبر ب ضائِقٌ دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارِكٌ، وإن كان ضيق أكثر استعمالا لأنه وصف لازم، وضائِقٌ وصف عارض فهو الذي يصلح هنا، والضمير في بِهِ عائد على «البعض» ، ويحتمل أن يعود على «ها» وأَنْ في موضع نصب على تقدير كراهة أن و «الكنز» هاهنا: المال: وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان: والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار، كالناقة لثمود.

ثم أنسه تعالى بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء.

وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ ... الآية، هذه أَمْ التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم: إنها لإبل أم شاء، و «الافتراء» أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية بِعَشْرِ لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: ٢٣، يونس: ٣٨] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه: ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا: ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشرا والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: افْتَراهُ، وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.

قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين: في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة.

ومَنِ في قوله: مَنِ اسْتَطَعْتُمْ يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يريد في أن القرآن مفترى.

قوله عز وجل:

١٤

انظر تفسير الآية:١٦

١٥

انظر تفسير الآية:١٦

١٦

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)

لهذه الآية تأويلان:

أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها، فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله ويأتي قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متمكنا.

والثاني: أن تكون مخاطبة من الله تعالى للمؤمنين: أي فإن لم يستجب الكفار إلى ما دعوا إليه من المعارضة فاعلموا أن ذلك من عند الله، وهذا على معنى دوموا على علمكم لأنهم كانوا عالمين بذلك. قال مجاهد: قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هو لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: بِعِلْمِ اللَّهِ يحتمل معنيين:

أحدهما: بإذنه وعلى علم منه.

والثاني: أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب، فكأنه أراد المعلومات له وقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تقرير.

وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا ... الآية، قالت فرقة: ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة: هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد: هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين: وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن ماتع الأصبحي عن أبي هريرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة» فلما حدثه شفي بهذا الحديث، بكى معاوية وقال: صدق الله ورسوله: وتلا: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ... الآية، إلى قوله: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله يُرِيدُ يقصد ويعتمد، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها. فالمعنى: من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة، فإن الله يجازيه على حسن أعماله- في الدنيا- بالنعم والحواس وغير ذلك: فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها.

قال القاضي أبو محمد: فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية. وهو عندي أرجح التأويلات- بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن- فإنما قصد بهذه الآية أُولئِكَ.

وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى يُرِيدُ عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد، وإن كان له مقصدا آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا، ثم يأتي قوله: لَيْسَ لَهُمْ بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته، وهذا هو ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير.

وقال أنس بن مالك: هي في أهل الكتاب.

قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية، لا أنها ليست في غيرهم.

وقرأ جمهور الناس: «نوف» بنون العظمة وقرأ طلحة وميمون بن مهران «يوف» بياء الغائب.

ويُبْخَسُونَ معناه: يعطون أقل من ثوابهم، وحَبِطَ معناه: يبطل وسقط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقتل حبطا أو يلم» ، وهي مستعملة في فساد الأعمال، والضمير في قوله: فِيها عائد على الدنيا في الأولين وفي الثالثة عائد على الآخرة، ويحتمل أن يعود في الثلاثة على الدنيا ويحتمل أن تعود الثانية على الأعمال.

وقرأ جمهور الناس: «وباطل» بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ أبيّ وابن مسعود: «وباطلا» بالنصب قال أبو حاتم: ثبتت في أربعة مصاحف، والعامل فيه يَعْمَلُونَ وما زائدة، التقدير: وباطلا كانوا يعملون. والباطل كل ما تقتضي ذاته أن لا تنال به غاية في ثواب ونحوه وبالله التوفيق.

قوله عز وجل:

١٧

أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)

اختلف المتأولون في المراد بقوله: أَفَمَنْ فقالت فرقة: المراد بذلك المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة المراد محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وابن عباس: المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جميعا.

وكذلك اختلف في المراد ب «البيّنة» فقالت فرقة: المراد بذلك القران، أي على جلية بسبب القرآن، وقالت فرقة: المراد محمد صلى الله عليه وسلم والهاء في «البيّنة» للمبالغة كهاء علامة ونسابة.

وكذلك اختلف في المراد ب «الشاهد» فقال ابن عباس وإبراهيم النخعي ومجاهد والضحاك وأبو صالح وعكرمة: هو جبريل.

وقال الحسين بن علي: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد أيضا: هو ملك وكّله الله بحفظ القرآن.

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل.

وقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة: هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي ذلك عنه، وقالت فرقة: هو الإنجيل، وقالت فرقة: هو القرآن، وقالت فرقة: هو إعجاز القرآن.

قال القاضي أبو محمد: ويتصرف قوله يَتْلُوهُ على معنيين: بمعنى يقرأ، وبمعنى يتبعه، وتصرفه بسبب الخلاف المذكور في «الشاهد» ولنرتب الآن اطراد كل قول وما يحتمل.

فإذا قلنا إن قوله: أَفَمَنْ يراد به المؤمنون، فإن جعلت بعد ذلك «البيّنة» محمد صلى الله عليه وسلم صح أن يترتب «الشاهد» الإنجيل ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يقرأه، لأن الإنجيل يقرأ شأن محمد صلى الله عليه وسلم وأن يترتب جبريل عليه السلام ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه أي في تبليغ الشرع والمعونة فيه، وأن يترتب الملك ويكون الضمير في مِنْهُ عائدا على البيّنة التي قدرناها محمدا صلى الله عليه وسلم وأن يترتب القرآن ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه، ويعود الضمير في مِنْهُ على الرب.

وإن جعلنا «البيّنة» القرآن على أن أَفَمَنْ هم المؤمنون- صح أن يترتب «الشاهد» محمد صلى الله عليه وسلم، وصح أن يترتب الإنجيل وصح أن يترتب جبريل والملك. ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يقرأه: وصح أن يترتب «الشاهد» الإعجاز، ويكون يَتْلُوهُ بمعنى يتبعه، ويعود الضمير فى مِنْهُ على القرآن.

وإذا جعلنا أَفَمَنْ للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت «البيّنة» القرآن، وترتب «الشاهد» لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وترتب الإنجيل، وترتب جبريل والملك، وترتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وترتب الإعجاز. ويتأول يَتْلُوهُ بحسب «الشاهد» كما قلنا ولكن هذا القول يضعفه قوله أُولئِكَ فإنا إذا جعلنا قوله: أَفَمَنْ للنبي صلى الله عليه وسلم وحده لم نجد في الآية مذكورين يشار إليهم بذلك ونحتاج في الآية إلى تجوز وتشبيه بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] وهو شبه ليس بالقوي.

والأصح في الآية أن يكون قوله: أَفَمَنْ للمؤمنين، أو للمؤمنين والنبي معهم بأن لا يترتب «الشاهد» بعد ذلك يراد به النبي إذا قدرناه داخلا في قوله: أَفَمَنْ. وما تركناه من بسط هذا الترتيب يخرجه التدبر بسرعة فتأمله.

وقرأ جمهور الناس «كتاب» بالرفع وقرأ الكلبي وغيره «كتابا» بالنصب فمن رفع قدر «الشاهد» الإنجيل معناه يقرأ القرآن أو محمد صلى الله عليه وسلم- بحسب الخلاف- و «الإنجيل» و «من قبل» كتاب موسى إذ في الكتابين ذكر القرآن وذكر محمد صلى الله عليه وسلم.

ويصح أن يقدر الرافع «الشاهد» القرآن، وتطرد الألفاظ بعد ذلك، ومن نصب «كتابا» قدر «الشاهد» جبريل عليه السلام، أي يتلو القرآن جبريل ومن قبل القرآن كتاب موسى.

قال القاضي أبو محمد: وهنا اعتراض يقال: إذ قال مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أو «كتاب» بالنصب على القراءتين. والضمير في قَبْلِهِ عائد على القرآن- فلم لم يذكر الإنجيل- وهو قبله- بينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال: أنه خص التوراة بالذكر لأن الملّتين مجمعتان أنهما من عند الله، والإنجيل ليس كذلك: فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الطائفتين أولى: وهذا يجري مع قول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [الأحقاف: ٣٠] ومع قول النجاشي: إن هذا، والذي جاء به موسى، لخرج من مشكاة واحدة فإنما اختصر الإنجيل من جهة أن مذهبهم فيه مخالف لحال القرآن والتوراة، ونصب إِماماً على الحال من كِتابُ مُوسى، والْأَحْزابِ هاهنا يراد به جميع الأمم، وروى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» فقلت: أين مصداق هذا من كتاب الله؟ حتى وجدته في هذه الآية، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله.

قال القاضي أبو محمد: والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية أن يكون أَفَمَنْ للمؤمنين أو لهم وللنبي معهم، إذ قد تقدم ذكر الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود: ١٦] ، فعقب ذكرهم بذكر غيرهم، و «البيّنة» القرآن وما تضمن. و «الشاهد» محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل إذا دخل النبي في قوله: أَفَمَنْ أو الإنجيل والضمير في يَتْلُوهُ للبيّنة، وفي مِنْهُ للرب تعالى، والضمير في قَبْلِهِ للبيّنة وغير هذا مما ذكرته آنفا محتمل.

وقرأ الجمهور «في مرية» بكسر الميم، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي «في مرية» بضم الميم، وهما لغتان في الشك، والضمير في مِنْهُ عائد على كون الكفرة موعدهم النار، وسائر الآية بيّن.

وفي هذه الآية معادلة محذوفة يقتضيها ظاهر اللفظ تقديره: أفمن كان على بيّنة من ربه كمن كفر بالله وكذب أنبياءه، ونحو هذا، في معنى الحذف، قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: ٣١] ، لكان هذا القرآن، ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]

فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

التقدير لرددناه ولم نصغ إليه.

قوله عز وجل:

١٨

انظر تفسير الآية:٢٠

١٩

انظر تفسير الآية:٢٠

٢٠

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)

قوله: وَمَنْ استفهام بمعنى التقرير، وكأنه قال: لا أحد أظلم ممن افترى كذبا، والمراد ب مَنْ الكفرة الذين يدعون مع الله إلها آخر ويفترون في غير ما شيء، وقوله: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ عبارة عن الإشادة بهم والتشهير لخزيهم وإلا فكل بشر معروض على الله يوم القيامة.

وقوله: يَقُولُ الْأَشْهادُ قالت فرقة: يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة، فيجيء قوله: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ إخبارا عنهم وشهادة عليهم وقالت فرقة: الْأَشْهادُ بمعنى الشاهدين، ويريد جميع الخلائق، وفي ذلك إشادة بهم، وروي في نحو هذا حديث: «إنه لا يخزى أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر» فيجيء قوله: هؤُلاءِ- على هذا التأويل- استفهاما عنهم وتثبتا فيهم كما تقول إذا رأيت مجرما قد عوقب: هذا هو الذي فعل كذا وإن كنت قد علمت ذلك، ويحتمل الإخبار عنهم.

وقوله: أَلا استفتاح كلام، و «اللعنة» الإبعاد، والَّذِينَ نعت ل الظَّالِمِينَ ويحتمل الرفع على تقدير هم الذين، ويَصُدُّونَ يحتمل أن يقدر متعديا على معنى: يصدون الناس ويمنعونهم من سبيل الله، ويحتمل أن يقدر غير متعد على معنى يصدون هم، أن يعرضون. وسَبِيلِ اللَّهِ شريعته، ويَبْغُونَها معناه يطلبون لها كما تقول بغيتك خيرا أو شرا أي طلبت لك، وعِوَجاً على هذا مفعول: ويحتمل أن يكون المعنى: ويبغون السبيل على عوج، أي فهم لا يهتدون أبدا ف عِوَجاً على هذا مصدر في موضع الحال، والعوج الانحراف والميل المؤدي إلى الفساد، وكرر قوله:

هُمْ على جهة التأكيد، وهي جملة في موضع خبر الابتداء الأول: وليس هذا موضع الفصل لأن الفصل إنما يكون بين معرفتين، أو معرفة وفكرة تقارب المعرفة، لأنها تفصل ما بين أن يكون ما بعدها صفة أو خبرا وتخلصه للخبر. ومُعْجِزِينَ معناه: مفلتين لا يقدر عليهم. وخص ذكر الْأَرْضِ لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه لا يستطيع النفوذ منها. وقوله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يحتمل معنيين:

أحدهما: أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائنا من كان.

والثاني: أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء.

ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان. ويُضاعَفُ فعل مستأنف وليس بصفة.

وقوله: وما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ يحتمل خمسة أوجه:

أحدها: أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك، فهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به ولا يبصرون كذلك.

والثاني: أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على السمع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشد الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ردهم عن ذلك مشيختهم.

والثالث: أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها- على التأويل المقدم- أن تكون أولياء.

وما في هذه الوجوه نافية.

والرابع: أن يكون التقدير: يضاعف لهم العذاب بما كانوا: بحذف الجار، وتكون ما مصدرية، وهذا قول فيه تحامل. قاله الفراء، وقرنه بقوله: أجازيك ما صنعت بي.

والخامس: أن تكون ما ظرفية، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر، وقد أعلمت الشريعة أنهم لا يموتون فيها أبدا فالعذاب- إذن- متماد أبدا.

وقدم السَّمْعَ في هذه الآية على «البصر» لأن حاسته أشرف من حاسة البصر، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك.

قوله عز وجل:

٢١

انظر تفسير الآية:٢٤

٢٢

انظر تفسير الآية:٢٤

٢٣

انظر تفسير الآية:٢٤

٢٤

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)

خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بوجوب العذاب عليهم، ولا خسران أعظم من خسران النفس، وضَلَ معناه:

تلف ولم يجدوه حيث أملوه. ولا جَرَمَ لفظة مركبة من: لا، ومن: جَرَمَ بنيتا.

ومعنى لا جَرَمَ: حق. هذا مذهب سيبويه والخليل. وقال بعض النحويين:

معناها: لا بد ولا شك ولا محالة وقد روي هذا عن الخليل. وقال الزجاج: لا رد عليهم، ولما تقدم من كل ما قبلها، وجَرَمَ معناه: كسب، أي كسب فعلهم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. فموضع «أن» على مذهب سيبويه رفع: وموضعها على مذهب الزجاج- نصب. وقال الكسائي معناها لا صد ولا منع.

قال القاضي أبو محمد: فكأن جَرَمَ على هذا من معنى القطع، تقول: جرمت أي قطعت: وهي على منزع الزجاج من الكسب ومنه قول الشاعر: [الطويل]

جريمتنا هض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا

وجريمة القوم كاسبهم.

وأما قول الشاعر جرير:

ولقد طعنت أبا أميمة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فيحتمل الوجهين: ويختلف معنى البيت.

وفي لا جَرَمَ لغات: يقول بعض العرب: لا ذا جرم، وبعضهم: لا أن ذا جرم، وبعضهم: لا عن ذا جرم، وبعضهم: لا جر، حذفوا الميم لكثرة استعماله.

وأَخْبَتُوا قيل معناه: خشعوا، قاله قتادة، وقيل: أنابوا، قاله ابن عباس، وقيل: اطمأنوا، قاله مجاهد، وقيل: خافوا، قاله ابن عباس أيضا، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض، وأصل اللفظ من الخبت، وهو البراح القفر المستوي من الأرض فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة، فشبه المتذلل الخاشع بذلك، وقيل: إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته.

وقوله إِلى رَبِّهِمْ قيل: هي بمعنى اللام أي أخبتوا لربهم. وقيل: المعنى جعلوا قصدهم بإخباتهم إلى ربهم، و «الفريقان» الكافرون والمؤمنون: شبه الكافر بالأعمى وَالْأَصَمِّ، وشبه المؤمن ب الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ فهو على هذا تمثيل بمثالين. وقال بعض المتأولين: التقدير كالأعمى الأصم والبصير السميع ودخلت واو العطف كما تقول: جاءني زيد العاقل والكريم، وأنت تريده بعينه فهو على هذا تمثيل بمثال واحد.

ومَثَلًا نصب على التمييز. ويجوز أن يكون حالا.

قوله عز وجل:

٢٥

انظر تفسير الآية:٢٧

٢٦

انظر تفسير الآية:٢٧

٢٧

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)

هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد صلى الله عليه وسلم ببدع من الرسل.

وروي أن نوحا عليه السلام أول رسول إلى الناس. وروي أن إدريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «إني» بكسر الألف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الألف. فالكسر على إضمار القول، والمعنى: قال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، ثم يجيء قوله أَنْ لا تَعْبُدُوا محمولا ل أَرْسَلْنا، أي أرسلنا نوحا بأن لا تعبدوا إلا الله، واعترض أثناء الكلام بقوله:

إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وفتح الألف على إعمال أَرْسَلْنا في «أن» أي بأني لكم نذير. قال أبو علي:

وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام: أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك.

و «النذير» المحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها ومُبِينٌ من أبان يبين.

وقوله أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان ونحوها، وذلك بين في غير هذه الآية.

وأَلِيمٍ معناه مؤلم، ووصف به اليوم وحقه أن يوصف به العذاب تجوزا إذ العذاب في اليوم، فهو كقولهم: نهار صائم وليل قائم.

والْمَلَأُ الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونحوه، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملأ والسادّون مسدّه في الآراء والأمور، وكل جماعة كبيرة ملأ.

ولما قال لهم نوح: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ ... قالوا: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ... أي والله لا يبعث رسولا من البشر، فأحالوا الجائز على الله تعالى.

و «الأراذل» جمع أرذل، وقيل جمع أرذل وأرذال جمع رذل وكان اللازم على هذا أن يقال: أراذيل وإذا ثبتت الياء في جمع صيرف فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها. وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له، ولا يبالى ما يقول ولا ما يقال له.

وقرأ الجمهور «بادي الرأي» بياء دون همز، من بدا يبدو، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلا، وقرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي «بادىء الرأي» بالهمز من بدأ يبدأ.

قال القاضي أبو محمد: وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر، فتركت التطويل ببسطه، والعرب تقول: أما بادىء بدء فإني أحمد الله، وأما بادي بدي بغير همز فيهما، وقال الراجز: [الرجز]

أضحى لخالي شبهي بادي بدي ... وصار للفحل لساني ويدي

وقال الآخر: وقد علتني ذرأة بادي بدي.

وقرأ الجمهور بهمز «الرأي» وقرأ أبو عمرو بترك همزه. بادِيَ نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفا كما يصح في قريب ونحوه، وفعيل وفاعل متعاقبان أبدا على معنى واحد، وفي المصدر كقولك: جهد نفسي أحب كذا وكذا.

وتعلق قوله: بادِيَ الرَّأْيِ يحتمل ستة أوجه:

أحدها: أن يتعلق ب نَراكَ بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو بادِيَ الرَّأْيِ، أي إلا ومتبعوك أراذلنا.

والثاني: أن يتعلق بقوله: اتَّبَعَكَ أي، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ثم يحتمل على هذا قوله: بادِيَ الرَّأْيِ معنيين:

أحدهما: أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك.

والثاني: أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب ولو تثبتوك لم يتبعوك. وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي.

والوجه الثالث: من تعلق قوله بادِيَ الرَّأْيِ أن يتعلق بقوله: أَراذِلُنا أي الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم، ويبادي الرأي يعلم ذلك منهم، ويحتمل أن يكون قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ وصفا منهم لنوح، أي تدعي عظيما وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك، ونصبه على الحال وعلى الصفة، ويحتمل أن يكون اعتراضا في الكلام مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجيء جميع هذا ستة معان، ويجوز التعلق في هذا الوجه «بقال» .

ومعنى وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة. ثم قال:

بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فيحتمل أنهم خاطبوا نوحا ومن آمن معه من قومه، أي أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب، وقولكم إنه نبي مرسل.

قوله عز وجل:

٢٨

انظر تفسير الآية:٣٠

٢٩

انظر تفسير الآية:٣٠

٣٠

قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)

هذه الآية كأنه قال: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه، واستفهامه في هذه الآية أولا وثانيا على جهة التقرير. وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه، وهذا هو المفهوم من هذه العبارة العربية، فبهذا استقام أن يقال كذا وكذا، إذ القول ما أفاد المعنى القائم بنفسه.

وقوله عَلى بَيِّنَةٍ أي على أمر بيّن جلي، والهاء في بَيِّنَةٍ للمبالغة كعلامة ونسابة، و «إيتاؤه الرحمة» هو هدايته للبيّنة، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع، وقوله مِنْ عِنْدِهِ تأكيد، كما قال:

يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨] ، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة.

وقرأ جمهور الناس «فعميت» ولذلك وجهان من المعنى:

أحد هما: خفيت، ولذلك يقال للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له: الغمام لأنه يغمه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله قبل أن يخلق الأشياء في عماء» .

والمعنى الثاني: أن تكون الإرادة: فعميتم أنتم عنها، لكنه قلب، كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

ترى النور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع

قال أبو علي: وهذا مما يقلب إذ ليس فيه إشكال وفي القرآن: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: ٤٧] وقرأ حفص وحمزة والكسائي «فعمّيت» بضم العين وشد الميم على بناء الفعل للمفعول وهذا إنما يكون من الإخفاء ويحتمل القلب المذكور.

وقرأ الأعمش وغيره «فعماها عليهم» . قال أبو حاتم: روى الأعمش عن ابن وثاب «وعميت» بالواو خفيفة.

وقوله: أَنُلْزِمُكُمُوها يريد إلزام جبر كالقتال ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس: معناه أن وجبها عليكم، وقوله في ذلك خطأ.

وفي قراءة أبي بن كعب: «أنلزمكموها من شطر أنفسنا» ، ومعناه من تلقاء أنفسنا. وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك «من شطر قلوبنا» .

وقوله يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا ... الآية الضمير في عَلَيْهِ عائد على التبليغ.

وقوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرد تباعه بمكة الذين لم يكونوا من قريش.

وقوله: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ تنبيه على العودة إلى الله ولقاء جزائه المعنى، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد. ثم وصفهم بالجهل في مثل هذا الاقتراح ونحوه.

وقوله يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ ... الآية هو استفهام بمعنى تقرير وتوقيف، أي لا ناصر يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد عن الخير الذي قبلوه، ثم وقفهم بقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ وعرض عليهم النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج.

قوله عز وجل:

٣١

انظر تفسير الآية:٣٢

٣٢

وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)

قوله: وَلا أَقُولُ عطف على قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا [هود: ٢٩] ، ومعنى هذه الآية: أني لا أموه عليكم ولا أتعاطى غير ما أهلني الله له، فلست أقول عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، يريد القدرة التي يوجد بها الشيء بعد حال عدمه، وقد يمكن أن يكون من الموجودات كالرياح والماء، ونحوه ما هو كثير بإبداع الله تعالى له، فإن سمي ذلك- على جهة التجوز- مختزنا فيشبه. ألا ترى ما روي في أحمر ريح عاد أنه فتح عليهم من الريح قدر حلقة الخاتم، ولو كان على قدر منخر الثور لأهلك الأرض. وروي أن الريح عتت على الملائكة الموكلين بتقديرها فلذلك وصفها الله تعالى بالعتو، وقال ابن عباس وغيره: عتت على الخزان. فهذا ونحوه يقتضي أن ثم خزائن. ثم قال: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، ثم انحط على هاتين فقال وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، ظاهر هذه الآية فضل الملك على البشر وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلاف. وظواهر القرآن على ما قلناه.

قال القاضي أبو محمد: وإن أخذنا قوله وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ على حد أن لو قال: ولا أقول إني كوكب أو نحوه- زالت طريقة التفضيل، ولكن الظاهر هو ما ذكرنا.

وتَزْدَرِي أصله تزتري (تفتعل) من زرى يزري ومعنى تَزْدَرِي: تحتقر. و «الخير» هنا يظهر فيه أنه خير الآخرة، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر، فيكون الخير المال وقد قال بعض المفسرين: حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام تحامل، والذي يشبه أن يقال: إنه حيثما ذكر الخير فإن المال يدخل فيه.

وقوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تسليم لله تعالى، أي لست أحكم عليهم بشيء من هذا وإنما يحكم عليهم بذلك ويخرج حكمه إلى حيز الوجود، الله تعالى الذي يعلم ما في نفوسهم ويجازيهم بذلك، وقال بعض المتأولين: هي رد على قولهم: اتبعك أراذلنا على ما يظهر منهم.

قال القاضي أبو محمد: حسبما تقدم في بعض تأويلات تلك الآية آنفا، فالمعنى لست أنا أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير بظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، ثم قال: إِنِّي إِذاً لو فعلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ الذين يضعون الشيء في غير موضعه.

وقوله: يا نُوحُ ... ، الآية معناه: قد طال منك هذا الجدال، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه: حبل مجدول، أي ممرّ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه و «الجدال» فعال، مصدر فاعل، وهو يقع من اثنين، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة، فتركت الياء من فيعال ورفضت. ومن الجدال ما هو محمود، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي، ومن ذلك هذه الآية، ومنه قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] إلى غير ذلك من الأمثلة. ومن الجدال ما هو مكروه، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وكرهه العلماء، والله المستعان.

وقرأ ابن عباس «قد جادلتنا فأكثرت جدلنا» بغير ألف، وبفتح الجيم، ذكره أبو حاتم.

والمراد بقولهم ما تَعِدُنا العذاب والهلاك، والمفعول الثاني ل تَعِدُنا مضمر تقديره بما تعدناه.

ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد.

قوله عز وجل:

٣٣

انظر تفسير الآية:٣٥

٣٤

انظر تفسير الآية:٣٥

٣٥

قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)

المعنى: ليس ذلك بيدي ولا إلىّ توفيته، وإنما ذلك بيد الله وهو الآتي به إن شاء وإذا شاء، ولستم من المنعة بحال من يفلت أو يعتصم بمنج، وإنما في قبضة القدرة وتحت ذلة المتملك، وليس نصحي بنافع ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة في اقتران الإرادتين. وأن إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو ب نُصْحِي، وتعلق الآخر هو ب «لا ينفع» . والنصح هو سد ثلم الرأي للمنصوح وترقيعه، وهو مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه، والمنصح الإبرة، والمخيط يقال له منصح ونصاح: وقالت فرقة معنى قوله يُغْوِيَكُمْ: يضلكم، من قولهم غوى الرجل يغوى، ومنه قول الشاعر [المرقش] : [الطويل]

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وإذا كان هذا معنى اللفظة، ففي الآية حجة على المعتزلة القائلين إن الضلال إنما هو من العبد.

وقالت فرقة معنى قوله: يُغْوِيَكُمْ: يهلككم، والغوى المرض والهلاك وفي لغة طيّىء: أصبح فلان غاويا، أي مريضا، والغوى بشم الفصيل، قال يعقوب في الإصلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعا، قاله الفراء وحكاه الطبري. يقال غوى يغوى، وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك ولما يهلك بعد، فإذا كان هذا معنى اللفظة زال موضع النظر بين أهل السنة والمعتزلة، وبقي الاحتجاج عليهم بما هو أبين من هذه الآية كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: ١٢٥] ونحوها.

قال القاضي أبو محمد: ولكني أعتقد أن للمعتزلة تعلقا وحجة بالغة بهذا التأويل، فرد عليه وأفرط حتى أنكر أن يكون الغوى بمعنى الهلاك موجودا في لسان العرب.

وقوله: هُوَ رَبُّكُمْ، تنبيه على المعرفة بالخالق. وقوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إخبار في ضمنه وعيد وتخويف، وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ... الآية، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير: إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وذلك أنهم قالوا: افتري القرآن وافتري هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك.

قال القاضي أبو محمد: وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، ويبقى اتساق الآية مطردا، ويكون الضمير في قوله افْتَراهُ عائدا إلى العذاب الذي توعدهم به أو على جميع أخباره، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى: أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك ثم يطرد باقي الآية على هذا.

وأَمْ هي التي بمعنى بل يقولون، و «الإجرام» مصدر أجرم يجرم إذا جنى، يقال: جرم وأجرم بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر:

طريد عشيرة ووهين ذنب ... بما جرمت يدي وجنى لساني

قوله عز وجل:

٣٦

انظر تفسير الآية:٣٧

٣٧

وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)

قرأ أبو البرهسم: «وأوحى» بفتح الهمزة على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، «إنه» بكسر الهمزة، وقيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به، وكان يأتيه الرجل بابنه فيقول: يا بني لا تصدق هذا الشيخ فهكذا عهده أبي وجدي كذابا مجنونا رواه عبيد بن عمير وغيره، وهذه الآية هي التي أيأست نوحا عليه السلام من قومه، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك دعا فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦] .

وتَبْتَئِسْ من البؤس تفتعل، ومعناه: لا تحزن نفسك ومنه قول الشاعر- وهو لبيد بن ربيعة-:

[مجزوء الكامل]

في مأتم كنعاج حا ... رة تبتئس بما لقينا

حارة: موضع.

قال القاضي أبو محمد: وفي أمر نوح عليه السلام تدافع في ظاهر الآيات والأحاديث ينبغي أن نخلص القول فيه، وذلك أن ظاهر أمره أنه عليه السلام دعا على الكافرين عامة من جميع الأمم ولم يخص قومه دون غيرهم، وتظاهرت الروايات وكتب التفاسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض وعم الماء جميعها، قاله ابن عباس وغيره، ويوجب ذلك أمر نوح بحمل الأزواج من الحيوان، ولولا خوف إفناء أجناسها من جميع الأرض، ما كان ذلك، فلا يتفق لنا أن نقول إنه لم يكن في الأرض غير قوم نوح في ذلك الوقت، لأنه يجب أن يكون نوح بعث إلى جميع الناس، وقد صح أن هذه الفضيلة خاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله:

«أوتيت خمسا لم يؤتهن أحد قبلي» . فلا بد أن نقرر كثيرا من الأمم كان في ذلك الوقت، وإذا كان ذلك، فكيف استحقوا العقوبة في جمعهم ونوح لم يبعث إلى كلهم؟ وكنا نقدر هنا أن الله تعالى بعث إليهم رسلا قبل نوح فكفروا بهم واستمر كفرهم، لولا أنا نجد الحديث ينطق بأن نوحا هو أول الرسل إلى أهل الأرض ولا يمكن أيضا أن نقول: عذبوا دون رسالة ونحن نجد القرآن: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] .

والتأويل المخلص من هذا كله هو أن نقول: إن نوحا عليه السلام أول رسول بعث إلى كفار من أهل الأرض ليصلح الخلق ويبالغ في التبليغ ويحتمل المشقة من الناس- بحسب ما ثبت في الحديث- ثم نقول: إنه بعث إلى قومه خاصة بالتبليغ والدعاء والتنبيه، وبقي أمم في الأرض لم يكلف القول لهم، فتصح الخاصة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم نقول: إن الأمم التي لم يبعث ليخاطبها إذا كانت بحال كفر وعبادة أوثان، وكانت الأدلة على الله تعالى منصوبة معرضة للنظر، وكانوا متمكنين من النظر من جهة إدراكهم، وكان الشرع- ببعث نوح- موجودا مستقرا.

فقد وجب عليهم النظر، وصاروا بتركه بحال من يجب تعذيبه: فإن هذا رسول مبعوث وإن كان لم يبعث إليهم معينين ألا ترى أن لفظ الآية إنما هو وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] ، أي حتى نوجده، لأن بعثة الأنبياء إلى قوم مخصوصين إنما هو في معنى القتال والشدة، وأما من جهة بذل النصيحة وقبول من آمن فالناس أجمع في ذلك سواء ونوح قد لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو إلى الله، فغير ممكن أن لم تبلغ نبوءته للقريب والبعيد، ويجيء تعذيب الكل بالغرق بعد بعثة رسول وهو نوح صلى الله عليه وسلم.

ولا يعارضنا مع هذه التأويلات شيء من الحديث ولا الآيات، والله الموفق للصواب.

وقوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ عطف على قوله: فَلا تَبْتَئِسْ والْفُلْكَ: السفينة، وجمعها أيضا فلك، وليس هو لفظا للواحد والجمع وإنما هو فعل وجمع على فعل ومن حيث جاز أن يجمع فعل على فعل كأسد وأسد، جاز أن يجمع فعل على فعل، فظاهر لفظ الجمع فيها كظاهر لفظ واحد وليس به، تدل على ذلك درجة التثنية التي بينهما لأنك تقول: فلك وفلكان وفلك، فالحركة في الجمع نظير ضمة الصاد إذا ناديت «يا منصور» ، تريد «يا منصور» ، فرخمت على لغة من يقول: يا حار بالضم، فإن ضمة الصاد هي في اللفظ كضمة الأصل، وليست بها في الحكم.

وقوله: بِأَعْيُنِنا يمكن- فيما يتأول- أن يريد به بمرأى منا وتحت إدراك، فتكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير كما قال تعالى: فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات: ٢٣] فرجع معنى الأعين في هذه وفي غيرها إلى معنى عين في قوله: لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] ، وذلك كله عبارة عن الإدراك وإحاطته بالمدركات، وهو تعالى منزه عن الحواس والتشبيه والتكييف لا رب غيره. ويحتمل قوله بِأَعْيُنِنا أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا للتكثير.

وقرأ طلحة بن مصرف «بأعينا» مدغما.

وقوله وَوَحْيِنا معناه: وتعليمنا لك صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك أن نوحا عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة أوحى الله إليه: أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطير، إلى غير ذلك مما عمله نوح من عملها، فقد روي أيضا أنها كانت مربعة الشكل طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن الغرض منها إنما كان الحفظ لا سرعة الجري، والحديث الذي تضمن أنها كجؤجؤ الطائر أصح ومعناه أظهر: لأنها لو كانت مربعة لم تكن فلكا بل كانت وعاء فقط، وقد وصفها الله تعالى بالجري في البحر، وفي الحديث:

كان راز سفينة نوح عليه السّلام جبريل عليه السّلام والراز: القيم بعمل السفن. ومن فسر قوله وَوَحْيِنا أي بأمرنا لك، فذلك ضعيف لأن قوله: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ مغن عن ذلك. والَّذِينَ ظَلَمُوا هم قومه الذين أعرضوا عن الهداية حتى عمتهم النقمة، قال ابن جريج: وهذه الآية تقدم الله فيها إلى نوح أن لا يشفع فيهم.

قوله عز وجل:

٣٨

انظر تفسير الآية:٤٠

٣٩

انظر تفسير الآية:٤٠

٤٠

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠)

التقدير: فشرع يصنع فحكيت حال الاستقبال، إذ في خلالها وقع مرورهم، قال ابن عباس: صنع نوح الفلك ببقاع دمشق وأخذ عودها من لبنان وعودها من الشمشار وهو البقص. وروي أن عودها من الساج وأن نوحا عليه السّلام اغترسه حتى كبر في أربعين سنة وروي أن طول السفينة ألف ذراع ومائتان، وعرضها ستمائة ذراع، ذكره الحسن بن أبي الحسن وقيل: طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، ذكره قتادة، وروي غير هذا مما لم يثبت، فاختصرت ذكره، وذكر الطبري حديث إحياء عيسى ابن مريم لسام بن نوح وسؤاله إياه عن أمر السفينة فذكر أنها ثلاث طبقات: طبقة للناس، وطبقة للبهائم، وطبقة للطير، إلى غير ذلك في حديث طويل.

و «الملأ» هنا الجماعة، وسَخِرُوا معناه استجهلوه، وهذا الاستجهال إن كان الأمر كما ذكر أنهم لم يكونوا قبل رأوا سفينة ولا كانت- فوجه الاستجهال واضح. وبذلك تظاهرت التفاسير وإن كانت السفائن حينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في موضع لا قرب لها من البحر وروي أنهم كانوا يقولون له صرت نجارا بعد النبوة؟!!.

وقوله فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ قال الطبري: يريد في الآخرة.

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل الكلام، بل هو الأرجح، أن يريد: إنا نسخر منكم الآن، أي نستجهلكم لعلمنا بما أنتم عليه من الغرر مع الله تعالى والكون بمدرج عذابه، ثم جاء قوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديدا، والسخر: الاستجهال مع استهزاء، ومصدره: سخرى بضم السين، والمصدر من السخرة والتسخير سخرى بكسرها.

و «العذاب المخزي» هو الغرق، و «المقيم» هو عذاب الآخرة، وحكى الزهراوي أنه يقرأ «ويحل» بضم الحاء، ويقرأ «ويحل» بكسرها، بمعنى ويجب. ومَنْ في موضع نصب ب تَعْلَمُونَ. وجاز أن يكون تَعْلَمُونَ بمثابة تعرفون في التعدي إلى مفعول واحد، وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على الواحد.

وقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا الآية، الأمر هاهنا يحتمل أن بكون واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر، فمعناه أمرنا للماء بالفوران، أو للسحاب بالإرسال، أو للملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة وفارَ معناه انبعث بقوة واختلف الناس في التَّنُّورُ، فقالت فرقة- وهي الأكثر- منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هو تنور الخبز الذي يوقد فيه، وقالت فرقة: كانت هذه أمارة جعلها الله لنوح، أي إذا فار التنور فاركب في السفينة ويشبه أن يكون وجه الأمارة أن مستوقد النار إذا فار بالماء فغيره أشد فورانا، وأحرى بذلك. وروي أنه كان تنور آدم عليه السّلام خلص إلى نوح فكان يوقد فيه، وقال النقاش: اسم المستوقد التنور بكل لغة وذكر نحو ذلك ابن قتيبة في الأدب عن ابن عباس.

قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وقيل: إن موضع تنور نوح عليه السّلام كان بالهند، وقيل: كان في موضع مسجد الكوفة، وقيل كان في ناحية الكوفة، قاله الشعبي ومجاهد، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة، وقال ابن عباس وعكرمة: التنور وجه الأرض، ويقال له: تنور الأرض، وقال قتادة: التَّنُّورُ: أعالي الأرض، وقالت فرقة: التَّنُّورُ: عين بناحية الجزيرة، وقال الحسن بن أبي الحسن: التَّنُّورُ مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس، وقالت فرقة: التَّنُّورُ هو الفجر، المعنى: إذا طلع الفجر فاركب في السفينة، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أن التصريف يضعفه، وكان يلزم أن يكون التنور، وقالت فرقة: الكلام مجاز وإنما أراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب: «حمي الوطيس» والوطيس أيضا مستوقد النار، فلا فرق بين حمي وفارَ إذ يستعملان في النار، قال الله تعالى: سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ [الملك: ٧] ، فلا فرق بين الوطيس والتنور.

وقرأ حفص عن عاصم «من كلّ زوجين اثنين» بتنوين كُلٍّ وقرأ الباقون «من كلّ زوجين» بإضافة كُلٍّ إلى زَوْجَيْنِ. فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير: من كل حيوان أو نحوه، وأعمل «الحمل» في زَوْجَيْنِ، وجاء قوله: اثْنَيْنِ تأكيدا- كما قال: إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: ٥١] . ومن قرأ بالإضافة فأعمل «الحمل» في قوله اثْنَيْنِ، وجاء قوله زَوْجَيْنِ بمعنى العموم، أي من كل ما له ازدواج، هذا معنى قوله: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ قاله أبو علي وغيره، ولو قدرنا المعنى: احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج هذا، وهما زوجان: وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الأنعام: ١٤٣، الزمر: ٦] ثم فسرها، وكذلك هو في قوله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النجم: ٤٥] . قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة: وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج، ومن ذلك قول لبيد: [الكامل]

من كل محفوف يظل عصيه ... زوج عليه كلة وقرامها

وهكذا يأخذ العدديون: الزوج أيضا في كلام العرب النوع كقوله: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: ٧] وقوله: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [يس: ٣٦] إلى غير ذلك.

وروي في قصص هذه الآية أن نوحا عليه السّلام كان يأتيه الحيوان، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وروي أن أول ما ادخل في السفينة الذر، وآخر ما أدخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه، فزجره نوح عليه السّلام فلم ينبعث فقال له: ادخل ولو كان معك الشيطان، قال ابن عباس: زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ، وكان في كوثل السفينة، أي عند مؤخرها، وقيل كان على ظهرها.

وروي أن نوحا عليه السّلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه: أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل- وقيل من أنفه- خنزير وخنزيرة، فكفيا نوحا وأهله ذلك الأذى وهذا يجيء منه أن نوع الخنازير لم يكن قبل ذلك. وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك، فأمر الله نوحا أن يمسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هر وهرة، فكفياهم الفأر، وروي أيضا أن الفأر خرج من أنف الخنزير.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند والله أعلم كيف كان.

وقوله: وَأَهْلَكَ عطف على ما عمل فيه احْمِلْ و «الأهل» هنا القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفا ثم ذكر مَنْ آمَنَ وليس من الأهل واختلف في الذي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فقيل: هو ابنه يام، وقال النقاش: اسمه كنعان وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة وقيل: هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته. والْقَوْلُ هاهنا معناه: القول بأنه يعذب، وقوله: وَمَنْ آمَنَ عطف على قوله: وَأَهْلَكَ ثم قال إخبارا عن حالهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ واختلف في ذلك «القليل» فقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين: وقيل كانوا ثمانين في الكل، قاله السدي: وقيل: عشرة وقيل: ثمانية، قاله قتادة وقيل: سبعة والله أعلم. وقيل: كان في السفينة جرهم، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق، وكان في السفينة مع نوح عليه السّلام ثلاثة من بنيه: سام، وحام، ويافث، وغرق يام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش.

قوله عز وجل:

٤١

انظر تفسير الآية:٤٢

٤٢

وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢)

المعنى وَقالَ نوح- حين أمر بالحمل في السفينة- لمن آمن معه: ارْكَبُوا فِيها فأنث الضمير، إذ هي سفينة لأن الفلك المذكور مذكر.

وفي مصحف أبيّ «على اسم الله» . وقوله: بِسْمِ اللَّهِ يصح أن يكون في موضع الحال من الضمير الذي في قوله: ارْكَبُوا كما تقول: خرج زيد بثيابه وبسلاحه، أي اركبوا متبركين بالله تعالى، ويكون قوله: مَجْراها وَمُرْساها ظرفين، أي وقت إجرائها وإرسائها. كما تقول العرب: الحمد لله سرارك وإهلالك وخفوق النجم ومقدم الحاج، فهذه ظرفية زمان، والعامل في هذا الظرف ما في بِسْمِ اللَّهِ من معنى الفعل، ويصح أن يكون قوله: بِسْمِ اللَّهِ في موضع خبر ومَجْراها وَمُرْساها ابتداء مصدران كأنه قال: اركبوا فيها فإن ببركة الله إجراءها وإرساءها، وتكون هذه الجملة- على هذا- في موضع حال من الضمير في قوله فِيها، ولا يصح أن يكون حالا من الضمير في قوله: ارْكَبُوا لأنه لا عائد في الجملة يعود عليه: وعلى هذا التأويل قال الضحاك: إن نوحا كان إذا أراد جري السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ، فتجري وإذا أراد وقوفها قال: بِسْمِ اللَّهِ فتقف.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم- في رواية أبي بكر وابن عامر: «مجراها ومرساها» بضم الميمين على معنى إجرائها وإرسائهما، وهي قراءة مجاهد وأبي رجاء والحسن والأعرج وشيبة وجمهور الناس، ومن ذلك قول لبيد: [الكامل]

وعمرت حرسا قبل مجرا داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «مجراها» بفتح الميم وكسر الراء، وكلهم ضم الميم من «مرساها» وقرأ الأعمش وابن مسعود «مجراها ومرساها» بفتح الميمين، وذلك من الجري والرسو وهذه ظرفية مكان، ومن ذلك قول عنترة: [الكامل]

فصبرت نفسا عند ذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع

واختار الطبري قراءة «مجراها» بفتح الميم الأولى وضم الثانية، ورجحها بقوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي، ولم يقرأ أحد، «تجري» وهي قراءة ابن مسعود أيضا رواها عنه أبو وائل ومسروق. وقرأ ابن وثاب وأبو رجاء العطاري والنخعي والجحدري والكلبي والضحاك بن مزاحم ومسلم بن جندب وأهل الشام:

«مجريها ومرسيها» وهما على هذه القراءة صفتان لله تعالى عائدتان على ذكره في قوله بِسْمِ اللَّهِ.

وقوله إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تنبيه لهم على قدر نعم الله عليهم ورحمته لهم وستره عليهم وغفرانه ذنوبهم بتوبتهم وإنابتهم.

وقوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ الآية، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطرفيه، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع، فهكذا كان التقاء الماء، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعا وقيل خمسة عشرة ذراعا وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق: ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وأين كان الموج كالجبال على هذا؟ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا؟.

وقرأت فرقة: «ابنه» على إضافة الابن إلى نوح، وهذا قول من يقول: هو ابنه لصلبه، وقد قال قوم:

إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حنانا منه وتلطفا، وقرأ ابن عباس «ابنه» بسكون الهاء، وهذا على لغة لأزد السراة ومنه قول الشاعر: [الطويل] ومطواي مشتاقان له أرقان وقرأ السدي «ابناه» قال أبو الفتح: ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية، وقرأ عروة بن الزبير أيضا وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنه» على تقدير ابنها، فحذف الألف تخفيفا وهي لغة ومنها قول الشاعر: [البسيط]

أما تقود به شاة فتأكلها ... أو أن تبيعه في نقض الأزاكيب

وأنشد ابن الأعرابي على هذا:

فلست بمدرك ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لواني

يريد: بلهفا.

قال القاضي أبو محمد: وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف وليس كما قال.

وقرأ وكيع بن الجراح: «ونادى نوح ابنه» بضم التنوين، قال أبو حاتم: وهي لغة سوء لا تعرف.

وقوله: فِي مَعْزِلٍ أي في ناحية، فيمكن أن يريد في معزل في الدين، ويمكن أن يريد في معزل في بعده عن السفينة، واللفظ يعمهما: وقال مكي في المشكل: ومن قال: «معزل» - بكسر الزاي- أراد الموضع، ومن قال: «معزل» - بفتحها- أراد المصدر: فلم يصرح بأنها قراءة ولكن يقتضي ذلك لفظه.

وقرأ السبعة «يا بنيّ» بكسر الياء المشددة، وهي ثلاث ياءات: أولاها ياء التصغير، وحقها السكون والثانية لام الفعل، وحقها أن تكسر بحسب ياء الإضافة إذ ما قبل ياء الإضافة مكسور: والثالثة: ياء الإضافة فحذفت ياء الإضافة إما لسكونها وسكون الراء، وإما إذ هي بمثابة التنوين في الإعلام وهو يحذف في النداء فكذلك ياء الإضافة والحذف فيها كثير في كلام العرب، تقول: يا غلام، ويا عبيد، وتبقى الكسرة دالة، ثم أدغمت الياء الساكنة في الياء المكسورة، وقد روى أبو بكر وحفص عن عاصم أيضا «يا بنيّ» بفتح الياء المشددة، وذكر أبو حاتم: أن المفضل رواها عن عاصم، ولذلك وجهان: أحدهما: أن يبدل من ياء الإضافة ألفا وهي لغة مشهورة تقول: يا غلاما، ويا عينا، فانفتحت الياء قبل الألف ثم حذفت الألف استخفافا ولسكونها وسكون الراء من قوله ارْكَبْ.

والوجه الثاني: أن الياءات لما اجتمعت استثقل اجتماع المماثلة فخفف ذلك الاستثقال بالفتح إذ هو أخف الحركات، هذا مذهب سيبويه، وعلى هذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: «وحواري الزبير» .

وروي عن ابن كثير أنه قرأ في سورة لقمان: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان: ١٣] بحذف ياء الإضافة ويسكن الياء خفيفة، وقرأ الثانية: يا بُنَيَّ إِنَّها [لقمان: ١٦] كقراءة الجماعة وقرأ الثالثة: يا بُنَيَّ أَقِمِ ... [لقمان: ١٧] ساكنة كالأولى.

وقوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ يحتمل أن يكون نهيا محضا مع علمه أنه كافر، ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره فناداه ألا يبقى- وهو مؤمن- مع الكفرة فيهلك بهلاكهم، والأول أبين.

قوله عز وجل:

٤٣

انظر تفسير الآية:٤٤

٤٤

قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)

ظن ابن نوح أن ذلك المطر والماء على العادة، وقوله: لا عاصِمَ قيل فيه: إنه على لفظة فاعل وقوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ يريد إلا الله الراحم، ف مِنَ كناية عن اسم الله تعالى، المعنى: لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا ف مِنَ في موضع رفع، وقيل: قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ استثناء منقطع كأنه قال: لا عاصم اليوم موجود، لكن من رحم الله موجود، وحسن هذا من جهة المعنى، أن نفي العاصم يقتضي نفي المعصوم. فهو حاصل بالمعنى. وأما من جهة اللفظ، ف مِنَ في موضع نصب على حد قول النابغة:

إلا الأواري. ولا يجوز أن تكون في موضع رفع على حد قول الشاعر: [الرجز] .

وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس

إذ هذان أنيس ذلك الموضع القفر، والمعصوم هنا ليس بعاصم بوجه، وقيل عاصِمَ معناه ذو اعتصام، ف عاصِمَ على هذا في معنى معصوم، ويجيء الاستثناء مستقيما، ومِنَ في موضع رفع، والْيَوْمَ ظرف، وهو متعلق بقوله: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أو بالخير الذي تقديره: كائن اليوم، ولا يصح تعلقه ب عاصِمَ لأنه كان يجيء منونا: لا عاصما اليوم يرجع إلى أصل النصب لئلا يرجع ثلاثة أشياء واحدا، وإنما القانون أن يكون الشيئان واحدا: لا وما عملت فيه، ومثال النحويين في هذه المسألة: لا أمرا يوم الجمعة لك، فإن أعلمت في يوم لك قلت: لا أمر.

وبَيْنَهُمَا يريد بين نوح وابنه، فكان الابن ممن غرق، وقوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ الآية، بناء الفعل للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت، وكذلك بناء الأفعال بعد ذلك في سائر الآية وروي أن أعرابيا سمع هذه الآية فقال: هذا كلام القادرين، و «البلع» هو تجرع الشيء وازدراده، فشبه قبض الأرض للماء وتسربه فيها بذلك، وأمرت بالتشبيه وأضاف الماء إليها إذ عليها وحاصل فيها، و «السماء» في هذه الآية، إما السماء المظلة، وإما السحب، و «الإقلاع» عن الشيء تركه، والمعنى: أقلعي عن الإمطار، وغِيضَ معناه نقص، وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى جفوف كقوله: وَغِيضَ الْماءُ، وكقوله: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ [الرعد: ٨] وأكثر المفسرين على أن ذلك في الحيض، وكذلك قول الأسود بن يعفر:

ما غيض من بصري ومن أجلادي وذلك أن الإنسان الهرم إنما تنقصه بجفوف وقضافة وقوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ إشارة إلى جميع القصة:

بعث الماء وإهلاك الأمم وإنجاء أهل السفينة. وروي أن نوحا عليه السّلام ركب في السفينة من عين وردة بالشام أول يوم من رجب، وقيل: في العاشر منه، وقيل: في الخامس عشر، وقيل: في السابع عشر، واستوت السفينة في ذي الحجة، وأقامت على الْجُودِيِّ شهرا، وقيل له: اهبط في يوم عاشوراء فصامه وصامه من معه من ناس ووحوش: وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة، وذكر أيضا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء، ففيه أرست على الجودي، فصامه نوح ومن معه» .

وروي أن نوحا لما طال مقامه على الماء بعث الغراب ليأتيه بخبر كمال الغرق فوجد جيفة طافية فبقي عليها فلم يرجع بخبر، فدعا عليه نوح فسود لونه وخوف من الناس، فهو لذلك مستوحش، ثم بعث نوح الحمام فجاءته بورق زيتونة في فمها ولم تجد ترابا تضع رجليها عليه، فبقي أربعين يوما ثم بعثها فوجدت الماء قد انحسر عن موضع الكعبة، وهي أول بقعة انحسر الماء عنها، فمست الطين برجليها وجاءته، فعلم أن الماء قد أخذ في النضوب، ودعا لها فطوقت وأنست. فهي لذلك تألف الناس ثم أوحى الله إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت كلها وبقي الجودي- وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة- لم يتطاول تواضعا لله، فاستوت السفينة بأمر الله عليه، وبقيت عليه أعوادها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة» . وقال الزجاج: الْجُودِيِّ هو بناحية آمد.

وقال قوم: هو عند باقردى. وروي أن السفينة لما استقلت من عين وردة جرت حتى جاءت الكعبة فوجدتها قد نشزت من الأرض فلم ينلها غرق فطافت بها أسبوعا ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي.

قال القاضي أبو محمد: والقصص في هذه المعاني كثير صعب أن يستوفي، فأشرت منه إلى نبذ ويدخله الاختلاف كما ترى في أمر الكعبة والله أعلم كيف كان. واسْتَوَتْ معناه: تمكنت واستقرت.

وقرأ جمهور الناس: «على الجوديّ» بكسر الياء وشدها، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة «على الجودي» بسكون الياء، وهما لغتان. وقوله وَقِيلَ: بُعْداً يحتمل أن يكون من قول الله تعالى عطفا على وَقِيلَ الأول ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين، والأول أظهر وأبلغ.

قوله عز وجل:

٤٥

انظر تفسير الآية:٤٦

٤٦

وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)

هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة ويظهر من كلام الطبري أن ذلك كان بعد غرق الابن، وهو محتمل، والأول أليق.

وهذه الآية احتجاج من نوح عليه السّلام، وذلك أن الله أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل، ثم حسن المخاطبة بقوله: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وبقوله: وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، فإن هذه الأقوال معينة في حجته، وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه السّلام ظن أن ابنه مؤمن، وذلك أشد الاحتمالين.

وقوله تعالى: قالَ يا نُوحُ الآية، المعنى قال الله تعالى: يا نوح، وقالت فرقة: المراد أنه ليس بولد لك، وزعمت أنه كان لغية وأن امرأته الكافرة خانته فيه، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير: وقال بزي إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح، وحلف الحسن أنه ليس بابنه، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه.

قال القاضي أبو محمد: عول الحسن على قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ [هود: ٤٢] .

وقرأ الحسن ومن تأول تأويله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ على هذا المعنى، وهي قراءة السبعة سوى الكسائي: وقراءة جمهور الناس، وقال من خالف الحسن بن أبي الحسن: المعنى: ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء. فمن قرأ من هذه الفرقة إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ جعله وصفا له بالمصدر على جهة المبالغة، فوصفه بذلك كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها:

[البسيط]

ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وإدبار. وقرأ بعض هذه الفرقة «إنه عمل غير صالح» وهي قراءة الكسائي، وروت هذه القراءة أم سلمة وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره أبو حاتم، وضعف الطبري هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق شهر بن حوشب، وهي قراءة علي وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك، ورجحها أبو حاتم وقرأ بعضها: «إنه عمل عملا غير صالح» . وقالت فرقة: الضمير في قوله: «إنه عمل غير صالح» على قراءة جمهور السبعة على سؤال الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية ويقوي هذا التأويل أن في مصحف ابن مسعود «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم» . وقالت فرقة:

الضمير عائد على ركوب ولد نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح، المعنى: أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح، وقال أبو علي: ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح.

قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى، وكل هذه الفرق قال: إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا: إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ما زنت امرأة نبي قط» .

قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث ليس بالمعروف، وإنما هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة. وقالوا في قوله عز وجل: فَخانَتاهُما إن الواحدة كانت تقول للناس: هو مجنون والأخرى كانت تنبه على الأضياف، وأما غير هذا فلا، وهذه منازع ابن عباس وحججه وهو قوله وقول الجمهور من الناس.

وقرأ ابن أبي مليكة: «فلا تسلني» بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز. وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز «فلا تسألن» ، وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء «فلا تسألنّي» ، وقرأ نافع ذلك دون ياء «فلا تسألن» وقرأ ابن كثير وابن عامر «فلا تسألنّ» بفتح النون المشددة، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «فلا تسلن» خفيفة النون ساكنة اللام، وكان أبو عمرو يثبت الياء في الوصل، وحذفها عاصم وحمزة في الوصل والوقف. ومعنى قوله:

فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك هو بحق واجب واجب عند الله.

قال القاضي أبو محمد: ولكن نوحا عليه السّلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عتابه، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وقد قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: فَلا تَكُونَنَّ [البقرة: ١٤٧، الأنعام: ٣٤- ١١٤، يونس: ٩٤] ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة، وإلا فمتقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين. وقال قوم: إنما وقر نوح لسنه. وقال قوم: إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، ويحتمل قوله: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي، وقال: إن بِهِ يجوز أن يتعلق بلفظة عِلْمٌ كما قال الشاعر: [الرجز] كان جزائي بالعصا أن أجلدا ويجوز أن يكون بِهِ بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر.

قال القاضي أبو محمد: واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحد، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف وحكى الطبري عن ابن زيد أن معنى قوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به.

قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بشع، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحا اعتقد هذا وعياذا بالله، وغاية ما وقع لنوح عليه السّلام أن رأى ترك ابنه معارضا للوعد فذكر به، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى.

قوله عز وجل:

٤٧

انظر تفسير الآية:٤٩

٤٨

انظر تفسير الآية:٤٩

٤٩

قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)

هذه الآية فيها إنابة نوح وتسليمه لأمر الله تعالى واستغفاره بالسؤال الذي وقع النهي عليه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة وطلبة ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا.

وظاهر قوله: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود: ٤٦] يعم النحويين من السؤال، فلذلك نبهت على أن المراد أحدهما دون الآخر، و «الخاسرون» هم المغبونون حظوظهم من الخير، وقوله تعالى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ كان هذا عند نزوله من السفينة مع أصحابه للانتشار في الأرض، و «السّلام» هنا السلامة والأمن ونحوه، و «البركات» الخير والنمو في كل الجهات، وهذه العدة تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، قاله محمد بن كعب القرظي وقوله مِمَّنْ مَعَكَ أي من ذرية من معك ومن نسلهم، فمن- على هذا- هي لابتداء الغاية، أي من هؤلاء تكون هذه الأمم، ومن موصولة، وصلتها مَعَكَ وما بتقدر معها نحو قولك: ممن استقر معك ونحوه ثم قطع قوله: وَأُمَمٌ على وجه الابتداء إذ كان أمرهم مقطوعا من الأمر الأول، وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة.

وقوله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الآية إشارة إلى القصة، أي هذه من الغيوب التي تقادم عهدها ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى، ولم يكن علمها أو علم أشباهها عندك ولا عند قومك، ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، وتكون لقومك مثالا وتحذيرا، لئلا يصيبهم إذا كذبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمور المعذبة.

قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، أي فاجتهد في التبليغ وجد في الرسالة واصبر على الشدائد واعلم أن العاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة. وفي مصحف ابن مسعود: «من قبل هذا القرآن» .

قوله عز وجل:

٥٠

انظر تفسير الآية:٥٢

٥١

انظر تفسير الآية:٥٢

٥٢

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)

وَإِلى عادٍ عطف على قوله إِلى قَوْمِهِ [هود: ٢٥] في قصة نوح، وعادٍ قبيلة وكانت عربا- فيما ذكر- و «هود» عليه السّلام منهم، وجعله أَخاهُمْ بحسب النسب والقرابة فإن فرضناه ليس منهم فالأخوة بحسب المنشأ واللسان والجيرة. وأما قول من قال هي أخوة بحسب النسب الآدمي فضعيف.

وقرأ جمهور الناس: «يا قوم» بكسر الميم، وقرأ ابن محيصن: «يا قوم» برفع الميم، وهي لغة حكاها سيبويه، وقرأ جمهور الناس: «غيره» بالرفع على النعت أو البدل من موضع قوله: مِنْ إِلهٍ. وقرأ الكسائي وحده بكسر الراء، حملا على لفظ: إِلهٍ وذلك أيضا على النعت أو البدل ويجوز «غيره» نصبا على الاستثناء.

ومُفْتَرُونَ معناه كاذبون أفحش كذب في جعلكم الألوهية لغير الله تعالى، والضمير في قوله:

عَلَيْهِ عائد على الدعاء إلى الله تعالى، والمعنى: ما أجري وجزائي إلا من عند الله، ثم وصفه بقوله الَّذِي فَطَرَنِي فجعلها صفة رادة عليهم في عبادتهم الأصنام واعتقادهم أنها تفعل، فجعل الوصف بذلك في درج كلامه، منبها على أفعال الله تعالى، وأنه هو الذي يستحق العبادة، و «فطر» معناه اخترع وأنشأ، وقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ توقيف على مجال القول بأن غير الفاطر إلاه، ويحتمل أن يريد: أَفَلا تَعْقِلُونَ إذ لم أطلب عرضا من أعراض الدنيا إني إنما أريد النفع لكم والدار الآخرة والأول أظهر، و «الاستغفار» طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة، وهذه أحوال يمكن أن تقع من الكفار، فكأنه قال لهم: اطلبوا غفران الله بالإنابة، وطلب الدليل في نبوتي، ثم توبوا بالإيمان من كفركم، فيجيء الترتيب على هذا مستقيما وإلا احتيج في ترتيب التوبة بعد الاستغفار إلى تحيل كثير فإما أن يكون: تُوبُوا أمرا بالدوام، و «الاستغفار» طلب المغفرة بالإيمان، وإلى هذا ذهب الطبري، وقال أبو المعالي في الإرشاد: «التوبة» في اصطلاح المتكلمين هي الندم، بعد أن قال: إنها في اللغة الرجوع، ثم ركب على هذا أن قال إن الكافر إذا آمن ليس إيمانه توبة وإنما توبته ندمه بعد.

قال القاضي أبو محمد: والذي أقول: إن التوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه لا ينفك منه وهو من شروطها فأقول إن إيمان الكافر هو توبته من كفره، لأنه هو نفس رجوعه، و «تاب» في كلام العرب معناه رجع إلى الطاعة والمثلى من الأمور، وتصرف اللفظة في القرآن ب «إلى» يقتضي أنها الرجوع لا الندم، وإنما لا حق لازم للتوبة كما قلنا، وحقيقة التوبة ترك مثل ما تيب منه عن عزمة معتقدة على ما فسرناه، والله المستعان.

ومِدْراراً هو بناء تكثير وكان حقه أن تلحقه هاء، ولكن حذفت على نية النسب وعلى أن السَّماءَ المطر نفسه، وهو من در يدر ومفعال قد يكون من اسم الفاعل الذي هو من ثلاثي، ومن اسم الفاعل الذي هو من رباعي: وقول من قال: إنه ألزم للرباعي غير لازم.

ويروي أن عادا كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار، وكانت بلادهم شرق جزيرة العرب، فلهذا وعدهم بالمطر، ومن ذلك فرحهم حين رأوا العارض، وقولهم:

هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: ٢٤] وحضهم على استنزال المطر بالإيمان والإنابة، وتلك عادة الله في عباده، ومنه قول نوح عليه السّلام «استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا» ، ومنه فعل عمر رضي الله حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفارا فسقي، فسئل عن ذلك، فقال:

لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء.

وقوله: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد، وقالت فرقة: كان الله تعالى قد حبس نسلهم، فمعنى قوله: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي الولد، ويحتمل أن خص القوة بالذكر إذ كانوا أقوى العوالم فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه، ثم نهاهم عن التولي عن الحق والإعراض عن أمر الله. ومُجْرِمِينَ حال من الضمير في تَتَوَلَّوْا.

قوله عز وجل:

٥٣

انظر تفسير الآية:٥٦

٥٤

انظر تفسير الآية:٥٦

٥٥

انظر تفسير الآية:٥٦

٥٦

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)

المعنى: ما جِئْتَنا بآية تضطرنا إلى الإيمان بك ونفوا أن تكون معجزاته آية بحسب ظنهم وعماهم عن الحق، كما جعلت قريش القرآن سحرا وشعرا ونحو هذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» الحديث، وهذا يقضي بأن هودا وغيره من الرسل لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها.

وقوله: عَنْ قَوْلِكَ أي لا يكون قولك سبب تركنا إذ هو مجرد عن آية، وقولهم: إِنْ نَقُولُ الآية، معناه ما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضللت عبدتها أصابك بجنون، يقال: عر يعر واعترى يعتري إذا ألم بالشيء، فحينئذ جاهرهم هود عليه السّلام بالتبري من أوثانهم وحضهم على كيده هم وأصنامهم، ويذكر أن هذه كانت له معجزة وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم فلم يقدروا على نيله بسوء.

وتُنْظِرُونِ معناه تؤخروني أي عاجلوني بما قدرتم عليه، وقوله تعالى: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ الآية، المعنى: أن توكلي على الله الذي هو ربي وربكم مع ضعفي وانفرادي وقوتكم وكثرتكم يمنعني منكم ويحجز بيني وبينكم ثم وصف قدرة الله تعالى وعظم ملكه بقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها وعبر عن ذلك ب «الناصية» ، إذ هي في العرف حيث يقبض القادر المالك ممن يقدر عليه، كما يقاد الأسير والفرس ونحوه حتى صار الأخذ بالناصية عرفا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه لتكون تلك علامة أنه قدر عليه وقبض على ناصيته. و «الدابة» : جميع الحيوان، وخص بالذكر إذ هو صنف المخاطبين والمتكلم.

وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يريد أن أفعال الله عز وجل هي في غاية الإحكام، وقوله الصدق، ووعده الحق فجاءت الاستقامة في كل ما ينضاف إليه عز وجل. فعبر عن ذلك بقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على تقدير مضاف.

قوله عز وجل:

٥٧

انظر تفسير الآية:٦٠

٥٨

انظر تفسير الآية:٦٠

٥٩

انظر تفسير الآية:٦٠

٦٠

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)

قرأ الجمهور: «تولّوا» بفتح اللام والتاء على معنى تتولوا، وقرأ عيسى الثقفي والأعرج: «تولوا» بضم التاء واللام، و «إن» شرط، والجواب في الفاء وما بعدها من قوله فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، والمعنى أنه ما علي كبير همّ منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان.

ويحتمل أن يكون تَوَلَّوْا فعلا ماضيا، ويجيء في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب، أي فقل: قد أبلغكم.

وقرأ جمهور «ويستخلف» بضم الفاء على معنى الخبر بذلك، وقرأ عاصم- فيما روى هبيرة عن حفص عنه- «ويستخلف» بالجزم عطفا على موضع الفاء من قوله فَقَدْ.

وقوله: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً يحتمل من المعنى وجهين:

أحدهما ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئا أي لا ينتقص ملكه، ولا يختل أمره، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود: «ولا تنقصونه شيئا» .

والمعنى الآخر: وَلا تَضُرُّونَهُ أي ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بكم بشيء يضره. ثم أخبرهم أن ربه حَفِيظٌ على كل شيء عالم به، وفي ترديد هذه الصفات ونحوها تنبيه وتذكير، و «الأمر» واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر أمر يأمر، أي أمرنا للريح أو لخزنتها ونحو ذلك، وقوله بِرَحْمَةٍ، إما أن يكون إخبارا مجردا عن رحمة من الله لحقتهم، وإما أن يكون قصدا إلى الإعلام أن النجاة إنما كملت بمجرد رحمة الله لا بأعماله فتكون الآية- على هذا- في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة بعمله» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمته» .

وقوله وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ يحتمل أن يريد: عذاب الآخرة، ويحتمل أن يريد: وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح، فيكون المقصود على هذا، تعديد النعمة ومشهور عذابهم بالريح هو أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها وتحمل الظعينة كما هي ونحو هذا. وحكى الزجاج أنها كانت تدخل في أبدانهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضوا عضوا. وتعدى جَحَدُوا بحرف جر لما نزل منزلة كفروا، وانعكس ذلك في الآية بعد هذا، وقوله: وَعَصَوْا رُسُلَهُ، شنعة عليهم وذلك أن في تكذيب رسول واحد تكذيب سائر الرسل وعصيانهم، إذ النبوات كلها مجمعة على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته: ويحتمل أن يراد هود. وآدم، ونوح و «العنيد» : فعيل من «عند» إذا عتا. ومنه قول الشاعر:

[الرجز] .

إني كبير لا أطيق العندا أي الصعاب من الإبل، وكان التجبر والعناد من خلق عاد لقوتهم، وقوله وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً الآية، حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذاب بهم، و «اللعنة» : الإبعاد والخزي، وقد تيقن أن هؤلاء وافوا على الكفر فيلعن الكافر الموافي على كفره ولا يلعن معين حي، لا من.

كافر، ولا من فاسق، ولا من بهيمة، كل ذلك مكروه بالأحاديث. ويَوْمَ ظرف معناه أن اللعنة عليهم في الدنيا وفي يوم القيامة. ثم ذكرت العلة الموجبة لذلك وهي كفرهم بربهم وتعدى «كفر» بغير الحرف إذ هو بمعنى جَحَدُوا كما تقول شكرت لك وشكرتك، وكفر نعمته وكفر بنعمته، وبُعْداً منصوب بفعل مقدر وهو مقام ذلك الفعل.

قوله عز وجل:

٦١

انظر تفسير الآية:٦٢

٦٢

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)

التقدير: وأرسلنا إلى ثمود وقد تقدم القول في مثل هذا وفي معنى الأخوة في قصة هود.

وقرأ الجمهور: «وإلى ثمود» بغير صرف، وقرأ ابن وثاب والأعمش «وإلى ثمود» بالصرف حيث وقع، فالأولى على إرادة القبيلة، والثانية على إرادة الحي، وفي هذه الألفاظ الدالة على الجموع ما يكثر فيه إرادة الحي كقريش وثقيف وما لا يقال فيه بنو فلان وفيها ما يكثر فيه إرادة القبيلة كتميم وتغلب، ألا ترى أنهم يقولون تغلب ابنة وائل، وقال الطرماح: [الطويل] «إذا نهلت منه تميم وعلّت» وقال الآخر: [المتقارب] «تميم ابن مر وأشياعها» وفيها ما يكثر فيه الوجهان كثمود وسبأ، فالقراءتان هنا فصيحتان مستعملتان. وقرأت فرقة «غيره» برفع الراء، وقد تقدم آنفا.

وأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، أي اخترعكم وأوجدكم، وذلك باختراع آدم عليه السّلام: فكأن إنشاء آدم إنشاء لبنيه. وَاسْتَعْمَرَكُمْ، أي اتخذكم عمارا، كما تقول: استكتب واستعمل. وذهب قوم إلى أنها من العمر أي عمركم، وقد تقدم مثل قوله: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ.

إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، أي إجابته وغفرانه قريب ممن آمن وأناب، ومُجِيبٌ، معناه بشرط المشيئة والظاهر الذي حكاه جمهور المفسرين أن قوله: مَرْجُوًّا معناه: مسودا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر، ثم قرروه على جهة التوبيخ في زعمهم بقولهم: أَتَنْهانا وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: معناه حقيرا.

قال القاضي أبو محمد: فأما أن يكون لفظ مَرْجُوًّا بمعنى حقير فليس ذلك في كلام العرب، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى، وذلك أن القصد بقولهم: مَرْجُوًّا يكون: لقد كنت فينا سهلا مرامك قريبا رد أمرك، ممن لا يظن أن يستفحل من أمره مثل هذا فمعنى «مرجو» أي مرجو اطراحه وغلبته ونحو هذا، فيكون ذلك على جهة الاحتقار، فلذلك فسر بحقير، ويشبه هذا المعنى قول أبي سفيان بن حرب: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ... الحديث ثم يجيء قولهم: أَتَنْهانا على جهة التوعد والاستشناع لهذه المقالة منه.

وما يَعْبُدُ آباؤُنا يريدون به الأوثان والأصنام، ثم أوجبوا أنهم في شك من أمره وأقاويله، وأن ذلك الشك يرتابون به زائدا إلى مرتبته من الشك قال القاضي: ولا فرق بين هذه الحال وبين حالة التصميم على الكفر، ومُرِيبٍ معناه ملبس متهم، ومنه قول الشاعر: [الرجز]

يا قوم ما بال أبي ذؤيب ... كنت إذا أتيته من غيب

يشم عطفي ويمس ثوبي ... كأنني أربته بريب

قوله عز وجل:

٦٣

انظر تفسير الآية:٦٥

٦٤

انظر تفسير الآية:٦٥

٦٥

قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)

قوله: أَرَأَيْتُمْ هو من رؤية القلب، أي أتدبرتم؟ والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي أَرَأَيْتُمْ و «البينة» : البرهان واليقين، والهاء في «بيّنة» للمبالغة، ويحتمل أن تكون هاء تأنيث، و «الرحمة» في هذه الآية: النبوة وما انضاف إليها، وفي الكلام محذوف تقديره أيضرني شككم أو أيمكنني طاعتكم ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية.

وقوله فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ معناه: فما تعطونني فيما أقتضيه منكم من الإيمان وأطلبكم به من الإنابة غير تخسير لأنفسكم، وهو من الخسارة، وليس التخسير في هذه الآية إلا لهم وفي حيزهم، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم، كما تقول لمن توصيه: أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي شرا.

فكأن الوجه البيّن وأنت تزيد شرا ولكن من حيث كنت مريد خير به ومقتضي ذلك- حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك.

وقوله تعالى: وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الآية، اقتضب في هذه الآية ذكر أول أمر الناقة، وذلك أنه روي أن قومه طلبوا منه آية تضطرهم إلى الإيمان، فأخرج الله، جلت قدرته، لهم الناقة من الجبل، وروي أنهم اقترحوا تعيين خروج الناقة من تلك الصخرة، فروي أن الجبل تمخض كالحامل، وانصدع الحجر، وخرجت منه ناقة بفصيلها، وروي أنها خرجت عشراء، ووضعت بعد خروجها، فوقفهم صالح وقال لهم:

هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، ونصب آيَةً على الحال.

وقرأت فرقة «تأكل» بالجزم على جواب الأمر، وقرأت فرقة: «تأكل» على طريق القطع والاستئناف، أو على أنه الحال من الضمير في «ذروها» .

وقوله وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ عام في العقر وغيره، وقوله: فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ هذا بوحي من الله إليه أن قومك إذا عقروا الناقة جاءهم عذاب قريب المدة من وقت المعصية، وهي الأيام الثلاثة التي فهمها صالح عليه السّلام من رغاء الفصيل على جبل القارة. وأضاف العقر إلى جميعهم لأن العاقر كان منهم وكان عن رضى منهم وتمالؤ، وعاقرها قدار، وروي في خبر ذلك أن صالحا أوحى الله إليه أن قومك سيعقرون الناقة وينزل بهم العذاب عند ذلك، فأخبرهم بذلك فقالوا: عياذا بالله أن نفعل ذلك، فقال: إن لم تفعلوا أنتم ذلك أوشك أن يولد فيكم من يفعله، وقال لهم: صفة عاقرها أحمر أزرق أشقر، فجعلوا الشرط مع القوابل وأمروهم بتفقد الأطفال، فمن كان على هذه الصفة قتل، وكان في المدينة شيخان شريفان عزيزان، وكان لهذا ابن ولهذا بنت، فتصاهرا فولد بين الزوجين قدار، على الصفة المذكورة، فهم الشرط بقتله، فمنع منه جداه حتى كبر، فكان الذي عقرها بالسيف في عراقيبها، وقيل: بالسهم في ضرعها وهرب فصيلها عن ذلك، فصعد على جبل يقال له القارة، فرغا ثلاثا، فقال صالح: هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب، وأمرهم قبل رغاء الفصيل أن يطلبوه عسى أن يصلوا إليه فيندفع عنه العذاب به، فراموا الصعود إليه في الجبل، فارتفع الجبل في السماء حتى ما تناله الطير، وحينئذ رغا الفصيل.

وقوله فِي دارِكُمْ هي جمع دارة كما تقول ساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

[الوافر]

له داع بمكة مشمعلّ ... وآخر عند دارته ينادي

ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا، و «الثلاثة الأيام» تعجيز قاس الناس عليه الاعذار إلى المحكوم عليه ونحوه.

قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي مفترق لأنها في المحكوم عليه والغارم في الشفعة ونحوه توسعة، وهي هنا توقيف على الخزي والتعذيب، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قال: لو صعدتم على القارة لرأيتم عظام الفصيل.

قوله عز وجل:

٦٦

انظر تفسير الآية:٦٨

٦٧

انظر تفسير الآية:٦٨

٦٨

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)

«الأمر» جائز أن يراد به المصدر من أمر، وجائز أن يراد به: واحد الأمور. وقوله: بِرَحْمَةٍ مِنَّا يحتمل أن يقصد أن التنجية إنما كانت بمجرد الرحمة، ويحتمل أن يكون وصف حال فقط: أخبر أنه رحمهم في حال التنجية. وقوله: مِنَّا الظاهر أنه متعلق برحمة ويحتمل أن يتعلق بقوله نَجَّيْنا.

وقرأت فرقة: «ومن خزي يومئذ» بتنوين خزي وفتح الميم من يَوْمِئِذٍ وذلك يجوز فيه أن تكون فتحة الميم إعرابا، ويجوز أن يكون بني الظرف لما أضيف إلى غير متمكن، فأنت مخير في الوجهين.

والروايتان في قول الشاعر:

على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ومن خزي يومئذ» بإضافة «خزي» وكسر الميم من يَوْمِئِذٍ وهذا توسع في إضافة المصدر إلى الظرف كما قال: مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣] ونحو هذا، وقياس هذه القراءة أن يقال سير عليه «يومئذ» برفع الميم، وهذه قراءتهم في قوله تعالى: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ [المعارج: ١١] ، ومِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ [النمل: ٨٩] ، وقرأ عاصم وحمزة كذلك إلا في قوله مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ [النمل: ٨٩] فإنهما نونا العين وفتحا الميم واختلفت عن نافع في كسر الميم وفتحها، وهو يضيف في الوجهين، وقرأ الكسائي «من خزي يومئذ» بترك التنوين وفتح الميم من يَوْمِئِذٍ وهذا جمع بين الإضافة وبناء الظرف.

وقرأ «ومن فزع» [النمل: ٨٩] كعاصم وحمزة وأما «إذ» فكان حقها: «إذ» ساكنة إلا أنها من حقها أن تليها الجمل فلما حذفت لها هاهنا الجملة عوضت بالتنوين، والإشارة بقوله: يَوْمِئِذٍ إلى يوم التعذيب، وقوله تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الآية، روي أن صالحا عليه السّلام قال لهم حين رغا الفصيل: ستصفر وجوهكم في اليوم الأول وتحمر في الثاني وتسود في الثالث، فلما كان كذلك تكفنوا في الأنطاع واستعدوا للهلاك وأخذتهم صيحة فيها من كل صوت مهول، صدعت قلوبهم وأصابت كل من كان منهم في شرق الأرض وغربها، إلا رجلا كان في الحرم فمنعه الحرم من ذلك ثم هلك بعد ذلك: ففي مصنف أبي داود: قيل يا رسول الله من ذلك الرجل؟ قالوا أبو رغال.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وخلافه في السير. وذكر الفعل المسند إلى الصيحة إذ هي بمعنى الصياح، وتأنيثها غير حقيقي. وقيل: جاز ذلك وهي مؤنثة لما فصل بين الفعل وبينها. كما قالوا:

حضر القاضي اليوم امرأة والأول أصوب، و «الصيحة» إنما تجيء مستعملة في ذكر العذاب لأنها فعلة تدل على مرة واحدة شاذة، والصياح يدل على مصدر متطاول، وشذ في كلامهم قولهم: لقيته لقاءة واحدة، والقياس لقية، وجاثِمِينَ أي باركين قد صعق بهم، وهو تشبيه بجثوم الطير، وبذلك يشبه جثوم الأثافي وجثوم الرماد. ويَغْنَوْا مضارع من غني في المكان إذا أقام فيه في خفض عيش وهي المغاني: وقرأ حمزة وحده: «ألا ان ثمود» وكذلك في الفرقان والعنكبوت والنجم، وصرفها الكسائي كلها. وقوله: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ واختلف عن عاصم: فروى عنه حفص ترك الإجراء كحمزة، وروى عنه أبو بكر إجراء الأربعة وتركه في قوله: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وقرأ الباقون: «ألا إن ثمودا» فصرفت «ألا بعد لثمود» غير مصروف والقراءتان فصيحتان وكذلك صرفوا في الفرقان والعنكبوت والنجم.

قوله عز وجل:

٦٩

انظر تفسير الآية:٧١

٧٠

انظر تفسير الآية:٧١

٧١

وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١)

«الرسل» الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقالت فرقة: بدل إسرافيل عزرائيل- ملك الموت- وروي أن جبريل منهم كان مختصا بإهلاك قرية لوط، وميكائيل مختصا بتبشير إبراهيم بإسحاق.

وإسرافيل مختصا بإنجاء لوط ومن معه.

قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية تقضي باشتراكهم في البشارة بإسحاق وقالت فرقة- وهي الأكثر- «البشرى» هي بإسحاق. وقالت فرقة: «البشرى» هي بإهلاك قوم لوط.

وقوله: سَلاماً نصب على المصدر، والعامل فيه فعل مضمر من لفظه كأنه قال: أسلم سلاما، ويصح أن يكون: سَلاماً حكاية لمعنى ما قالوه لا للفظهم- قاله مجاهد والسدي- فلذلك عمل فيه القول، كما تقول- الرجل قال: لا إله إلّا الله- قلت حقا أو إخلاصا ولو حكيت لفظهم لم يصح أن تعمل فيه القول وقوله: قالَ: سَلامٌ حكاية للفظه، وسَلامٌ مرتفع إما على الابتداء، والخبر محذوف تقديره عليكم وإما على خبر ابتداء محذوف تقديره أمري سلام، وهذا كقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: ١٨] إما على تقدير فأمري صبر جميل، وإما على تقدير: فصبر جميل أجمل.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: «قالوا: سلاما قال: سلام» وقرأ حمزة والكسائي:

«قالوا سلاما، قال: سلم» وكذلك اختلافهم في سورة الذاريات. وذلك على وجهين: يحتمل أن يريد به السّلام بعينه، كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام ومن ذلك قول الشاعر: [الطويل]

مررنا فقلنا إيه سلم فسلمت ... كما اكتلّ بالبرق الغمام اللوائح

اكتل: اتخذ إكليلا أو نحو هذا قال الطبري وروي: كما انكلّ- ويحتمل أن يريد ب «السلم» ضد الحرب، تقول نحن سلم لكم.

وكان سلام الملائكة دعاء مرجوا- فلذلك نصب- وحيي الخليل بأحسن مما حيي وهو الثابت المتقرر ولذلك جاء مرفوعا.

وقوله: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ يصح أن تكون «ما» نافية، وفي لَبِثَ ضمير إبراهيم وإن جاء في موضع نصب أي بأن جاء، ويصح أن تكون «ما» نافية وإن جاء بتأويل المصدر في موضع رفع ب لَبِثَ أي ما لبث مجيئه، وليس في لَبِثَ على هذا ضمير إبراهيم، ويصح أن يكون «ما» بمعنى الذي وفي لَبِثَ ضمير إبراهيم- وإن جاء خبر «ما» أي فلبث إبراهيم مجيئه بعجل حنيذ، وفي أدب الضيف أن يجعل قراه من هذه الآية.

و «الحنيذ» بمعنى المحنوذ ومعناه بعجل مشوي نضج يقطر ماؤه، وهذا القطر يفصل الحنيذ من جملة المشويات، ولكن هيئة المحنوذ في اللغة الذي يغطى بحجارة أو رمل محمي أو حائل بينه وبين النار يغطى به والمعرض من الشواء الذي يصفف على الجمر والمهضب: الشواء الذي بينه وبين النار حائل، يكون الشواء عليه لا مدفونا له، والتحنيذ في تضمير الخيل هو أن يغطى الفرس بجل على جل لينتصب عرقه.

وقوله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ ... الآية، روي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه، وفي هذه الآية من أدب الطعام أن لصاحب الضيف أن ينظر من ضيفه هل يأكل أم لا؟

قال القاضي أبو محمد: وذلك ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر، فروي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك، فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعر في لقمتي والله لا أكلت معك.

ونَكِرَهُمْ- على ما ذكر كثير من الناس- معناه: أنكرهم، واستشهد لذلك بالبيت الذي نحله أبو عمرو بن العلاء الأعشى وهو: [البسيط]

وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وقال بعض الناس: «نكر» هو مستعمل فيما يرى بالبصر فينكر، وأنكر هي مستعملة فيما لا يقرر من المعاني، فكأن الأعشى قال: وأنكرتني مودتي وأدمتي ونحوه، ثم جاء ب «نكر» في الشيب والصلع الذي هو مرئي بالبصر، ومن هذا قول أبي ذؤيب: [الكامل]

فنكرنه فنفرن وامترست به ... هو جاء هادية وهاد جرشع

والذي خاف منه إبراهيم عليه السّلام ما يدل عليه امتناعهم من الأكل، فعرف من جاء بشر أن لا يأكل طعام المنزول به، وأَوْجَسَ معناه أحس في نفسه خيفة منهم، و «الوجيس» : ما يعتري النفس عند الحذر وأوائل الفزع، فأمنوه بقولهم: لا تَخَفْ وعلم أنهم الملائكة، ثم خرجت الآية إلى ذكر المرأة وبشارتها فقالت فرقة: معناه: قائِمَةٌ خلف ستر تسمع محاورة إبراهيم مع أضيافه، وقالت فرقة: معناه قائِمَةٌ في صلاة، وقال السد معناه قائِمَةٌ تخدم القوم، وفي قراءة ابن مسعود: «وهي قائمة وهو جالس» . وقوله فَضَحِكَتْ قال مجاهد: معناه: حاضت، وأنشد على ذلك اللغويون:

وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الجوق يوم اللقاء

وهذا القول ضعيف قليل التمكن، وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى: حاضت وقرره بعضهم، ويقال ضحك إذا امتلأ وفاض: ورد الزجّاج قول مجاهد، وقال الجمهور: هو الضحك المعروف، واختلف مم ضحكت؟ فقالت فرقة: ضحكت من تأمينهم لإبراهيم بقولهم: لا تَخَفْ. وقال قتادة: ضحكت هزؤا من قوم لوط أن يكونوا على غفلة وقد نفذ من أمر الله تعالى فيهم ما نفذ.

وقال وهب بن منبه: ضحكت من البشارة بإسحاق، وقال: هذا مقدم بمعنى التأخير، وقال محمد بن قيس: ضحكت لظنها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط قال القاضي: وهذا قول خطأ لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقد حكاه الطبري، وإنما ذكرته لمعنى التنبيه على فساده، وقالت فرقة: ضحكت من فزع إبراهيم من ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين من الرجال، وقيل: المائة. وقال السدي: ضحكت من أن تكون هي تخدم وإبراهيم يحفد ويسعى والأضياف لا يأكلون. وقيل: ضحكت سرورا بصدق ظنها، لأنها كانت تقول لإبراهيم، إنه لا بد أن ينزل العذاب بقوم لوط، وروي أن الملائكة مسحت العجل فقام حيا فضحكت لذلك.

وقرأ محمد بن زياد الأعرابي: «فضحكت» بفتح الحاء.

وامرأة إبراهيم هذه هي سارة بنت هارون بن ناحور، وهو إبراهيم بن آزر بن ناحور فهي ابنة عمه، وقيل: هي أخت لوط.

قال القاضي أبو محمد: وما أظن ذلك إلا أخوة القرابة لأن إبراهيم هو عم لوط فيما روي: وذكر الطبري أن إبراهيم لما قدم العجل قالوا له: إنّا لا نأكل طعاما إلا بثمن، فقال لهم: ثمنه أن تذكروا الله تعالى عليه في أول، وتحمدوه في آخر، فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا.

وقوله: فَبَشَّرْناها أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى إذ كان بأمره ووحيه، وبشر الملائكة سارة بِإِسْحاقَ وبأن إسحاق سيلد يعقوب، ويسمى ولد الولد من الوراء، وهو قريب من معنى وراء في الظروف إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده ورأي ابن عباس رجلا معه شاب، فقال له: من هذا؟ فقال له: ولد ولدي، فقال: هو ولدك من الوراء، فغضب الرجل، فذكر له ابن عباس الآية.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «يعقوب» بالرفع على الابتداء والخبر المقدم، وهو على هذا دخل في البشرى، وقالت فرقة: رفعه على القطع بمعنى: ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب، وعلى هذا لا يدخل في البشارة وقرأ ابن عامر وحمزة «يعقوب» بالنصب واختلف عن عاصم، فمنهم من جعله معطوفا على «إسحاق» إلا أنه لم ينصرف، واستسهل هذا القائل أن فرق بين حرف العطف والمعطوف بالمجرور، وسيبويه لا يجيز هذا إلا على إعادة حرف الجر، وهو كما تقول: مررت بزيد اليوم وأمس عمرو، فالوجه عنده: وأمس بعمرو، وإذا لم يعد ففيه كبير قبيح، والوجه في نصبه أن ينتصب بفعل مضمر، تدل عليه البشارة وتقديره: ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب، وهذا رجح أبو علي.

قال القاضي أبو محمد: وروي أن سارة كانت في وقت هذه البشارة بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة.

وهذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسماعيل وأنه أسن من إسحاق وذلك أن سارة كانت في وقت إخدام الملك الجائر هاجر أم إسماعيل امرأة شابة جميلة حسبما في الحديث، فاتخذها إبراهيم عليه السّلام أم ولد، فغارت بها سارة، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق وجاء من يومه مكة فتركهما- حسبما في السير- وانصرف إلى الشام من يومه ثم كانت البشارة بإسحاق، وسارة عجوز متجالة، وأما وجه دلالة الآية على أن إسحاق ليس بالذبيح فهو أن سارة وإبراهيم بشرا بإسحاق وأنه يولد له يعقوب، ثم أمر بالذبح حين بلغ ابنه معه السعي، فكيف يؤمر بذبح ولد قد بشر قبل أنه سيولد لابنه ذلك، وأيضا فلم يقع قط في أثر أن إسحاق دخل الحجاز وإجماع أن أمر الذبح كان بمنى، ويؤيد هذا الغرض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن الذبيحين» يريد أباه عبد الله وأباه إسماعيل، ويؤيده ما نزع به مالك رحمه الله من الاحتجاج برتبة سورة الصافات فإنه بعد كمال أمر الذبيح قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١١٢] .

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا كله موضع معارضات لقائل القول الآخر: إن الذبيح هو إسحاق، ولكن هذا الذي ذكرناه هو الأرجح والله أعلم.

قوله عز وجل:

٧٢

انظر تفسير الآية:٧٣

٧٣

قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)

اختلف الناس في الألف التي في قوله: يا وَيْلَتى وأظهر ما فيها أنها بدل ياء الإضافة، أضلها: يا ويلتي، كما تقول: يا غلاما ويا غوثا وقد تردف هذه الألف بهاء في الكلام، ولم يقرأ بها، وأمال هذه الألف عاصم والأعمش وأبو عمرو.

ومعنى يا وَيْلَتى في هذا الموضع العبارة عما دهم النفس من العجب في ولادة عجوز، وأصل هذا الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة أو مكروه يهم النفس، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس وقال قوم: إنما قالت: يا وَيْلَتى لما مر بفكرها من ألم الولادة وشدتها، ثم رجعت بفكرها إلى التعجب ونطقت بقولها أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ؟ الآية.

وقرأت فرقة: «أألد» بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بتخفيف الأولى وتحقيق الثانية، وفي النطق بهذه عسر، وقرأت فرقة: بتحقيق الأولى وتخفيف الثانية، والتخفيف هنا مدها، وقرأت فرقة «ءاألد» بتحقيق الهمزتين ومدة بينهما.

و «العجوز» المسنة، وقد حكى بعض الناس: أن العرب تقول: العجوزة، و «البعل» : الزوج، وشَيْخاً نصب على الحال وهي حال من مشار إليه لا يستغنى عنها لأنها مقصود الإخبار، وهي لا تصح إلا إذا لم يقصد المتكلم التعريف بذي الحال، مثل أن يكون المخاطب يعرفه وأما إذا قصد التعريف به لزم أن يكون التعريف في الخبر قبل الحال، وتجيء الحال على بابها مستغنى عنها، ومثال هذا قولك: هذا زيد قائما، إذا أردت التعريف بزيد. أو كان معروفا وأردت التعريف بقيامه، وأما إن قصد المتكلم أن زيديته إنما هي مادام قائما، فالكلام لا يجوز.

وقرأ الأعمش «هذا بعلي شيخ» ، قال أبو حاتم وكذلك في مصحف ابن مسعود، ورفعه على وجوه:

منها: أنه خبر بعد خبر كما تقول: هذا حلو حامض، ومنها: أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره: هو شيخ وروي أن بعض الناس قرأه: «وهذا بعلي هذا شيخ» ، وهذه القراءة شبيهة بهذا التأويل. ومنها: أنه بدل من بَعْلِي ومنها: أن يكون قولها بَعْلِي بدلا من هذا أو عطف بيان عليه، ويكون «شيخ» خبر هذا.

ويقال شيخ وشيخة- وبعض العرب يقول في المذكر والمؤنث شيخ. وروي أن سارة كانت وقت هذه المقالة من تسع وتسعين سنة، وقيل: من تسعين- قاله ابن إسحاق- وقيل من ثمانين وكذلك قيل في سن إبراهيم، إنه كان مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة سنة، وغير ذلك مما يحتاج إلى سند.

والضمير في قوله: قالُوا للملائكة، وقوله: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يحتمل أن يريد واحد الأمور، أي من الولادة في هذه السن، ويحتمل أن يريد مصدر أمر، أي مما أمر الله في هذه النازلة.

وقوله: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ يحتمل اللفظ أن يكون دعاء وأن يكون إخبارا، وكونه إخبارا أشرف، لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد. ونصب أَهْلَ الْبَيْتِ على الاختصاص- هذا مذهب سيبويه، ولذلك جعل هذا والنصب على المدح في بابين. كأنه ميز النصب على المدح بأن يكون المنتصب لفظا يتضمن بنفسه مدحا كما تقول: هذا زيد عاقل قومه، وجعل الاختصاص إذا لم تتضمن اللفظة ذلك، كقوله: إنا معاشر الأنبياء وإنا بني نهشل.

قال القاضي أبو محمد: ولا يكون الاختصاص إلا بمدح أو ذم، لكن ليس في نفس اللفظة المنصوبة.

وهذه الآية تعطي أن زوجة الرجل من أهل بيته لأنها خوطبت بهذا، فيقوى القول في زوجات النبي عليه السّلام بأنهن من أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس، بخلاف ما تذهب إليه الشيعة، وقد قاله أيضا بعض أهل العلم، قالوا: «أهل بيته» الذين حرموا الصدقة، والأول أقوى وهو ظاهر جلي من سورة الأحزاب لأنه ناداهن بقوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ [الأحزاب: ٣٢] ثم بقوله: أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: ٣٣] .

قال القاضي أبو محمد: ووقع في البخاري عن ابن عباس قال: أهل بيته الذين حرموا الصدقة بعده فأراد ابن عباس: أهل بيت النسب الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: إن الصدقة لا تحل لأهل بيتي إنما هي أوساخ الناس.

والْبَيْتِ في هذه الآية وفي سورة الأحزاب بيت السكنى ففي اللفظ اشتراك ينبغي أن يتحسس إليه. ففاطمة رضي الله عنها من أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم بالوجهين وعلي رضي الله عنه بالواحد، وزوجاته بالآخر، وأما الشيعة فيدفعون الزوجات بغضا في عائشة رضي الله عنها. وحَمِيدٌ أي أفعاله تقتضي أن يحمد، ومَجِيدٌ أي متصف بأوصاف العلو، ومجد الشيء إذا حسنت أوصافه.

قوله عز وجل:

٧٤

انظر تفسير الآية:٧٦

٧٥

انظر تفسير الآية:٧٦

٧٦

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)

الرَّوْعُ: الفزع والخيفة التي تقدم ذكرها، وكان ذهابه بإخبارهم إياه أنهم ملائكة. والْبُشْرى:

تحتمل أن يريد الولد، ويحتمل أن يريد البشرى بأن المراد غيره، والأول أبين. وقوله: يُجادِلُنا فعل مستقبل جائز أن يسد مسد الماضي الذي يصلح لجواب «لما» ، لا سيما والإشكال مرتفع بمضي زمان الأمر ومعرفة السامعين بذلك، ويحتمل أن يكون التقدير ظل أو أخذ ونحوه يجادلنا، فحذف اختصارا لدلالة ظاهر الكلام عليه، ويحتمل أن يكون قوله، يُجادِلُنا حالا من إِبْراهِيمَ أو من الضمير في قوله:

جاءَتْهُ، ويكون جواب «لما» في الآية الثانية: «قلنا: يا إبراهيم أعرض عن هذا» واختار هذا أبو علي، و «المجادلة» : المقابلة في القول والحجج، وكأنها أعم من المخاصمة فقد يجادل من لا يخاصم كإبراهيم.

وفي هذه النازلة وصف إبراهيم «بالحلم» قيل: إنه لم يغضب قط لنفسه إلا أن يغضب لله.

و «الحلم» : العقل إلا إذا انضاف إليه أناة واحتمال. وال أَوَّاهٌ معناه: الخائف الذي يكثر التأوه من خوف الله تعالى ويروى أن إبراهيم عليه السّلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية، قيل: كما تسمع أجنحة النسور وللمفسرين في «الأواه» عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته وتلزمه. وال مُنِيبٌ: الرجاع إلى الله تعالى في كل أمره.

وصورة جدال إبراهيم عليه السّلام كانت أن قال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أتعذبونهم؟ قالوا لا. قال: أفتسعون؟ قالوا لا. قال: أفثمانون؟ فلم يزل كذلك حتى بلغ خمسة ووقف عند ذلك وقد عد في بيت لوط امرأته فوجدهم ستة بها فطمع في نجاتهم ولم يشعر أنها من الكفرة، وكان ذلك من إبراهيم حرصا على إيمان تلك الأمة ونجاتها، وقد كثر اختلاف رواة المفسرين لهذه الأعداد في قول إبراهيم عليه السّلام، والمعنى كله نحو مما ذكرته، وكذلك ذكروا أن قوم لوط كانوا أربعمائة ألف في خمس قرى.

وقالت فرقة: المراد يُجادِلُنا في مؤمني قوم لوط- وهذا ضعيف- وأمره بالإعراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت في الكفرة حرصا عليهم، والمعنى: قلنا يا إبراهيم أعرض عن المجادلة في هؤلاء القوم والمراجعة فيهم، فقد نفذ فيهم القضاء، وجاءَ أَمْرُ رَبِّكَ الأمر هنا: واحد الأمور بقرينة وصفه بالمجيء، فإن جعلناه مصدر أمر قدرنا حذف مضاف، أي جاء مقتضى أمر ربك ونحو هذا وقوله آتِيهِمْ عَذابٌ ابتداء وخبر جملة في موضع خبر «إن» وقيل: آتِيهِمْ خبر «إن» فهو اسم فاعل معتمد، وعَذابٌ فاعل ب آتِيهِمْ.

وهذه الآية مقتضية أن الدعاء إنما هو أن يوفق الله الداعي إلى طلب المقدور، فأما الدعاء في طلب غير المقدور فغير مجد ولا نافع.

قوله عز وجل:

٧٧

انظر تفسير الآية:٨٠

٧٨

انظر تفسير الآية:٨٠

٧٩

انظر تفسير الآية:٨٠

٨٠

وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)

«الرسل» هنا هم الملائكة الذين كانوا أضياف إبراهيم عليه السّلام، وذلك أنهم لما خرجوا إلى بلد لوط- وبينه وبين قرية إبراهيم ثمانية أميال- وصلوه، فقيل: وجدوا لوطا في حرث له، وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم- وهي أكبر حواضر قوم لوط- فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليهم، فقالوا له:

نريد أن تضيفنا الليلة، فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا وما عملهم؟ فقال أشهد بالله لهم شر قوم في الأرض وقد كان الله عز وجل قال للملائكة: لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال لوط هذه قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل لوط بهم المدينة وحينئذ سِيءَ بِهِمْ أي أصابه سوء. وسِيءَ فعل بني للمفعول، و «الذرع» :

مصدر مأخوذ من الذراع، ولما كان الذراع موضع قوة الإنسان قيل في الأمر الذي لا طاقة له به: ضاق بهذا الأمر ذراع فلان، وذرع فلان، أي حيلته بذراعه، وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا: فلان رحب الذراع، إذا وصفوه باتساع القدرة ومنه قول الشاعر:

يا سيد ما أنت من سيد ... موطأ الأكناف رحب الذراع

وقوله: هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أشار به إلى ما كان يتخوفه من تعدي قومه على أضيافه واحتياجه إلى المدافعة مع ضعفه عنها، وعَصِيبٌ بناء اسم فاعل معناه: يعصب الناس بالشر كما يعصب الخابط السلمة إذا أراد خبطها ونفض ورقها، ومنه قول الحجاج في خطبته: ولأعصبنكم عصب السلمة، فهو من العصابة ثم كثر وصفهم اليوم بعصيب، ومنه قول الشاعر، وهو عدي بن زيد: [الوافر]

وكنت لزاز خصمك لم أعرد ... وقد سلكوك في يوم عصيب

ومنه قول الآخر: [الطويل]

فإنك إلا ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب

ف «عصيب» - بالجملة- في موضع شديد وصعب الوطأة، واشتقاقه كما ذكرنا.

وقوله تعالى: وَجاءَهُ قَوْمُهُ الآية، روي أن امرأة لوط الكافرة لما رأت، الأضياف ورأت جمالهم وهيئتهم خرجت حتى أتت مجالس قومها فقالت لهم: إن لوطا أضاف الليلة فتية ما ريء مثلهم جمالا وكذا وكذا، فحينئذ جاءوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، ومعناه يسرعون، والإهراع هو أن يسرع أمر بالإنسان حتى يسير بين الخبب والخمر، فهي مشية الأسير الذي يسرع به، والطامع المبادر إلى أمر يخاف فوته، ونحو هذا يقال هرع الرجل وأهرعه طمع أو عدو أو خوف ونحوه.

والقراءة المشهورة: «يهرعون» بضم الياء أي يهرعون الطمع، وقرأت فرقة: «يهرعون» بفتح الياء، من هرع، ومن هذه اللفظة قول مهلهل: [الوافر]

فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... تقودهم على رغم الأنوف

وقوله: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال، فجاءوا إلى الأضياف لذلك فقام إليهم لوط مدافعا، وقال: هؤُلاءِ بَناتِي فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا. وقالت فرقة: إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاؤه، روي هذا القول عن أبي عبيدة، وهو ضعيف، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة: أشار بقوله: بَناتِي إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: ٦] وهو أب لهم وأشار أيضا لوط- في هذا التأويل- إلى النكاح.

وقرأت فرقة- هي الجمهور- «هن أطهر» برفع الراء على خبر الابتداء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر ومحمد بن مروان وسعيد بن جبير: «أطهر» بالنصب قال سيبويه: هو لحن، قال أبو عمرو بن العلاء: احتبى فيه ابن مروان في لحنه، ووجهه عند من قرأ به النصب على الحال بأن يكون بَناتِي ابتداء وهُنَّ خبره، والجملة خبر هؤُلاءِ.

قال القاضي أبو محمد: وهو إعراب مروي عن المبرد، وذكره أبو الفتح وهو خطأ في معنى الآية، وإنما قوم اللفظ فقط والمعنى إنما هو في قوله: أَطْهَرُ وذلك قصد أن يخبر به فهي حال لا يستغنى عنها- كما تقدم في قوله: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] ، والوجه أن يقال: هؤُلاءِ بَناتِي ابتداء وخبر، وهُنَّ فصل وأَطْهَرُ حال وإن كان شرط الفصل أن يكون بين معرفتين ليفصل الكلام من النعت إلى الخبر، فمن حيث كان الخبر هنا في أَطْهَرُ ساغ القول بالفصل، ولما لم يستسغ ذلك أبو عمرو ولا سيبويه لحنا ابن مروان، وما كانا ليذهب عليهما ما ذكر أبو الفتح، و «الضيف» : مصدر يوصف به الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث ثم وبخهم بقوله: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي يزعكم ويردكم.

وقوله تعالى: قالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ الآية، روي أن قوم لوط كانوا قد خطبوا بنات لوط فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا، فلذلك قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ.

قال القاضي أبو محمد: وبعد أن تكون هذه المخاطبة، فوجه الكلام: إنا ليس لنا إلى بناتك تعلق، ولا هم قصدنا ولا لنا عادة نطلبها في ذلك وقولهم: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ، إشارة إلى الأضياف فلما رأى استمرارهم في غيهم وغلبتهم وضعفه عنهم قال- على جهة التفجع والاستكانة- لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً وأَنَّ في موضع رفع بفعل مضمر تقديره: لو اتفق أو وقع ونحو هذا، - وهذا مطرد في «أن» التابعة ل «لو» - وجواب لَوْ محذوف وحذف مثل هذا أبلغ، لأنه يدع السامعين ينتهي إلى أبعد تخيلاته، والمعنى لفعلت كذا وكذا.

وقرأ جمهور: «أو آوي» بسكون الياء، وقرأ شيبة وأبو جعفر: «أو آوي» بالنصب، التقدير أو أن آوي، فتكون «أن» مع «آوي» بتأويل المصدر، كما قالت ميسون بنت بحدل:

للبس عباءة وتقر عيني ...

ويكون ترتيب الكلام لو أن لي بكم قوة أو أويا، و «أوى» معناه: لجأ وانضوى، ومراد لوط عليه السّلام بال رُكْنٍ العشيرة والمنعة بالكثرة، وبلغ به قبيح فعلهم إلى هذا- مع علمه بما عند الله تعالى-، فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، فالعجب منه لما استكان.

قال القاضي أبو محمد: وهذا نقد لأن لفظ بهذه الألفاظ، وإلا فحالة النبي صلى الله عليه وسلم وقت طرح سلا الجزور ومع أهل الطائف وفي غير ما موطن تقتضي مقالة لوط لكن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ينطق بشيء من ذلك عزامة منه ونجدة، وإنما خشي لوط أن يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في الأضياف كما أمهلهم فيما قبل ذلك من معاصيهم، فتمنى ركنا من البشر يعاجلهم به، وهو يعلم أن الله تعالى من وراء عقابهم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يبعث الله تعالى بعد لوط نبيا إلا في ثروة من قومه» أي في منعة وعزة.

قوله عز وجل:

٨١

قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)

الضمير في قالُوا ضمير الملائكة، ويروى أن لوطا لما غلبوه وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قالت له الرسل: تنح عن الباب، فتنحى وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السّلام بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء النجاء، فعند لوط قوم سحرة، وتوعدوا لوطا، ففزع حينئذ من وعيدهم، فحينئذ قالوا له: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ فأمن، ذكر هذا النقاش وفي تفسير غيره ما يقتضي أن قولهم: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ كان قبل طمس العيون، ثم أمروه بالسرى وأعلموه أن العذاب نازل بالقوم، فقال لهم لوط: فعذبوهم الساعة، قالوا له: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي بهذا أمر الله، ثم أنسوه في قلقه بقولهم:

أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.

وقرأ نافع وابن كثير «فأسر» من سرى إذا سار في أثناء الليل، وقرأ الباقون «فاسر» إذا سار في أول الليل و «القطع» القطعة من الليل، ويحتمل أن لوطا أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع، ووقعت نجاته بسحر فتجتمع هذه الآية مع قوله: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر: ٣٤] وبيت النابغة جمع بين الفعلين في قوله: [البسيط]

أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد

فذهب قوم إلى أن سري وأسرى بمعنى واحد واحتجوا بهذا البيت.

قال القاضي أبو محمد: وأقول إن البيت يحتمل المعنيين، وذلك أظهر عندي لأنه قصد وصف هذه الديمة، وأنها ابتدأت من أول الليل وقت طلوع الجوزاء في الشتاء.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «إلا امرأتك» بالرفع على البدل من أَحَدٌ وهذا هو الأوجه إذا استثني من منفي، كقولك: ما جاءني أحد إلا زيد، وهذا هو استثناء الملتفتين، وقرأ الباقون «إلا أمرأتك» بالنصب، ورأت ذلك فرقة من النحاة الوجه في الاستثناء من منفي، إذ الكلام المنفي في هذا مستقل بنفسه كالموجب، فإذ هو مثله في الاستقلال، فحكمه كحكمه في نصب المستثنى وتأولت فرقة ممن قرأ: «إلا امرأتك» بالنصب أن الاستثناء وقع من الأهل كأنه قال: «فأسر بأهلك إلا امرأتك» . وعلى هذا التأويل لا يكون إلا النصب، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: لو كان الكلام: «ولا يلتفت» - بالرفع- لصح الرفع في قوله: «إلا أمرأتك» ولكنه نهي، فإذا استثنيت «المرأة» من أَحَدٌ وجب أن تكون «المرأة» أبيح لها الالتفات فيفسد معنى الآية.

قال القاضي أبو محمد: وهذا الاعتراض حسن، يلزم الاستثناء من أَحَدٌ رفعت التاء أو نصبت والانفصال عنه يترتب بكلام حكي عن المبرد، وهو أن النهي إنما قصد به لوط وحده، و «الالتفات» منفي عنهم بالمعنى، أي لا تدع أحدا منهم يلتفت، وهذا كما تقول لرجل: لا يقم من هؤلاء أحد إلا زيد، وأولئك لم يسمعوك، فالمعنى: لا تدع أحدا من هؤلاء يقوم والقيام بالمعنى منفي عن المشار إليهم.

قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا أن لفظ الآية هو لفظ قولنا: لا يقم أحد إلا زيد، ونحن نحتاج أن يكون معناها معنى قولنا: لا يقم أحد إلا زيد وذلك اللفظ لا يرجع إلى هذا المعنى إلا بتقدير ما حكيناه عن المبرد، فتدبره. ويظهر من مذهب أبي عبيد أن الاستثناء، إنما هو من الأهل. وفي مصحف ابن مسعود: «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» وسقط قوله: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. والظاهر في يَلْتَفِتْ أنها من التفات البصر، وقالت فرقة: هي من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه، فمعناه: ولا يتثبط. وهذا شاذ مع صحته وفي كتاب الزهراوي: أن المعنى: ولا يلتفت أحد إلى ما خلف، بل يخرج مسرعا مع لوط عليه السّلام: وروي أن امرأة لوط لما سمعت الهدة ردت بصرها وقالت:

وا قوماه، فأصابها حجر فقتلها.

وقرأت فرقة: «الصبح» بضم الباء.

قوله عز وجل:

٨٢

انظر تفسير الآية:٨٣

٨٣

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)

روي أن جبريل عليه السّلام أدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط واقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم أرسلها معكوسة، وأتبعهم الحجارة من السماء، وروي أن جبريل عليه السّلام أخذهم بخوافي جناحه: ويروى أن مدينة منها نجيت كانت مختصة بلوط عليه السّلام يقال لها: زغر.

وأَمْرُنا في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدرا من أمر ويكون في الكلام حذف مضاف تقديره مقتضى أمرنا، ويحتمل أن يكون واحد الأمور، والضمير في قوله: عالِيَها سافِلَها للمدن، وأجري أَمْطَرْنا عليها كذلك، والمراد على أهلها، وروي أنها الحجارة استوفت منهم من كانوا خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين. وروي أنه كان منهم في الحرم رجل فبقي حجره معلقا في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر، و «أمطر» أبدا إنما يستعمل في المكروه، ومطر يستعمل في المحبوب، هذا قول أبي عبيدة.

قال القاضي أبو محمد: وليس كذلك وقوله تعالى: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: ٢٤] يرد هذا القول لأنهم إنما ظنوه معتاد الرحمة، وقوله مِنْ سِجِّيلٍ اختلف فيه: فقال ابن زيد: سِجِّيلٍ: اسم السماء الدنيا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، ويرده وصفه ب مَنْضُودٍ. وقالت فرقة هو مأخوذ من لفظ السجل، أي هي من أمر كتب عليهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وقالت فرقة: هو مأخوذ من السجل إذا أرسل الشيء كما يرسل السجل وكما تقول: قالها مسجلة.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقالت فرقة: مِنْ سِجِّيلٍ معناه: من جهنم لأنه يقال:

سجيل وسجين حفظ فيها بدل النون لاما، كما قالوا: أصيلال وأصيلان. وقالت فرقة: سِجِّيلٍ معناه:

شديد وأنشد الطبري في ذلك [ابن مقبل] :

ضربا تواصى به الأبطال سجيلا والبيت في قصيدة نونية: سجينا، وقالت فرقة: سِجِّيلٍ لفظة أصلها غير عربت أصلها سنج وكل. وقيل غير هذا في أصل اللفظة. ومعنى هذا اللفظ ماء وطين. هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وغيرهم، وذهبت هذه الفرقة إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ كانت من طين قد تحجر- نص عليه الحسن-.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يشبه. وهو الصواب الذي عليه الجمهور. وقالت فرقة: معنى سِجِّيلٍ حجر مخلوط بطين أي حجر وطين. قال القاضي أبو محمد: ويمكن أن يرد هذا إلى الذي قبله، لأن الآجر وما جرى مجراه يمكن أن يقال فيه حجر وطين لأنه قد أخذ من كل واحد منهما بحظه. هي طين من حيث هو أصلها. وحجر من حيث صلبت.

ومَنْضُودٍ معناه بعضه فوق بعض. أي تتابع وهي صفة ل سِجِّيلٍ وقال الربيع بن أنس:

«نضده» : إنه في السماء منضود معد بعضه فوق بعض.

ومُسَوَّمَةً معناه معلمة بعلامة، فقال عكرمة وقتادة: إنه كان فيها بياض وحمرة: ويحكى أنه كان في كل حجر اسم صاحبه، وهذه اللفظة هي من سوم إذا أعلم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «سوموا فقد سومت الملائكة» . ويحتمل أن تكون مُسَوَّمَةً هاهنا بمعنى: مرسلة، وسومها من الهبوط.

وقوله وَما هِيَ إشارة إلى الحجارة. والظَّالِمِينَ قيل: يعني قريشا. وقيل: يريد عموم كل من اتصف بالظلم، وهذا هو الأصح لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة» ، وقد ورد أيضا حديث: «إن هذه الأمة بمنجاة من ذلك» . وقيل يعني ب هِيَ: المدن، ويكون المعنى: الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة- والأول أبين- وروي أن هذه البلاد كانت بين المدينة والشام، وحكى الطبري في تسمية هذه المدن: صيعة، وصعدة وعمزة، ودوما وسدوم وهي القرية العظمى.

قوله عز وجل:

٨٤

انظر تفسير الآية:٨٦

٨٥

انظر تفسير الآية:٨٦

٨٦

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)

التقدير: وَإِلى مَدْيَنَ أرسلنا أَخاهُمْ شُعَيْباً، واختلف في لفظة مَدْيَنَ فقيل: هي بقعة، فالتقدير على هذا: وإلى أهل مدين- كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يونس: ٤٢]- وقيل كان هذا القطر في ناحية الشام، وقيل مَدْيَنَ اسم رجل كانت القبيلة من ولده فسميت باسمه، ومَدْيَنَ لا ينصرف في الوجهين، حكى النقاش أن مَدْيَنَ هو ولد إبراهيم الخليل لصلبه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد وقد قيل: إن شُعَيْباً عربي، فكيف يجتمع هذا وليس للعرب اتصال بإبراهيم إلا من جهة إسماعيل فقط، ودعاء «شعيب» إلى «عبادة الله» يقتضي أنهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك بين من قولهم فيما بعد، وكفرهم هو الذي استوجبوا به العذاب لا معاصيهم، فإن الله لم يعذب قط أمة إلا بالكفر، فإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة، وأعني بالعذاب عذاب الاستئصال العام، وكانت معصية هذه الأمة الشنيعة أنهم كانوا تواطأوا أن يأخذوا ممن يرد عليهم من غيرهم وافيا ويعطوا ناقصا في وزنهم وكيلهم، فنهاهم شعيب بوحي الله تعالى عن ذلك، ويظهر من كتاب الزجاج أنهم كانوا تراضوا بينهم بأن يبخس بعضهم بعضا.

وقوله بِخَيْرٍ قال ابن عباس: معناه في رخص من الأسعار، و «عذاب اليوم المحيط» هو حلول الغلاء المهلك. وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق وقيل لهم قوله: بِخَيْرٍ عام في جميع نعم الله تعالى، و «عذاب اليوم» هو الهلاك الذي حل بهم في آخر، وجميع ما قيل في لفظ «خير» منحصر فيما قلناه.

ووصف «اليوم» ب «الإحاطة» وهي من صفة العذاب على جهة التجوز إذ كان العذاب في اليوم: وقد يصح أن يوصف «اليوم» ب «الإحاطة» على تقدير: محيط شره. ونحو هذا.

وكرر عليهم الوصية في «الكيل والوزن» تأكيدا وبيانا وعظة لأن لا تَنْقُصُوا هو أَوْفُوا بعينه.

لكنهما منحيان إلى معنى واحد.

قال القاضي أبو محمد: وحدثني أبي رضي الله عنه، أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يعظ الناس في الكيل والوزن فقال: اعتبروا في أن الإنسان إذا رفع يده بالميزان فامتدت أصابعه الثلاث والتقى الإبهام والسبابة على ناصية الميزان جاء من شكل أصابعه صورة المكتوبة فكأن الميزان يقول: الله الله.

قال القاضي أبو محمد: وهذا وعظ مليح مذكر. والقسط العدل ونحوه، و «البخس» النقصان، وتَعْثَوْا معناه: تسعون في فساد، وكرر مُفْسِدِينَ على جهة التأكيد، يقال عثا يعثو أو عثى يعثي، وعث يعث، وعاث يعيث- إذا أفسد ونحوه من المعنى، والعثة: الدودة التي تفسد ثياب الصوف.

وقوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ قال ابن عباس معناه الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن حير لكم مما تستكثرون أنتم به على غير وجهه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير يليق بلفظ الآية وقال مجاهد: معناه طاعة الله، وقال ابن عباس- أيضا- معناه رزق الله، وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية، وإنما المعنى عندي- إبقاء الله عليكم إن أطعتم.

وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة بتخفيف الياء وهي لغة.

وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط في أن تكون البقية خيرا لهم، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال، وجواب هذا الشرط، متقدم، و «الحفيظ» المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب، والمعنى:

إنما أنا مبلغ والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال.

قوله عز وجل:

٨٧

انظر تفسير الآية:٨٨

٨٨

قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)

قرأ جمهور الناس «أصلواتك» بالجمع، وقرأ ابن وثاب «أصلاتك» بالإفراد، وكذلك قرأ في براءة إِنَّ صَلاتَكَ [التوبة: ٩] وفي المؤمنين: عَلى صَلَواتِهِمْ [المؤمنون: ٩] كل ذلك بالإفراد.

واختلف في معنى «الصلاة» هنا، فقالت فرقة: أرادوا الصلوات المعروفة، وروي أن شعيبا عليه السّلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة. وقيل:

أرادوا قراءتك. وقيل أرادوا: أمساجدك؟ وقيل: أرادوا: أدعواتك.

قال القاضي أبو محمد: وأقرب هذه الأقوال الأول والرابع وجعلوا الأمر من فعل الصلوات على جهة التجوز، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع:

فمعنى هذا: ألما كنت مصليا تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل: أمرته، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: ٤٥] .

وقوله: أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا نص في أنهم كانوا يعبدون غير الله تعالى وقرأ جمهور الناس:

«نفعل» و «نشاء» بنون الجماعة فيهما وقرأ الضحاك بن قيس «تفعل» و «تشاء» بتاء المخاطبة فيهما: ورويت عن أبي عبد الرحمن: «نفعل» بالنون. «ما تشاء» بالتاء، ورويت عن ابن عباس. فأما من قرأ بالنون فيهما ف أَنْ الثانية عطف على ما لا على أَنْ الأولى، لأن المعنى يصير: أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ وهذا قلب ما قصدوه. وأما من قرأ بالتاء فيهما فيصح عطف أَنْ الثانية على ما لا على أَنْ الأولى، قال بعض النحويين، ويصح عطفها على ما ويتم المعنى في الوجهين.

قال القاضي أبو محمد: ويجيء نَتْرُكَ في الأول بمعنى نرفض، وفي الثاني بمعنى نقرر، فيتعذر عندي هذا الوجه لما ذكرته من تنوع الترك على الحكم اللفظي أو على حذف مضاف، ألا ترى أن الترك في قراءة من قرأ بالنون في الفعلين إنما هو بمعنى الرفض غير متنوع، وأما من قرأ بالنون في «نفعل» والتاء في «تشاء» ف أَنْ معطوفة على الأولى، ولا يجوز أن تنعطف على ما لأن المعنى- أيضا- ينقلب، فتدبره.

وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس، قاله محمد بن كعب وغيره، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم، وتؤول أيضا بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس.

واختلف في قولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فقيل: إنما كانت ألفاظهم: إنك لأنت الجاهل السفيه، فكنى الله عن ذلك وقيل: بل هذا لفظهم بعينه، إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء- قاله ابن جريج وابن زيد- وقيل المعنى: إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك. وقيل: بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه، فكأنهم فندوه، أي أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة، حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا إخوة القردة» ، يا محمد ما علمناك جهولا.

قال القاضي أبو محمد: والشبه بين الأمرين إنما هو المناسبة بين كلام شعيب وتلطفه، وبين ما بادر به محمد عليه السّلام بني قريظة.

وقوله تعالى: قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ، الآية، هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن واستدعاء رفيق ونحوها عن محاورة شعيب عليه السّلام، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك خطيب الأنبياء. وجواب الشرط الذي في قوله: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي محذوف تقديره: أأضل كما ضللتم وأترك تبليغ الرسالة؟ ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة؟ وبَيِّنَةٍ يحتمل أن تكون بمعنى: بيان أو بين، ودخلت الهاء للمبالغة- كعلامة- ويحتمل أن تكون صفة لمحذوف، فتكون الهاء هاء تأنيث.

وقوله: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً يريد: خالصا من الفساد الذي أدخلتم أنتم أموالكم. ثم قال لهم: ولست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن، فأستأثر بالمال لنفسي، وما أريد إلا إصلاح الجميع، وأُنِيبُ معناه: أرجع وأتوب وأستند.

قوله عز وجل:

٨٩

انظر تفسير الآية:٩٢

٩٠

انظر تفسير الآية:٩٢

٩١

انظر تفسير الآية:٩٢

٩٢

وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢)

لا يَجْرِمَنَّكُمْ معناه: لا يكسبنكم، يقال: جرمه كذا وكذا وأجرمه إذا أكسبه، كما يقال: كسب وأكسب بمعنى، ومن ذلك قول الشاعر:

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقرأ الجمهور «يجرمنكم» بفتح الياء، وقرأ الأعمش وابن وثاب «يجرمنكم» بضمها، وشِقاقِي معناه: مشاقتي وعداوتي، وأَنْ مفعولة ب يَجْرِمَنَّكُمْ.

وكانت قصة قوم لوط أقرب القصص عهدا بقصة قوم شعيب، وقد يحتمل أن يريد وما منازل قوم لوط منكم ببعيد، فكأنه قال: وما قوم لوط منكم ببعيد بالمسافة، ويتضمن هذا القول ضرب المثل لهم بقوم لوط.

وقرأ الجمهور «مثل» بالرفع على أنه فاعل يُصِبْكُمْ وقرأ مجاهد والجحدري وابن أبي إسحاق «مثل» بالنصب، وذلك على أحد وجهين: إما أن يكون «مثل» فاعلا، وفتحة اللام فتحة بناء لما أضيف لغير متمكن، فإن «مثل» قد يجري مجرى الظروف في هذا الباب وإن لم يكن ظرفا محضا.

وإما أن يقدر الفاعل محذوفا يقتضيه المعنى، ويكون «مثل» منصوبا على النعت لمصدر محذوف تقديره: إصابة مثل.

وقوله وَاسْتَغْفِرُوا الآية، تقدم القول في مثل هذا من ترتيب هذا الاستغفار قبل التوبة. ووَدُودٌ معناه: أن أفعاله ولطفه بعباده لما كانت في غاية الإحسان إليهم كانت كفعل من يتودد ويود المصنوع له.

وقوله تعالى: قالُوا: يا شُعَيْبُ الآية، نَفْقَهُ معناه: نفهم وهذا نحو قول قريش قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥] ومعنى: «ما نفقه ما تقول» أي ما نفقه صحة قولك، وأما فقههم لفظه ومعناه فمتحصل، وروي عن ابن جبير وشريك القاضي في قولهم: ضَعِيفاً أنه كان ضرير البصر أعمى، وحكى الزهراوي: أن حمير تقول للأعمى: ضعيف، كما يقال له: ضرير، وقيل: كان ناحل البدن زمنه.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف ولا تقوم عليه حجة بضعف بصره أو بدنه والظاهر من قولهم: ضَعِيفاً أنه ضعيف الانتصار والقدرة، وأن رهطه الكفرة كانوا يراعون فيه.

و «الرهط» جماعة الرجل، ومنه الراهطاء لأن اليربوع يعتصم به كما يفعل الرجل برهطه.

ولَرَجَمْناكَ قيل: معناه بالحجارة- وهو الظاهر وقاله ابن زيد- وقيل معناه: لَرَجَمْناكَ بالسب- وبه فسر الطبري. وهذا أيضا تستعمله العرب. ومنه قوله تعالى: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: ٤٦] ، وقولهم بِعَزِيزٍ أي بذي منعة وعزة ومنزلة في نفوسنا.

وقوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي الآية، «الظهري» الشيء الذي يكون وراء الظهرك، وقد يكون الشيء وراء الظهر بوجهين: في الكلام، إما بأن يطرح، كما تقول: جعلت كلامي وراء ظهرك ودبر أذنك ومنه قول الفرزدق:

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهر فلا يعيى عليّ جوابها

وإما بأن يسند إليه ويلجأ. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: «وألجأت ظهري إليك» فقال جمهور المتأولين في معنى هذه الآية أنه: واتخذتم الله ظهريا أي غير مراعى وراء الظهر على معنى الاطراح- ورجحه الطبري.

قال القاضي أبو محمد: وهو عندي على حذف مضاف ولا بد، وقال بعضهم: الضمير في قوله:

وَاتَّخَذْتُمُوهُ عائد على أمر الله وشرعه، إذ يتضمنه الكلام.

وقالت فرقة: المعنى: أترون رهطي أعز عليكم من الله وأنتم تتخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم.

قال القاضي أبو محمد: فقول الجمهور- على أن كان كفر قوم شعيب جحدا بالله تعالى وجهلا به.

وهذا القول الثاني- على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل ونحو هذا وهاتان الفرقتان موجودتان في الكفرة.

ومن اللفظة الاستظهار بالبيّنة، وقد قال ابن زيد: «الظهري» : الفضل، مثل الجمال يخرج معه بإبل ظهارية يعدها إن احتاج إليها وإلا فهي فضلة.

قال القاضي أبو محمد: هذا كله مما يستند إليه.

وقوله إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ خبر في ضمنه توعد. ومعناه محيط علمه وقدرته.

قوله عز وجل:

٩٣

انظر تفسير الآية:٩٥

٩٤

انظر تفسير الآية:٩٥

٩٥

وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)

عَلى مَكانَتِكُمْ معناه: على حالاتكم، وهذا كما تقول: مكانة فلان في العلم فوق مكانة فلان، يستعار من البقاع إلى المعاني.

وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعاصم: «مكانتكم» بالجمع، والجمهور على الإفراد.

وقوله: اعْمَلُوا تهديد ووعيد، وهو نحو قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وقوله: مَنْ يَأْتِيهِ يجوز أن تكون مَنْ مفعولة ب تَعْلَمُونَ والثانية عطف عليها، قال الفراء: ويجوز أن تكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء.

قال القاضي أبو محمد: الأول أحسن لأنها موصولة ولا توصل في الاستفهام، ويقضي بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة، والصحيح أن الوقف في قوله: إِنِّي عامِلٌ ثم ابتداء الكلام بالوعيد، ومَنْ معمولة ل تَعْلَمُونَ وهي موصولة.

وقوله: وَارْتَقِبُوا كذلك تهديد أيضا.

وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا الآية، «الأمر» هاهنا يصح أن يكون مصدر أمر ويصح أن يكون واحد الأمور. وقوله: بِرَحْمَةٍ مِنَّا إما أن يقصد الإخبار عن الرحمة التي لحقت شعيبا لنبوته وحسن عمله وعمل متبعيه، وإما أن يقصد أن النتيجة لم تكن إلا بمجرد رحمة لا بعمل من أعمالهم، وأما الصَّيْحَةُ فهي صيحة جبريل عليه السّلام، وروي أنه صاح بهم، صيحة جثم لها كل واحد منهم في مكانه حيث سمعها ميتا قد تقطعت حجب قلبه، و «الجثوم» أصله في الطائر إذا ضرب بصدره إلى الأرض، ثم يستعمل في غيره إذا كان منه بشبه.

وقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها الآية، الضمير في قوله: فِيها عائد على «الديار» ، ويَغْنَوْا معناه: يقيمون بنعمة وخفض عيش، ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل، وقوله: أَلا تنبيه للسامع، وقوله: بُعْداً مصدر، دعا به، وهذا كما تقول: سقيا لك ورعيا لك وسحقا للكافر ونحو هذا، وفارقت هذه قولهم: سلام عليك، لأن هذا كأنه إخبار عن شيء قد وجب وتحصل، وتلك إنما هي دعاء مترجى: ومعنى «البعد» - في قراءة من قرأ «بعدت» بكسر العين- الهلاك- وهي قراءة الجمهور ومنه قول خرنق بنت هفان: [الكامل]

لا يبعدن قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر

ومنه قول مالك بن الريب: [الطويل]

يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا

وأما من قرأ «بعدت» وهو السلمي وأبو حيوة- فهو من البعد الذي ضده القرب، ولا يدعى به إلا على مبغوض.

قوله عز وجل:

٩٦

انظر تفسير الآية:١٠٠

٩٧

انظر تفسير الآية:١٠٠

٩٨

انظر تفسير الآية:١٠٠

٩٩

انظر تفسير الآية:١٠٠

١٠٠

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)

«الآيات» : العلامات، و «السلطان» : البرهان والبيان في الحجة قيل: هو مشتق من السليط الذي يستضاء به، وقيل: من أنه مسلط على كل مناو ومخاصم، و «الملأ» : الجمع من الرجال والمعنى: أرسلناه إليهم ليؤمنوا بالله تعالى، فصدهم فرعون فاتبعوا أمره ولم يؤمنوا وكفروا، ثم أخبر تعالى عن أمر فرعون أنه ليس بِرَشِيدٍ أي ليس بمصيب في مذهبه ولا مفارق للسفاهة.

وقوله: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية، أخبر الله تعالى في هذه الآية عن فرعون أنه يأتي يوم القيامة مع قومه المغرقين معه، وهو يقدمهم إلى النار: وأوقع الفعل الماضي في فَأَوْرَدَهُمُ موقع المستقبل، لوضوح الأمر وارتفاع الإشكال عنه، ووجه الفصاحة من العرب في أنها تضع أحيانا الماضي موضع المستقبل أن الماضي أدل على وقوع الفعل وحصوله، و «الورود» في هذه الآية هو ورود الدخول وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: ٢٣] وقال ابن عباس: في القرآن أربعة أوراد: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] وقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: ٨٦] وهذه في مريم، وفي الأنبياء: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨] قال: وهي كلها ورد دخول، ثم ينجي الله الذين اتقوا والْمَوْرُودُ صفة لمكان الورد- على أن التقدير: وَبِئْسَ مكان الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ- وقيل: الْمَوْرُودُ ابتداء والخبر مقدم، والمعنى:

المورود بئس الورد.

وقوله: فِي هذِهِ يريد دار الدنيا، و «اللعنة» إبعادهم بالغرق والاستئصال وقبيح الذكر غابر الدهر، وقوله: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون أيضا بدخولهم في جهنم، قال مجاهد: فلهم لعنتان، وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا، وقبح إرفاد آخرا، وقوله: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العطاء المعطي لهم، والرِّفْدُ في كلام العرب: العطية وسمي العذاب هنا رفدا لأن هذا هو الذي حل محل الرفد، وهذا كما تقول: يا فلان لم يكن خيرك إلا أن تضربني أي لم يكن الذي حل محل الخير منك، والإرفاد: المعونة. ومنه رفادة قريش: معونتهم لفقراء الحج بالطعام الذي كانوا يطعمونه في الموسم.

وقوله: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الغيب الآية، ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة، و «الأنباء» الأخبار. والْقُرى يحتمل أن يراد بها القرى التي ذكرت في الآيات المتقدمة خاصة، ويحتمل أن يريد القرى عامة، أي هذه الأنباء المقصوصة عليك هي عوائد المدن إذا كفرت، فيدخل- على هذا التأويل- فيها المدن المعاصرة، ويجيء قوله: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ منها عامر ودائر، وهذا قول ابن عباس: وعلى التأويل الأول- في أنها تلك القرى المخصوصة- يكون قوله: قائِمٌ وَحَصِيدٌ بمعنى قائم الجدرات ومتهدم لا أثر له، وهذا قول قتادة وابن جريج، والآية بجملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكة وغيرهم.

قوله عز وجل:

١٠١

انظر تفسير الآية:١٠٥

١٠٢

انظر تفسير الآية:١٠٥

١٠٣

انظر تفسير الآية:١٠٥

١٠٤

انظر تفسير الآية:١٠٥

١٠٥

وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)

المعنى: وما وضعنا عندهم من التعذيب ما لا يستحقونه، لكنهم ظلموا أنفسهم بوضعهم الكفر موضع الإيمان، والعبادة في جنبة الأصنام، فما نفعتهم تلك الأصنام ولا دفعت عنهم حين جاء عذاب الله.

وال تَتْبِيبٍ الخسران، ومنه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] ومنه قول جرير: [الوافر]

عرابية من بقية قوم لوط ... ألا تبا لما فعلوا تبابا

وصورة زيادة الأصنام التتبيب، إنما يتصور: إما بأن تأهيلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم وصرفتها عن النظر في الشرع وعاقتها، فلحق عن ذلك عنت وخسران، وإما بأن عذابهم على الكفر يزاد إليه عذاب على مجرد عبادة الأوثان.

وقوله وَكَذلِكَ الإشارة إلى ما ذكر من الأحداث في الأمم، وهذه آية وعيد تعم قرى المؤمنين، فإن ظالِمَةٌ أعم من كافرة، وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة، وأما الظلمة- في الغالب فمعاجلون أما أنه يملى لبعضهم، وفي الحديث- من رواية أبي موسى- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية.

وقرأ أبو رجاء العطاردي وعاصم الجحدري «ربّك إذا أخذ القرى» وهي قراءة متمكنة المعنى ولكن قراءة الجماعة تعطي بقاء الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي.

وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً المعنى: أن في هذه القرى وما حل بها لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة وتوقع أن يناله عذابها فنظر وتأمل، فإن نظره يؤديه إلى الإيمان بالله تعالى، ثم عظم الله أمر يوم القيامة بوصفه بما تلبس بأجنبي منه للسبب المتصل بينهما، ويعود الضمير عليه، والنَّاسُ- على هذا- مفعول لم يسم فاعله، ويصح أن يكون النَّاسُ رفعا بالابتداء ومَجْمُوعٌ خبر مقدم.

وهذه الآية خبر عن الحشر، ومَشْهُودٌ عام على الإطلاق يشهده الأولون والآخرون من الإنس والملائكة والجن والحيوان، في قول الجمهور، وفيه- أعني الحيوان الصامت- اختلاف، وقال ابن عباس:

الشاهد: محمد عليه السّلام، و «المشهود» يوم القيامة.

وقوله: وَما نُؤَخِّرُهُ الآية، المعنى وما نؤخر يوم القيامة عجزا عن ذلك، لكن القضاء السابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

وقرأ الجمهور «نؤخره» بالنون، وقرأ الأعمش «يؤخره» بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة «يوم يأت» بحذف الياء من «يأتي» في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير بإثباتها في الوصل والوقف، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثباتها في الوصل وحذفها في الوقف، ورويت أيضا كذلك عن ابن كثير، والياء ثابتة في مصحف أبي بن كعب، وسقطت في إمام عثمان، وفي مصحف ابن مسعود «يوم يأتون» ، وقرأ بها الأعمش، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، وإثباتها في الوجهين هو الأصل، ووجه حذفها في الوصل التخفيف كما قالوا في لا أبال ولا أدر، وأنشد الطبري:

كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما

وقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ يصح أن تكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في «يأتي» وهو العائد على قوله: ذلِكَ يَوْمٌ، ولا يجوز أن يعود على قوله: «يوم يأتي» لأن اليوم المضاف إلى الفعل لا يكون فاعل ذلك الفعل، إذ المضاف متعرف بالمضاف إليه، والفعل متعرف بفاعله، وليس في نفسه شيئا مقصودا مستقلا دون الفاعل، وقولهم: سيد قومه ومولى أخيه وواحد أمه- مفارق لما لا يستقل، فلذلك جازت الإضافة فيها، ويكون قوله- على هذا- «يوم يأتي» في موضع الرفع بالابتداء وخبره: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وفي الكلام- على هذا- عائد محذوف تقديره: لا تكلم نفس فيه إلا، ويصح أن يكون قوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ صفة لقوله: «يوم يأتي» ، والخبر قوله: فَمِنْهُمْ، ويصح أن يكون قوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ، خبرا عن قوله: «يوم يأتي» .

وقوله: ذلِكَ يَوْمٌ يراد به اليوم الذي قبله ليلته، وقوله «يوم يأتي» يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه، فهو كما قال عثمان: إني رأيت ألا أتزوج يومي هذا، وكما قال الصديق رضي الله عنه: فإن الأمانة اليوم في الناس قليل.

ومعنى قوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وصف المهابة يوم القيامة وذهول العقل وهول القيامة، وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلاوم والتساؤل والتجادل، فإما أن يكون بإذن وإما أن تكون هذه هنا مختصة في تكلم شفاعة أو إقامة حجة، وقوله فَمِنْهُمْ عائد على الجميع الذي تضمنه قوله:

نَفْسٌ إذ هو اسم جنس يراد به الجمع.

قوله عز وجل:

١٠٦

انظر تفسير الآية:١٠٨

١٠٧

انظر تفسير الآية:١٠٨

١٠٨

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)

قوله: الَّذِينَ شَقُوا على بعض التأويلات في الاستثناء الذي في آخر الآية يراد به كل من يعذب من كافر وعاص- وعلى بعضها- كل من يخلد، وذلك لا يكون إلا في الكفرة خاصة.

وال زَفِيرٌ: صوت شديد خاص بالمحزون أو الوجع أو المعذب ونحوه، وال شَهِيقٌ كذلك.

كما يفعل الباكي الذي يصيح خلال بكائه، وقال ابن عباس: «الزفير» : صوت حاد. و «الشهيق» صوت ثقيل، وقال أبو العالية «الزفير» من الصدر و «الشهيق» من الحلق وقيل: بالعكس. وقال قتادة «الزفير» : أول صوت الحمار. و «الشهيق» : آخره. فصياح أهل النار كذلك. وقيل «الزفير» : مأخوذ من الزفر وهو الشدة، و «الشهيق» : من قولهم: جبل شاهق أي عال. فهما- على هذا المعنى- واحد أو متقارب، والظاهر ما قال أبو العالية: فإن الزفرة هي التي يعظم معها الصدر والجوف والشهقة هي الوقعة الأخيرة من الصوت المندفع معها النفس أحيانا، فقد يشهق المحتضر ويشهق المغشي عليه.

وأما قوله ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فقيل معناه أن الله تعالى يبدل السماوات والأرض يوم القيامة، ويجعل الأرض مكانا لجهنم والسماء مكانا للجنة، ويتأبد ذلك، فقرنت الآية خلود هؤلاء ببقاء هذه ويروى عن ابن عباس أنه قال: إن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة، فلهما ثم بقاء دائم، وقيل معنى قوله ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول: لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر، وما ناح الحمام وما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، ونحو هذا مما يريدون به طولا من غير نهاية، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض.

وأما قوله: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فقيل فيه: إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على نحو قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ- إِنْ شاءَ اللَّهُ- آمِنِينَ [الفتح: ٢٧] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قال: إن شاء الله، فليس يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا بمنقطع، ويؤيد هذا قوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقيل: هو استثناء من طول المدة، وذلك على ما روي من أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتغلق أبوابها فهم- على هذا- يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مختل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمي جهنم، وسمي الكل به تجوزا.

وقيل: إنما استثنى ما يلطف الله تعالى به للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار، فيجيء قوله: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أي لقوم ما، وهذا قول قتادة والضحاك وأبي سنان وغيرهم، وعلى هذا فيكون قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا عاما في الكفرة والعصاة- كما قدمنا- ويكون الاستثناء من خالِدِينَ، وقيل: إِلَّا بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاء الله زائدا على ذلك، ونحو هذا قول الشاعر: [الوافر]

وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال القاضي أبو محمد: وهذا البيت يصح الاستشهاد به على معتقدنا في فناء الفرقدين وغيرهما من العالم، وأما إن كان قائله من دهرية العرب فلا حجة فيه، إذ يرى ذلك مؤبدا فأجرى «إلا» على بابها.

وقيل إِلَّا في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع، كما تقول: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك، فكأنه قال: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ سوى ما شاء الله زائدا على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب «سوى» وسيبويه يقدره ب «لكن» وقيل سوى ما أعده لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير ونحوه، وقيل استثناء من مدة السماوات: المدة التي فرطت لهم في الحياة الدنيا وقيل في البرزخ بين الدنيا والآخرة وقيل: في المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولهم إنما هو زمرا بعد زمر وقيل: الاستثناء من قوله: فَفِي النَّارِ كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نضرة عن جابر أو عن أبي سعيد الخدري.

ثم أخبر منبها على قدرة الله تعالى بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم- في رواية أبي بكر- «سعدوا» بفتح السين، وهو فعل لا يتعدى وقرأ حمزة والكسائي وعاصم- في رواية حفص- «سعدوا» بضم السين، وهي شاذة ولا حجة في قولهم: مسعود، لأنه مفعول من أسعد على حذف الزيادة كما يقال: محبوب، من أحب، ومجنون من أجنه الله، وقد قيل في مسعود: إنما أصله الوصف للمكان، يقال: مكان مسعود فيه ثم نقل إلى التسمية به وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول: سعده الله بمعنى أسعده. وبضم السين قرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش.

والأقوال المترتبة في استثناء التي قبل هذه تترتب هاهنا إلا تأويل من قال: هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم، فإنه لا يترتب مثله في هذه الآية، ويزيد هنا قول: أن يكون الاستثناء في المدة التي يقيمها العصاة في النار ولا يترتب أيضا تأويل من قال في تلك: إن الاستثناء هو من قوله: فَفِي النَّارِ.

وقوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، نصب على المصدر، و «المجذوذ» : المقطوع. و «الجذ» : القطع وكذلك «الجد» وكذلك «الحز» .

قوله عز وجل:

١٠٩

انظر تفسير الآية:١١١

١١٠

انظر تفسير الآية:١١١

١١١

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)

لفظ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى له ولأمته، ولم يقع لأحد شك فيقع عنه نهي ولكن من فصاحة القول في بيان ضلالة الكفرة إخراجه في هذه العبارة، أي حالهم أوضح من أن يمترى فيها، وال مِرْيَةٍ: الشك، وهؤُلاءِ إشارة إلى كفار العرب عبدة الأصنام ثم قال: ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ. المعنى: أنهم مقلدون لا برهان عندهم ولا حجة، وإنما عبادتهم تشبها منهم بآبائهم لا عن بصيرة وقوله: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ وعيد، ومعناه: العقوبة التي تقتضيها أعمالهم، ويظهر من قوله: غَيْرَ مَنْقُوصٍ أن على الأولين كفلا من كفر الآخرين.

وقرأ الجمهور «لموفّوهم» بفتح الواو وشد الفاء، وقرأ ابن محيصن «لموفوهم» بسكون الواو وتخفيف الفاء.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ الآية، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر قصة موسى مثل له، أي لا يعظم عليك أمر من كذبك، فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى، بكتاب فاختلف الناس عليه.

وقوله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى آخر الآية، يحتمل أن يريد به أمة موسى، ويحتمل أن يريد به معاصري محمد عليه السّلام وأن يعمهم اللفظ أحسن- عندي- ويؤكد ذلك قوله: وَإِنَّ كُلًّا و «الكلمة» هاهنا عبارة عن الحكم والقضاء والمعنى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفصل بين المؤمن والكافر، بنعيم هذا وعذاب هذا.... ووصف «الشك» بالمريب تقوية لمعنى الشك.

وقرأ الكسائي وأبو عمرو: «وإنّ كلّا لما» بتشديد النون وتخفيف الميم من لَمَّا وقرأ ابن كثير ونافع بتخفيفهما، وقرأ حمزة بتشديدهما، وكذلك حفص عن عاصم وقرأ عاصم- في رواية أبي بكر- بتخفيف «إن» وتشديد الميم من «لمّا» وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: «وإن كلّا لمّا» بتشديد الميم وتنوينها.

وقرأ الحسن بخلاف: «وإن كلّ لما» بتخفيف «إن» ورفع «كلّ» وشد «لمّا» وكذلك قرأ أبان بن تغلب إلا أنه خفف «لما» ، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود «وإن كل إلا ليوفينهم» وهي قراءة الأعمش، قال أبو حاتم:

الذي في مصحف أبيّ: «وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم» . فأما الأول ف «إن» فيها على بابها، و «كلّا» اسمها، وعرفها أن تدخل على خبرها لام. وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضا على خبر «إن» فلما اجتمع لامان فصل بينهما ب «ما» - هذا قول أبي علي- والخبر في قوله لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وقال بعض النحاة: يصح أن تكون «ما» خبر «إن» وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف، فهي بمنزلة من، كأنه قال: وإن كلّا لخلق ليوفينهم ورجح الطبري هذا واختاره، اما أنه يلزم القول أن تكون «ما» موصوفة إذ هي نكرة، كما قالوا:

مررت بما معجب لك، وينفصل بأن قوله: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ يقوم معناه مقام الصفة، لأن المعنى: وإن كلّا لخلق موفى عمله، وأما من خففها- وهي القراءة الثانية في ترتيبنا فحكم «إن» وهي مخففة حكمها مثقلة، وتلك لغة فصيحة، حكى سيبويه أن الثقة أخبره: أنه سمع بعض العرب يقول: إن عمرا لمنطلق وهو نحو قول الشاعر:

ووجه مشرق النحر ... كأن ثدييه حقان

رواه أبو زيد.

ويكون القول في فصل «ما» بين اللامين حسبما تقدم، ويدخلها القول الآخر من أن تكون «ما» خبر «إن» وأما من شددهما أو خفف «إن» وشدد «الميم» ففي قراءتيهما إشكال، وذلك أن بعض الناس قال: إن «لما» بمعنى إلا، كما تقول: سألتك لما فعلت كذا وكذا بمعنى إلا فعلت قال أبو علي: وهذا ضعيف لأن «لما» هذه لا تفارق القسم، وقال بعض الناس: المعنى لمن ما أبدلت النون ميما، وأدغمت في التي بعدها فبقي «لمما» فحذفت الأولى تخفيفا لاجتماع الأمثلة، كما قرأ بعض القراء وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ [النحل: ٩٠] به بحذف الياء مع الياء وكما قال الشاعر:

وأشمت العداة بنا فأضحوا ... لدى يتباشرون بما لقينا

قال أبو علي وهذا ضعيف وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله: أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: ٤٨] ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا.

قال القاضي أبو محمد: وقال بعض الناس أصلها: لمن ما، ف «من» خبر «إن» و «ما» زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله: لمن ما، ف «ما» هي الخبر دخلت عليها «من» على حد دخولها في قول الشاعر:

وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم

وقالت فرقة «لما» أصلها «لما» منونة، والمعنى: وإن كلا عاما حصرا شديدا، فهو مصدر لم يلم، كما قال: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا «لَمًّا» [الفجر: ١٩] أي شديدا قالت: ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرىء: تترى.

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، حكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في «لما» ، قال أبو علي: وأما من قرأ «لمّا» بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا، وأما من قرأ: «وإن كل لما» فهي المخففة من الثقيلة، وحقها- في أكثر لسان العرب- أن يرتفع ما بعدها، و «لما» هنا بمعنى إلا، كما قرأ جمهور القراء: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: ٤] . ومن قرأ «إلا» مصرحة فمعنى قراءته واضح، وهذه الآية وعيد.

وقرأ الجمهور: «يعملون» بياء على ذكر الغائب، وقرأ الأعرج «تعملون» بتاء على مخاطبة الحاضر.

قوله عز وجل:

١١٢

انظر تفسير الآية:١١٥

١١٣

انظر تفسير الآية:١١٥

١١٤

انظر تفسير الآية:١١٥

١١٥

فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)

أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنسانا بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر، ولسائر أمته بالمعنى، وروي أن بعض العلماء رأي النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها فما الذي شيبك من هود؟

قال له: قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ.

قال القاضي أبو محمد: والتأويل المشهور في قوله عليه السّلام: شيبتني هود وأخواتها- أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه السّلام.

وقوله: أُمِرْتَ مخاطبة تعظيم، وقوله: وَمَنْ معطوف على الضمير في قوله: فَاسْتَقِمْ، وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله: كَما أُمِرْتَ. ولا تَطْغَوْا معناه: ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى، و «الطغيان» : تجاوز الحد ومنه قوله: طَغَى الْماءُ [الحاقة: ١١] وقوله في فرعون: إِنَّهُ طَغى [طه: ٢٤- ٤٣، النازعات: ١٧] ، وقيل في هذه معناه: ولا تطغينكم النعم، وهذا كالأول.

وقرأ الجمهور «تعملون» بتاء، وقرأ الحسن والأعمش «يعملون» بياء من تحت- وقرأ الجمهور: «ولا تركنوا» بفتح الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة والأشهب العقيلي وأبو عمرو- فيما روى عنه هارون- بضمها، وهو لغة، يقال: ركن يركن وركن يركن، ومعناه السكون، إلى الشيء والرضا به قال أبو العالية:

«الركون» : الرضا. قال ابن زيد: «الركون» : الإدمان.

قال القاضي أبو محمد: فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، والَّذِينَ ظَلَمُوا هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.

وقرأ الجمهور «فتمسكم» ، وقرأ يحيى وابن وثاب وعلقمة والأعمش وابن مصرف وحمزة- فيما روي عنه- «فتمسكم» بكسر التاء وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب، وقد جاء في الياء ييجل وييبى، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر.

وقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ الآية، لم يختلف أحد في أن الصَّلاةَ في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، واختلف في طَرَفَيِ النَّهارِ وزلف الليل فقيل: الطرف الأول الصبح، والثاني الظهر والعصر والزلف المغرب والعشاء، قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المغرب والعشاء: «هما زلفتا الليل» . وقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر، قاله الحسن وقتادة والضحاك، والزلف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول- بل هي في غيرها، وقيل الطرفان: الصبح والمغرب- قاله ابن عباس والحسن- أيضا- والزلف: العشاء، وليست في الآية الظهر والعصر. وقيل: الطرفان: الظهر والعصر، والزلف: المغرب والعشاء والصبح.

قال القاضي أبو محمد: كأن هذا القائل راعى جهر القراءة، والأول أحسن هذه الأقوال عندي ورجح الطبري أن الطرفين: الصبح والمغرب، وأنه الظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى.

وقرأ الجمهور «زلفا» بفتح اللام، وقرأ طلحة بن مصرف وابن محيصن وعيسى وابن إسحاق وأبو جعفر: «زلفا» بضم اللام كأنه اسم مفرد. وقرأ «زلفا» بسكون اللام مجاهد، وقرأ أيضا: «زلفى» على وزن- فعلى- وهي قراءة ابن محيصن. والزلف: الساعات القريب بعضها من بعض. ومنه قول العجاج: [الرجز]

ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا وقوله إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن الْحَسَناتِ يراد بها الصلوات الخمس- وإلى هذه الآية ذهب عثمان- رضي الله عنه- عند وضوئه على المقاعد وهو تأويل مالك، وقال مجاهد: الْحَسَناتِ: قول الرجل: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر.

قال القاضي أبو محمد: وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية لفظ عام في الحسنات خاص في السيئات بقوله عليه السّلام: «ما اجتنبت الكبائر» .

وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، قيل: هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة فقبلها وتلذّذ بها فيما دون الجماع، ثم جاء إلى عمر فشكا إليه، فقال: قد ستر الله عليك فاستر على نفسك، فقلق الرجل فجاء أبا بكر فشكا إليه، فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى معه، ثم أخبره وقال: اقض فيّ ما شئت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلها زوجة غاز في سبيل الله، قال: نعم، فوبخه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أدري، فنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه: فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله خاصة؟

قال: بل للناس عامة. وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ.

قال القاضي أبو محمد: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان- كفارة لما بينها إن اجتنبت الكبائر» . فاختلف أهل السنة في تأويل هذا الشرط في قوله: «إن اجتنبت الكبائر» ، فقال جمهورهم: هو شرط في معنى الوعد كله، أي إن اجتنبت الكبائر كانت العبادات المذكورة كفارة للذنوب، فإن لم تجتنب لم تكفر العبادات شيئا من الصغائر. وقالت فرقة: معنى قوله إن اجتنبت: أي هي التي لا تحطها العبادات، فإنما شرط ذلك ليصح بشرطه عموم قوله: ما بينهما، وإن لم تحطها العبادات وحطت الصغائر.

قال القاضي أبو محمد: وبهذا أقول وهو الذي يقتضيه حديث خروج الخطايا مع قطر الماء وغيره وذلك كله بشرط التوبة من تلك الصغائر وعدم الإصرار عليها، وهذا نص الحذاق الأصوليين. وعلى التأويل الأول تجيء هذه مخصوصة في مجتنبي الكبائر فقط.

وقوله ذلك إشارة إلى الصلوات، ووصفها ب ذِكْرى، أي هي سبب ذكر وموضع ذكرى، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الإخبار ب إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، فتكون هذه الذكرى تحض على الحسنات، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه السورة، وهو تفسير الطبري.

ثم أمره تعالى بالصبر، وجاءت هذه الآيات في نمط واحد: أعلمه الله تعالى أنه يوفي جميع الخلائق أعمالهم المسيء والمحسن، ثم أمره بالاستقامة والمؤمنين معه، ثم أمره بإقامة الصلوات ووعد على ذلك ثم أمره بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله تعالى، ثم وعد بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

قوله عز وجل:

١١٦

انظر تفسير الآية:١١٧

١١٧

فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)

لولا هي التي للتحضيض- لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد، وهذا نحو قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠] ، والْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ هم قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره، والقرن من الناس: المقترنون في زمان طويل أكثره- فيما حد الناس- مائة سنة، وقيل ثمانون وقيل غير ذلك إلى ثلاثين سنة والأول أرجح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن إلى رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» .

قال ابن عمر: يريد أنها تخرم ذلك القرن وبَقِيَّةٍ هنا يراد بها النظر والعقل والحزم والثبوت في الدين، وإنما قيل: بَقِيَّةٍ لأن الشرائع والدول ونحوها- قوتها في أولها ثم لا تزال تضعف فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول.

وقرأت فرقة: «بقية» بتخفيف الياء وهو رد فعيلة إلى فعلة، وقرأ أبو جعفر وشيبة «بقية» بضم الباء وسكون القاف على وزن فعلة.

والْفَسادِ فِي الْأَرْضِ هو الكفر وما اقترن به من المعاصي، وهذه الآية فيها تنبيه لأمة محمد وحض على تغيير المنكر والنهي عن الفساد ثم استثنى الله تعالى القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم. وقَلِيلًا نصب على الاستثناء وهو منقطع عند سيبويه، والكلام عنده موجب، وغيره يراه منفيا من حيث معناه أنه لم يكن فيهم أولو بقية.

وقرأ جمهور الناس «واتبع» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ حفص بن محمد: «واتبع» على بنائه للمفعول، ورويت عن أبي عمرو.

وما أُتْرِفُوا فِيهِ أي عاقبة ما نعموا به- على بناء الفعل للمفعول- والمترف: المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك ومنه قول الشاعر:

تحيي رؤوس المترفين الصداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد

يريد المسئول، يقال ماده: إذا سأله. وقوله: بِظُلْمٍ، يحتمل أن يريد بظلم منه لهم- تعالى عن ذلك- قال الطبري: ويحتمل أن يريد: بشرك منهم، وهم مصلحون في أعمالهم وسيرهم، وعدل بعضهم في بعض، أي أنهم لا بد من معصية تقترن بكفرهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قيل إن الله تعالى يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متجها، أي ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان، والاحتمال الأول في ترتيبنا أصح إن شاء الله.

قوله عز وجل:

١١٨

انظر تفسير الآية:١١٩

١١٩

وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)

المعنى: لجعلهم أمة واحدة مؤمنة- قاله قتادة- حتى لا يقع منهم كفر ولا تنزل بهم مثلة، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل- هذا تأويل الجمهور- قال الحسن وعطاء ومجاهد وغيرهم: المرحومون المستثنون هم المؤمنون ليس عندهم اختلاف. وقالت فرقة: لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في السعادة والشقاوة، وهذا قريب المعنى من الأول إذ هي ثمرة الأديان والاختلاف فيها، ويكون الاختلاف- على هذا التأويل- يدخل فيه المؤمنون إذ هم مخالفون للكفرة وقال الحسن أيضا: لا يزالون مختلفين في الغنى والفقر.

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول بعيد معناه من معنى الآية، ثم استثنى الله تعالى من الضمير في يَزالُونَ من رحمه من الناس بأن هداه إلى الإيمان ووفقه له.

وقوله: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ اختلف فيه المتأولون، فقالت فرقة: ولشهود اليوم المشهود- المتقدم ذكره- خلقهم، وقالت فرقة: ذلك إشارة إلى قوله- قبل- فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: ١٠٥] أي لهذا خلقهم.

قال القاضي أبو محمد: وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد وروى أشهب عن مالك أنه قال: ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.

قال القاضي أبو محمد: فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين: الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ويجيء- عليه- الضمير في خَلَقَهُمْ للصنفين وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ، أي وللرحمة خلق المرحومين، قال الحسن، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.

قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا بأن يقال: كيف خلقهم للاختلاف؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم؟ فالوجه في الانفصال أن نقول: إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقا للسعادة وخلقا للشقاوة، ثم يسر كلّا لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب، فيصح أن يحمل قوله هنا وللاختلاف خلقهم: أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة. ويصح أن يجعل اللام في قوله: وَلِذلِكَ لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك، وإن لم يقصد بهم الاختلاف.

قال القاضي أبو محمد: ومعنى قوله وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] أي لآمرهم بالعبادة، وأوجبها عليهم، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه.

وقوله، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي نفذ قضاؤه وحق أمره، واللام في لَأَمْلَأَنَّ لام قسم إذ «الكلمة» تتضمن القسم. و «الجن» جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و «الهاء» في بِالْجَنَّةِ للمبالغة. وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه.

قوله عز وجل:

١٢٠

انظر تفسير الآية:١٢٣

١٢١

انظر تفسير الآية:١٢٣

١٢٢

انظر تفسير الآية:١٢٣

١٢٣

وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)

قوله: وَكُلًّا مفعول مقدم ب نَقُصُّ وقيل: هو منصوب على الحال، وقيل على المصدر.

قال القاضي أبو محمد: وهذان ضعيفان، وما بدل من قوله: كُلًّا، ونُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي نؤنسك فيما تلقاه، ونجعل لك الأسوة في من تقدمك من الأنبياء، وقوله: فِي هذِهِ قال الحسن: هي إشارة إلى دار الدنيا، وقال ابن عباس: إلى السورة والآيات التي فيها ذكر قصص الأمم، وهذا قول الجمهور.

قال القاضي أبو محمد: ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها ب الْحَقُّ- والقرآن كله حق- أن ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر، أي جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة، وهذا كما يقال عند الشدائد: جاء الحق وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه، ولا يستعمل في ذلك: جاء الحق، ثم وصف أيضا أن ما تضمنته السورة هي مَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فهذا يؤيد أن لفظة الْحَقُّ إنما تختص بما تضمنت من وعيد للكفرة.

وقوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ الآية، هذه آية وعيد، أي اعْمَلُوا على حالاتكم التي أنتم عليها من كفركم.

وقرأ الجمهور هنا: مَكانَتِكُمْ واحدة دالة على جمع وألفاظ هذه الآية تصلح للموادعة، وتصلح أن تقال على جهة الوعيد المحض والحرب قائمة.

وقوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية، هذه آية تعظم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه، وهو علم الغيب، وتبيين أن الخير والشر، وجليل الأشياء وحقيرها- مصروف إلى أحكام مالكه، ثم أمر البشر بالعبادة والتوكل على الله تعالى، وفيها زوال همه وصلاحه ووصوله إلى رضوان الله.

وقرأ السبعة- غير نافع- «يرجع الأمر» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ نافع وحفص عن عاصم: «يرجع الأمر» على بنائه للمفعول ورواها ابن أبي الزناد عن أهل المدينة، وقرأ «تعملون» بالتاء من فوق، نافع وابن عامر وحفص عن عاصم، وهي قراءة الأعرج والحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمرو وقتادة والجحدري، واختلف عن الحسن وعيسى، وقرأ الباقون «يعلمون» بالياء على كناية الغائب.

﴿ ٠