{ولقد همَّت به} قصدت منه الجماع {وهم بها} قصد ذلك {لولا أن رأى برهان ربه} قال ابن عباس مَثُلَ له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، وجواب لولا لجامعها {كذلك} أريناه البرهان {لنصرف عنه السوء} الخيانة {والفحشاء} الزنا {إنه من عبادنا المخلصين} في الطاعة، وفي قرأءة بكسر اللام أي المختارين ٢٥بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة يوسفهذه السورة مكية، ويروى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة بسبب ذلك ويروى أن اليهود أمروا كفار مكة أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت السورة وقيل: سبب نزولها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعل إخوة يوسف بيوسف، وسورة يوسف لم يتكرر من معناها في القرآن شيء كما تكررت قصص الأنبياء، ففيها حجة على من اعترض بأن الفصاحة تمكنت بترداد القول، وفي تلك القصص حجة على من قال في هذه: لو كررت لفترت فصاحتها. قوله عز وجل: ١انظر تفسير الآية:٣ ٢انظر تفسير الآية:٣ ٣الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) تقدم القول في فواتح السور، والْكِتابِ القرآن، ووصفه ب الْمُبِينِ قيل: من جهة أحكامه وحلاله وحرامه، وقيل: من جهة مواعظة وهداه ونوره، وقيل: من جهة بيان اللسان العربي وجودته إذ فيه ستة أحرف لم تجتمع في لسان- روي هذا القول عن معاذ بن جبل- ويحتمل أن يكون مبينا لنبوة محمد بإعجازه. والصواب أنه «مبين» بجميع هذه الوجوه. والضمير في قوله: أَنْزَلْناهُ ل الْكِتابِ، والإنزال: إما بمعنى الإثبات، وإما أن تتصف به التلاوة والعبارة وقال الزجاج: الضمير في أَنْزَلْناهُ يراد به خبر يوسف. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقوله: لَعَلَّكُمْ يحتمل أن تتعلق ب أَنْزَلْناهُ أي أنزلناه لعلكم، ويحتمل أن تتعلق بقوله: عَرَبِيًّا أي جعلناه عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، إذ هو لسانكم. وقُرْآناً حال، وعَرَبِيًّا صفة له، وقيل: إن قُرْآناً بدل من الضمير- وهذا فيه نظر- وقيل: قُرْآناً توطئة للحال وعَرَبِيًّا حال، وهذا كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، وقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ الآية، روى ابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا: لو قصصت علينا يا رسول الله، فنزلت هذه الآية، ثم ملوا ملة أخرى فقالوا: لو حدثتنا يا رسول الله، فنزلت اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً [الزمر: ٢٣] . والْقَصَصِ: الإخبار بما جرى من الأمور، كأن الأنباء تتبع بالقول، وتقتص بالأخبار كما يقتص الآخر، وقوله: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي بوحينا. والْقُرْآنَ نعت ل هذَا، ويجوز فيه البدل، وعطف البيان فيه ضعيف. وإِنْ هي المخففة من الثقيلة واللام في خبرها لام التأكيد- هذا مذهب البصريين- ومذهب أهل الكوفة أن إِنْ بمعنى ما، واللام بمعنى إلا. والضمير في قَبْلِهِ للقصص العام لما في جميع القرآن منه. ومن الْغافِلِينَ، أي عن معرفة هذا القصص. ومن قال: إن الضمير في قَبْلِهِ عائد على الْقُرْآنَ، جعل من الْغافِلِينَ في معنى قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: ٧] أي على طريق غير هذا الدين الذي بعثت به، ولم يكن عليه السّلام في ضلال الكفار ولا في غفلتهم لأنه لم يشرك قط، وإنما كان مستهديا ربه عز وجل موحدا، والسائل عن الطريق المتخير يقع عليه في اللغة اسم ضال. قوله عز وجل: ٤إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) العامل في إِذْ فعل مضمر تقديره: اذكر إِذْ ويصح أن يعمل فيه نَقُصُّ [يوسف: ٣] كأن المعنى: نقص عليك الحال إِذْ وحكى مكي أن العامل فيه لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: ٣] ، وهذا ضعيف. وقرأ طلحة بن مصرف «يوسف» بالهمز وفتح السين- وفيه ست لغات: «يوسف» بضم الياء وسكون الواو وبفتح السين وبضمها وبكسرها وكذلك بالهمز. وقرأ الجمهور «يا أبت» بكسر التاء حذفت الياء من أبي وجعلت التاء بدلا منها، قاله سيبويه، وقرأ ابن عامر وحده وأبو جعفر والأعرج: «يا أبت» بفتحها، وكان ابن كثير وابن عامر يقفان بالهاء فأما قراءة ابن عامر بفتح التاء فلها وجهان: إما أن يكون: «يا أبتا» ، ثم حذفت الألف تخفيفا وبقيت الفتحة دالة على الألف، وإما أن يكون جاريا مجرى قولهم: يا طلحة أقبل، رخموه ثم ردوا العلامة ولم يعتد بها بعد الترخيم، وهذا كقولهم: اجتمعت اليمامة ثم قالوا: اجتمعت أهل اليمامة، فردوا لفظة الأهل ولم يعتدوا بها، وقرأ أبو جعفر والحسن وطلحة بن سليمان: «أحد عشر كوكبا» بسكون العين لتوالي الحركات، ويظهر أن الاسمين قد جعلا واحدا. وقيل: إنه قد رأى كواكب حقيقة والشمس والقمر فتأولها يعقوب إخوته وأبويه، وهذا قول الجمهور، وقيل: الإخوة والأب والخالة لأن أمه كانت ميتة، وقيل إنما كان رأى إخوته وأبويه فعبر عنهم بالكواكب والشمس والقمر، وهذا ضعيف ترجم به الطبري، ثم أدخل عن قتادة والضحاك وغيرهما كلاما محتملا أن يكون كما ترجم وأن يكون مثل قول الناس، وقال المفسرون: الْقَمَرَ تأويله: الأب، والشَّمْسَ تأويلها: الأم، فانتزع بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب، وحكى الطبري عن جابر بن عبد الله أن يهوديا يسمى بستانة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه السّلام، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل جبريل عليه السّلام فأخبره بأسمائها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي، فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ قال: نعم، قال: حربان، والطارق، والذيال، وذا الكنفان، وقابس، ووثاب، وعمودان والفليق، والمصبح، والضروح، وذو الفرغ، والضياء، والنور فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وتكرر رَأَيْتُهُمْ لطول الكلام وجرى ضمائر هذه الكواكب في هذه الآية مجرى ضمائر من يعقل إنما كان لما وصفت بأفعال هي خاصة بمن يعقل. وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة، وأنها خرجت بعد أربعين سنة، وقيل: بعد ثمانين سنة. قوله عز وجل: ٥انظر تفسير الآية:٦ ٦قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) تقتضي هذه الآية أن يعقوب عليه السّلام كان يحس من بنيه حسد يوسف وبغضته، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يشعل بذلك غل صدورهم، فيعملوا الحيلة على هلاكه، ومن هنا ومن فعلهم بيوسف- الذي يأتي ذكره- يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت. ووقع في كتاب الطبري لابن زيد: أنهم كانوا أنبياء وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنياوي وعن عقوق الأباء وتعريض مؤمن للهلاك والتوافر في قتله. ثم أعلمه: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي هو يدخلهم في ذلك ويحضهم عليه. وأمال الكسائي رُؤْياكَ، والرؤيا حيث وقعت وروي عنه: أنه لم يمل: رُؤْياكَ في هذه السورة وأمال الرؤيا حيث وقعت، وقرأ «روياك» بغير همز- وهي لغة أهل الحجاز- ولم يملها الباقون حيث وقعت. و «الرؤيا» مصدر كثر وقوعه على هذا المتخيل في النوم حتى جرى مجرى الأسماء كما فعلوا في الدر في قولهم: لله درك فخرجا من حكم عمل المصادر وكسروها رؤى بمنزلة ظلم، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر. وقوله: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ الآية، ف يَجْتَبِيكَ معناه: يختارك ويصطفيك، ومنه: جبيت الماء في الحوض، ومنه: جباية المال، وقوله: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قال مجاهد والسدي: هي عبارة الرؤيا. وقال الحسن: هي عواقب الأمور. وقيل: هي عامة لذلك وغيره من المغيبات. وقوله: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ يريد النبوءة وما انضاف إليها من سائر النعم. وقوله: آلِ يَعْقُوبَ يريد في هذا الموضع الأولاد والقرابة التي هي من نسله، أي يجعل فيهم النبوءة، ويروى أن ذلك إنما علمه يعقوب من دعوة إسحاق له حين تشبه له بعيصو- والقصة كاملة في كتاب النقاش لكني اختصرتها لأنه لم ينبل ألفاظها وما أظنه انتزعها إلا من كتب بني إسرائيل، فإنها قصة مشهورة عندهم، وباقي هذه الآية بيّن. و «النعمة» على يوسف كانت تخليصه من السجن وعصمته والملك الذي نال وعلى إِبْراهِيمَ هي اتخاذه خليلا وعلى إِسْحاقَ فديته بالذبح العظيم، مضافا ذلك كله إلى النبوءة. وعَلِيمٌ حَكِيمٌ مناسبتان لهذا الوعد. قوله عز وجل: ٧انظر تفسير الآية:١٠ ٨انظر تفسير الآية:١٠ ٩انظر تفسير الآية:١٠ ١٠لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قرأ الجمهور «آيات» بالجمع، وقرأ ابن كثير- وحده- «آية» بالإفراد، وهي قراءة مجاهد وشبل وأهل مكة فالأولى: على معنى أن كل حال من أحواله آية فجمعها. والثانية: على أنه بجملته آية، وإن تفصل بالمعنى، ووزن «آية» فعلة أو فعلة أو فاعلة على الخلاف فيه، وذكر الزجّاج: أن في غير مصحف عثمان: «عبرة للسائلين» قال أبو حاتم: هو في مصحف أبيّ بن كعب. وقوله: لِلسَّائِلِينَ يقتضي حضا ما على تعلم هذه الأنباء، لأنه إنما المراد آية للناس، فوصفهم بالسؤال إذ كل واحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ. ويصح أيضا أن يصف الناس بالسؤال من حيث كان سبب نزول السورة سؤال سائل كما روي. وقولهم: وَأَخُوهُ يريدون به: يامين- وهو أصغر من يوسف- ويقال له: بنيامين، وقيل: كان شقيق يوسف وكانت أمهما ماتت، ويدل على أنهما شقيقان تخصيص الأخوة لهما ب أَخُوهُ وهي دلالة غير قاطعة. وكان حب يعقوب ليوسف عليه السّلام ويامين لصغرهما وموت أمهما، وهذا من حب الصغير هي فطرة البشر وقد قيل لابنة الحسن: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يفيق. وقولهم: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي نحن جماعة تضر وتنفع، وتحمي وتخذل، أي لنا كانت تنبغي المحبة والمراعاة. و «العصبة» في اللغة: الجماعة، قيل: من عشرة إلى خمسة عشر، وقيل: من عشرة إلى أربعين، وقال الزجاج: العشرة ونحوهم، وفي الزهراوي: الثلاثة: نفر- فإذا زادوا فهم: رهط إلى التسعة، فإذا زادوا فهم: عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة: عصبة. وقولهم: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي لفي اختلاف وخطأ في محبة يوسف وأخيه، وهذا هو معنى الضلال، وإنما يصغر قدره أو يعظم بحسب الشيء الذي فيه يقع الائتلاف. ومُبِينٍ معناه: يظهر للمتأمل. وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة «مبين اقتلوا» بكسر التنوين في الوصل لالتقاء ساكن التنوين والقاف، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي «مبين اقتلوا» بكسر النون وضم التنوين اتباعا لضمة التاء ومراعاة لها. وقوله: اقْتُلُوا يُوسُفَ الآية، كانت هذه مقالة بعضهم. أَوِ اطْرَحُوهُ معناه: أبعدوه، ومنه قول عروة بن الورد: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... يغرر ويطرح نفسه كل مطرح والنوى: الطروح البعيدة، وأَرْضاً مفعول ثان بإسقاط حرف الجر، لأن طرح- لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك. وقالت فرقة: هو نصب على الظرف- وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه. وقوله: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ استعارة، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه: الثكل أرأمها، أي عطفها عليه، والضمير في بَعْدِهِ عائد على يوسف أو قتله أو طرحه، وصالِحِينَ قال السدي ومقاتل بن سليمان: إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء، وقال الجمهور: صالِحِينَ معناه بالتوبة، وهذا هو الأظهر من اللفظ، وحالهم أيضا تعطيه، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة والقائل منهم قيل: هو روبيل- أسنهم- قاله قتادة وابن إسحاق، وقيل: يهوذا أحلمهم، وقيل شمعون أشجعهم، قاله مجاهد، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة لما أراد الله من إنفاذ قضائه. و «الغيابة» ما غاب عنك من الأماكن أو غيب عنك شيئا آخر. وقرأ الجمهور: «غيابة الجب» ، وقرأ نافع وحده «غيابات الجب» ، وقرأ الأعرج «غيّابات الجب» بشد الياء، قال أبو الفتح: هو اسم جاء على فعالة، كان أبو علي يلحقه بما ذكر سيبويه من الفياد ونحوه، ووجدت أنا من ذلك: التيار للموج والفجار للخزف. قال القاضي أبو محمد: وفي شبه غيابة بهذه الأمثلة نظر لأن غيابة جارية على فعل. وقرأ الحسن: «في غيبة الجب» على وزن فعلة، وكذلك خطت في مصحف أبي بن كعب، ومن هذه اللفظة قول الشاعر- وهو المنخل- فإن أنا يوما غيبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة والأهل والْجُبِّ البئر التي لم تطو لأنها جبت من الأرض فقط. وقرأ الجمهور: «يلتقطه بعض» بالياء من تحت على لفظ بعض، وقرأ الحسن البصري ومجاهد وقتادة وأبو رجاء «تلتقطه» بالتاء، وهذا من حيث أضيف «البعض» إلى السَّيَّارَةِ فاستفاد منها تأنيث العلاقة، ومن هذا قول الشاعر: [الوافر] أرى مرّ السنين أخذن منّي ... كما أخذ السرار من الهلال ومنه قول الآخر: [الطويل] إذا مات منهم سيد قام سيد ... فذلت له أهل القرى والكنائس وقول كعب: [الكامل] ذلت لوقعتها جميع نزار ... حين أراد بنزار القبيلة، وأمثلة هذا كثير. وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه السّلام: والسَّيَّارَةِ جمع سيار. وهو بناء للمبالغة، وقيل في هذا الْجُبِّ: أنه بئر بيت المقدس. وقيل: غيره: وقيل: لم يكن حيث طرحوه ماء ولكن أخرجه الله فيه حتى قصده الناس للاستقاء: وقيل: بل كان فيه ماء كثير يغرق يوسف فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت عليه يوسف، وروي أنهم رموه بحبل في الجب فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه حينئذ، وهموا برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك. قوله عز وجل: ١١انظر تفسير الآية:١٥ ١٢انظر تفسير الآية:١٥ ١٣انظر تفسير الآية:١٥ ١٤انظر تفسير الآية:١٥ ١٥قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) الآية الأولى تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم الخبيثة في جهة يوسف. وهذه أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك. وقرأ الزهري وأبو جعفر «لا تأمنا» بالإدغام دون إشمام. ورواها الحلواني عن قالون، وقرأ السبعة بالإشمام للضم، وقرأ طلحة بن مصرف «لا تأمننا» وقرأ ابن وثاب والأعمش «لا تيمنا» بكسر تاء العلامة. وغَداً ظرف أصله: غدو، فلزم اليوم كله، وبقي الغدو والغدوة اسمين لأول النهار، وقال النضر ابن شميل: ما بين الفجر إلى الإسفار يقال فيه غدوة. وبكرة. وقرأ أبو عمرو وأبو عامر: «نرتع ونلعب» بالنون فيهما وإسكان العين والباء، و «نرتع» - على هذا- من الرتوع وهي الإقامة في الخصب والمرعى في أكل وشرب، ومنه قول الغضبان بن القبعثري: القيد والرتعة وقلة التعتعة. ومنه قول الشاعر: [الوافر] ... وبعد عطائك المائة الرتاعا و «لعبهم» هذا دخل في اللعب المباح كاللعب بالخيل والرمي ونحوه، فلا وصم عليهم في ذلك، وليس باللعب الذي هو ضد الحق وقرين اللهو، وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف يقولون: نلعب وهم أنبياء؟ قال: لم يكونوا حينئذ أنبياء. وقرأ ابن كثير: «نرتع ونلعب» بالنون فيهما، وبكسر العين وجزم الباء، وقد روي عنه «ويلعب» بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد. و «نرتع» - على هذا- من رعاية الإبل: وقال مجاهد هي من المراعاة: أي يراعي بعضنا بعضا ويحرسه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «يرتع ويلعب» بإسناد ذلك كله إلى يوسف، وقرأ نافع «يرتع» بالياء فيهما وكسر العين وجزم الباء، ف «يرتع» - على هذا- من رعي الإبل قال ابن زيد: المعنى: يتدرب في الرعي وحفظ المال ومن الارتعاء قول الأعشى: ترتعي السفح فالكثيب فذاقا ... ن فروض القطا فذات الرئال قال أبو علي: وقراءة ابن كثير- «نرتع» بالنون و «يلعب» بالياء- فنزعها حسن، لإسناد النظر في المال والرعاية إليهم، واللعب إلى يوسف لصباه. وقرأ العلاء بن سيابة، «يرتع ويلعب» برفع الباء على القطع. وقرأ مجاهد وقتادة: «نرتع» بضم النون وكسر التاء و «نلعب» بالنون والجزم. وقرأ ابن كثير- في بعض الروايات عنه- «نرتعي» بإثبات الياء- وهي ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كما قال الشاعر: [الوافر] ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد وقرأ أبو رجاء «يرتع» بضم الياء وجزم العين و «يلعب» بالياء والجزم. وعللوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنشاط. وقوله تعالى: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي الآية. قرأ عاصم وابن كثير والحسن والأعرج وعيسى وأبو عمرو وابن محيصن «ليحزنني» بفتح الياء وضم الزاي، قال أبو حاتم: وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي والإدغام، ورواية روش عن نافع: بيان النونين مع ضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، وأن الأولى فاعلة والثانية مفعولة ب أَخافُ. وقرأ الكسائي وحده: «الذيب» دون همز وقرأ الباقون بالهمز- وهو الأصل ومنه جمعهم إياه على ذؤبان، ومنه تذاءبت الريح والذئاب إذا أتت من هاهنا وهاهنا. وروى ورش عن نافع: «الذيب» بغير همز، وقال نصر: سمعت أبا عمرو لا يهمز، قال: وأهل الحجاز يهمزون. وإنما خاف يعقوب الذئب دون سواه، وخصصه لأنه كان الحيوان العادي المنبت في القطر، وروي أن يعقوب كان رأى في منامه ذئبا يشتد على يوسف. قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي ضعيف لأن يعقوب لو رأى ذلك لكان وحيا، فإما أن يخرج على وجهه وذلك لم يكن، وإما أن يعرف يعقوب بمعرفته لعبارة مثال هذا المرئي، فكان يتشكاه بعينه، اللهم إلا أن يكون قوله: أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ بمعنى أخاف أن يصيبه مثل ما رأيت من أمر الذئب- وهذا بعيد- وكذلك يقول الربيع بن ضبع: [المنسرح] والذئب أخشاه ... إنما خصصه لأنه كان حيوان قطره العادي، ويحتمل أن يخصصه يعقوب عليه السّلام لصغر يوسف: أي أخاف عليه هذا الحقير فما فوقه، وكذلك خصصه الربيع لحقارته وضعفه في الحيوان، وباقي الآية بيّن. وقوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ الآية، أسند الطبري إلى السدي قال: ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه فجعل لا يرى منهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء، فقال لهم يهوذا: ألم تعطوني موثقا أن لا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب، فجعلوا يدلونه فيتعلق بالشفير فربطوا يديه ونزعوا قميصه. فقال: يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب، فقالوا: ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك فدلوه حتى إذا بلغ نصف الجب ألقوه إرادة أن يموت، فكان في الجب ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة يبكي، فنادوه، فظن أنهم رحموه، فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فمنعهم يهوذا، وكان يأتيه بالطعام. وجواب «لما» محذوف تقديره: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أجمعوا، هذا مذهب الخليل وسيبويه وهو نص لهما في قول امرئ القيس: [الطويل] فلما أجزنا ساحية الحي وانتحى ... ومثل هذا قول الله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: ١٠٣]- وقال بعض النحاة- في مثل هذا-: إن الواو زائدة- وقوله مردود لأنه ليس في القرآن شيء زائد لغير معنى. وأَجْمَعُوا معناه: عزموا واتفق رأيهم عليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم- في المسافر- «ما لم يجمع مكثا» ، على أن إجماع الواحد قد ينفرد بمعنى العزم والشروع، ويتصور ذلك في إجماع إخوة يوسف وفي سائر الجماعات- وقد يجيء إجماع الجماعة فيما لا عزم فيه ولا شروع ولا يتصور ذلك في إجماع الواحد. والضمير في إِلَيْهِ عائد إلى يوسف. وقيل على يعقوب، والأول أصح وأكثر، ويحتمل أن يكون الوحي حينئذ إلى يوسف برسول، ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم- وكل ذلك قد قيل- وقال الحسن: أعطاه الله النبوءة وهو في الجب. قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد. وقرأ الجمهور: «لتنبئنهم» بالتاء، وفي بعض مصاحف البصرة بالياء، وقرأ سلام بالنون، وهذا كله في العلامة التي تلي اللام. وقوله: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال ابن جريح: وقت التنبيه إنك يوسف. وقال قتادة: لا يشعرون بوحينا إليه. قال القاضي أبو محمد: فيكون قوله: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ- على التأويل الأول- مما أوحي إليه- وعلى القول الثاني- خبر لمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل: ١٦انظر تفسير الآية:١٨ ١٧انظر تفسير الآية:١٨ ١٨وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) قرأت فرقة «عشاء» أي وقت العشاء، وقرأ الحسن: «عشى» على مثال دجى، أي جمع عاش، قال أبو الفتح: «عشاة» كماش ومشاة، ولكن حذفت الهاء تخفيفا كما حذفت من مألكة، وقال عدي: أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري قال القاضي أبو محمد: ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى، ومثل شريح في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية، وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا، قال فأين يوسف؟ قالوا: ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟ - وسيأتي قصص ذلك. ونَسْتَبِقُ معناه: على الأقدام أي نجري غلابا، وقيل: بالرمي أي ننتصل. وهو نوع من المسابقة، قاله الزجاج. وقولهم: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ أي بمصدق ومعنى الكلام: أي لو كنا موصوفين بالصدق وقيل: المعنى: ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديما لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ذكره الزجاج وغيره، ويحتمل أن يكون قولهم: وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، بمعنى: وإن كنا صادقين- وقاله المبرد- كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة، فهو تماد منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ [الأعراف: ٨٨] بمعنى أو إن كنا كارهين. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وتخبط الرماني في هذا الموضع، وقال: ألزموا أباهم عنادا ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك، بل قالوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا. ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السّلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم، فإنما هو بشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه..» الحديث. فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب. وكذلك قد صدق عليه السّلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيدا، حتى نزل الوحي، فظهر الحق، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد. وقوله تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ الآية، روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا أثر ناب. فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليما، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ - قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص- واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها- في قول مالك- إلى غير ذلك. قال الشافعي: كان في القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به. وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئبا فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب، هذا أكل يوسف، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم. ووصف الدم ب كَذِبٍ إما على معنى بدم ذي كذب، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر: [الكامل] حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب. قال القاضي أبو محمد: هذا كلام الطبري، ولا شاهد له فيه عندي، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل، ولا يحتاج إلى بدل، وإنما «الدم الكذب» عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة. وقرأ الحسن: «بدم كذب» بدال غير معجمة، ومعناه الطري ونحوه، وليست هذه القراءة قوية. ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي رضيت وجعلت سولا ومرادا. أَمْراً أي صنعا قبيحا بيوسف. وقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر: إما على تقدير: فشأني صبر جميل، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل. وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب: «فصبرا جميلا» على إضمار فعل، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك- وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [الرجز] ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى وينشد أيضا بالرفع ويروى «صبر جميل» ، على نداء الجمل المذكور في قوله: [الرجز] شكى إليّ جملي طول السرى ... يا جملي ليس إليّ المشتكى صبر جميل فكلانا مبتلى وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السّلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه. وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من بث لم يصبر صبرا جميلا. وقوله: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه، والتقدير على احتمال ما تصفون. قوله عز وجل: ١٩انظر تفسير الآية:٢٠ ٢٠وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) قيل إن «السيارة» جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب، سَيَّارَةٌ: جمع سيار، كما قالوا بغال وبغالة، وهذا بعكس تمرة وتمر، وسَيَّارَةٌ: بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق. وروي أن هذه «السيارة» كانوا قوما من أهل مدين، وقيل: قوم أعراب. و «الوارد» هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، ويقال: «أدلى الدلو» : إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء. ودلاه يدلوه: إذا استقاه من البئر. وفي الكلام هنا حذف تقديره: فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال: يا بشراي، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين، ويرجح هذا لفظة غُلامٌ، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز وقيل: كان ابن سبع عشرة سنة- وهذا بعيد-. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يا بشراي» بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول: احضري، فهذا وقتك، وهذا نحو قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠] وروى ورش عن نافع «يا بشراي» بسكون الياء، قال أبو علي: وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها، كما اختصت في القوافي بالتأسيس، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة وليس شيء من ذلك في الياء والواو. وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن «يا بشريّ» تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة، وهي لغة فاشية، ومن ذلك قول أبي ذؤيب: [الكامل] سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك: يطوّف بي كعب في معد ... ويطعن بالصملة في قفيا فإن لم تثأروا لي في معد ... فما أرويتما أبدا صديا وقرأ حمزة والكسائي «يا بشري» ويميلان ولا يضيفان. وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي: كان في أصحاب هذا «الوارد» رجل اسمه بشرى، فناداه وأعلمه بالغلام، وقيل: هو على نداء البشرى- كما قدمنا- والضمير في قوله: وَأَسَرُّوهُ ظاهر الآيات أنه ل «وارد» الماء، - قاله مجاهد، وقال: إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا: وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود. قال القاضي أبو محمد: هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خيارا، فأسروا بينهم أن يقولوا: أبضعه معنا بعض أهل المصر. وبِضاعَةً حال، و «البضاعة» : القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح، مأخوذة من قولهم: بضعت أي قطعت. وقيل: إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجرا، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئا ثم يكون الضمير في قوله: وَشَرَوْهُ لهم أيضا، أي باعوه بثمن قليل، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره، بل كانوا زاهدين فيه، وروي- على هذا- أنهم باعوه من تاجر. وقال مجاهد: الضمير في أَسَرُّوهُ لأصحاب «الدلو» ، وفي شَرَوْهُ لإخوة يوسف الأحد عشر، وقال ابن عباس: بل الضمير في أَسَرُّوهُ وشَرَوْهُ لإخوة يوسف. قال القاضي أبو محمد: وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا: هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم، فقارهم يوسف على هذه المقالة خوفا منهم، ولينفذ الله أمره فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها، واتخذوه بِضاعَةً أي متجرا لهم ومكسبا وَشَرَوْهُ أيضا بِثَمَنٍ بَخْسٍ، أي باعوه. وقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف، وسوق الأقدار بناء حاله، فهو- حينئذ- بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: يدبر ابن آدم والقضاء يضحك. وفي الآية- أيضا- تسلية للنبي عليه السّلام عما يجري عليه من جهة قريش، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة. وشَرَوْهُ- هنا- بمعنى باعوه، وقد يقال: شرى، بمعنى اشترى، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل] وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه برد: اسم غلام له ندم على بيعه، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين و «البخس» مصدر وصف به «الثمن» وهو بمعنى النقص- وهذا أشهر معانيه- فكأنه القليل الناقص- وهو قول الشعبي- وقال قتادة: «البخس» هنا بمعنى الظلم، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه، وقال الضحاك: وهو بمعنى الحرام، وهذا أيضا بمعنى لا يحل بيعه. وقوله: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية، وهي أربعون درهما، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه السّلام: فقيل باعوه بعشرة دراهم، وقال ابن مسعود: بعشرين، وقال مجاهد: باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين وقال عكرمة: بأربعين درهما دفعت ناقصة خفافا، فهذا كان بخسها. وقوله: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وصف يترتب في «ورّاد» الماء، أي كانوا لا يعرفون قدره، فهم لذلك قليل اغتباطهم به، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز. وقوله فِيهِ ليست بصلة ل الزَّاهِدِينَ- قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله: وَشَرَوْهُ. قوله عز وجل: ٢١انظر تفسير الآية:٢٢ ٢٢وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) روي أن مبتاع يوسف- وهو الوارد من إخوته أو التاجر من الوراد، حسبما تقدم من الخلاف- ورد به مصر، البلد المعروف، ولذلك لا ينصرف، فعرضه في السوق، وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمنا عظيما- فقيل: وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير فاشتراه العزيز، وكان حاجب الملك وخازنه، واسم الملك الريان بن الوليد، وقيل مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، وقيل: هو فرعون موسى، عمر إلى زمانه. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وذلك أن ظهور يوسف عليه السّلام لم يكن في مدة كافر يخدمه يوسف واسم العزيز المذكور: قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: أطفير، وقيل: قنطور واسم امرأته: راعيل، قاله ابن إسحاق، وقيل ربيحة، وقيل: زليخا، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته- حسبما نذكره في البرهان الذي رأى يوسف- وقال مجاهد: كان العزيز مسلما. و «المثوى» مكان الإقامة، و «الإكرام» إنما هو لذي المثوى، ففي الكلام استعارة وقوله: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا، أي بأن يعيننا في أبواب دنيانا وغير ذلك من وجوه النفع، وقوله: أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نتبناه، وكان فيما يقال لا ولد له. ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ، أي كما وصفنا مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ فعلنا ذلك. والْأَحادِيثِ: الرؤيا في النوم- قاله مجاهد- وقيل: أحاديث الأمم والأنبياء. والضمير في أَمْرِهِ يحتمل أن يعود على يوسف، قاله الطبري، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، قاله ابن جبير، فيكون إخبارا منبها على قدرة الله عز وجل ليس في شأن يوسف خاصة بل عاما في كل أمر. وكذلك الاحتمال في قول الشاعر: [الطويل] رأيت أبا بكر- وربك- غالب ... على أمره يبغي الخلافة بالتمر وأكثر الناس الذين نفي عنهم العلم هم الكفرة، وفيهم الذين زهدوا في يوسف وغيرهم ممن جهل أمره، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أصح الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْواهُ، وابنة شعيب حين قالت: «استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين» وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب. قال القاضي أبو محمد: وفراسة العزيز إنما كانت في نفس نجابة يوسف لا أنه تفرس الذي كان كما في المثالين الآخرين، فإن ما تفرس خرج بعينه. و «الأشد» : استكمال القوة وتناهي البأس، أولهما البلوغ وقد عبر عنه مالك وربيعة ببنية الإنسان، وهما أشدان: وذكره منذر بن سعيد، والثاني: الذي يستعمله العرب وقيل: هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف: وقيل: «الأشد» : بلوغ الأربعين، وقيل: بل ستة وثلاثون. وقيل: ثلاثة وثلاثون. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو أظهر الأقوال- فيما نحسبه- وهو الأسبوع الخامس، وقيل: عشرون سنة، وهذا ضعيف. وقال الطبري: «الأشد» لا واحد له من لفظه، وقال سيبويه: «الأشد» جمع شدة نحو نعمة وأنعم، وقال الكسائي: «أشد» جمع شد نحو قد وأقد، وشد النهار: معظمه وحيث تستكمل نهاريته. وقوله: حُكْماً يحتمل أن يريد الحكمة والنبوءة، وهذا على الأشد الأعلى، ويحتمل الحكمة والعلم دون النبوءة، وهذا أشبه إن كانت قصة المراودة بعد هذا. وعِلْماً يريد تأويل الأحاديث وغير ذلك. ويحتمل أن يريد بقوله: حُكْماً أي سلطانا في الدنيا وحكما بين الناس بالحق. وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله: وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ألفاظ فيها وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يهولنك فعل الكفرة بك وعتوهم عليك فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع. قوله عز وجل: ٢٣انظر تفسير الآية:٢٥ ٢٤انظر تفسير الآية:٢٥ ٢٥وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) «المراودة» الملاطفة في السوق إلى غرض، وأكثر استعمال هذه اللفظة إنما هو في هذا المعنى الذي هو بين الرجال والنساء ويشبه أن يكون من راد يرود إذا تقدم لاختبار الأرض والمراعي، فكان المراود يختبر أبدا بأقواله وتلطفه حال المراود من الإجابة أو الامتناع. وفي مصحف وكذلك رويت عن الحسن. والَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها هي زليخا امرأة العزيز. وقوله عَنْ نَفْسِهِ كناية عن غرض المواقعة. وقوله: وَغَلَّقَتِ تضعيف مبالغة لا تعدية، وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبأ عليه السلام. وقرأ ابن كثير وأهل مكة: «هيت» بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وابن محيصن وأبو الأسود وعيسى بفتح الهاء وكسر التاء «هيت» ، وقرأ ابن مسعود والحسن والبصريون «هيت» بفتح الهاء والتاء وسكون الياء، ورويت عن ابن عباس وقتادة وأبي عمرو، قال أبو حاتم: لا يعرف أهل البصرة غيرها وهم أقل الناس غلوا في القراءة، قال الطبري: وقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافع وابن عامر «هيت» بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء- وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر- وهذه الأربع بمعنى واحد، واختلف باختلف اللغات فيها، ومعناه الدعاء أي تعال وأقبل على هذا الأمر، قال الحسن: معناها هلمّ، ويحسن أن تتصل بها لَكَ إذ حلت محل قولها: إقبالا أو قربا، فجرت مجرى سقيا لك ورعيا لك، ومن هذا قول الشاعر يخاطب علي بن أبي طالب: [مجزوء الكامل] أبلغ أمير المؤمنين ... أخا العراق إذا أتينا أن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا ومن ذلك على اللغة الأخرى قول طرفة: [الخفيف] ليس قومي بالأبعدين إذا ما ... قال داع من العشيرة هيت ومن ذلك أيضا قول الشاعر: [الرجز] قد رابني أن الكرى قد أسكتا ... ولو غدا يعني بنا لهيتا أسكت: دخل في سكوت، و «هيت» معناه: قال: هيت، كما قالوا: أفف إذا قال: أف أف، ومنه سبح وكبر ودعدع إذ قال: داع داع. والتاء على هذه اللغات كلها مبنية فهي في حال الرفع كقبل وبعد، وفي الكسر على الباب لالتقاء الساكنين، وفي حال النصب ككيف ونحوها قال أبو عبيدة: وهَيْتَ لا تثنى ولا تجمع، تقول العرب: هَيْتَ لَكَ، وهيت لكما، وهيت لكم. وقرأ هشام ابن عامر «هيت» ، بكسر الهاء والهمز، ضم التاء وهي قراءة علي بن أبي طالب، وأبي وائل، وأبي رجاء ويحيى، ورويت عن أبي عمرو، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء إذا أحسن هيئته- على مثال جاء يجيء- ويحتمل أن يكون بمعنى تهيأت، كما يقال: فئت وتفيأت بمعنى واحد، قال الله عز وجل: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ [النحل: ٤٨] وقال: حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: ٩] . وقرأ ابن أبي إسحاق- أيضا- «هيت» بتسهيل الهمزة من هذه القراءة المتقدمة. وقرأ ابن عباس- أيضا- «هيت لك» . وقرأ الحلواني عن هشام «هئت» بكسر الهاء والهمز وفتح التاء قال أبو علي: ظاهر أن هذه القراءة وهم، لأنه كان ينبغي أن تقول: هئت لي، وسياق الآيات يخالف هذا. وحكى النحاس: أنه يقرأ «هيت» بكسر الهاء وسكون الياء وكسر التاء. ومَعاذَ نصب على المصدر ومعنى الكلام أعوذ بالله. ثم قال: إِنَّهُ رَبِّي فيحتمل أن يعود الضمير في إِنَّهُ على الله عز وجل، ويحتمل أن يريد العزيز سيده، أي فلا يصلح لي أن أخونه وقد أكرم مثواي وائتمنني، قال مجاهد، والسدي رَبِّي معناه سيدي، وقاله ابن إسحاق. قال القاضي أبو محمد: وإذا حفظ الآدمي لإحسانه فهو عمل زاك، وأحرى أن يحفظ ربه. ويحتمل أن يكون الضمير للأمر والشأن، ثم يبتدىء رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ. والضمير في قوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ مراد به الأمر والشأن فقط، وحكى بعض المفسرين: أن يوسف عليه الصلاة والسلام- لما قال: معاذ الله ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة، امتحنه الله تعالى بالهم بما هم به، ولو قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ودافع بعنف وتغيير- لم يهم بشيء من المكروه. وقرأ الجحدري «مثواي» وقرأها كذلك أبو طفيل وروي عن النبي عليه السّلام: «فمن تبع هداي» . وقوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الآية، لا شك أن «هم» زليخا كان في أن يواقعها يوسف، واختلف في «هم» يوسف عليه السلام، فقال الطبري: قالت فرقة: كان مثل «همها» ، واختلفوا كيف يقع من مثل يوسف وهو نبي؟ فقيل ذلك ليريه الله تعالى موقع العفو والكفاية، وقيل الحكمة في ذلك أن يكون مثالا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع بهم إلى عفو الله كما رجعت بمن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخا وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو هذا، وهي قد استقلت له قاله ابن عباس وجماعة من السلف. وقالت فرقة في «همه» إنما كان بخطرات القلب التي لا يقدر البشر عن التحفظ منها، ونزع عند ذلك ولم يتجاوزه، فلا يبعد هذا على مثله عليه السلام، وفي الحديث: «إن من هم بسيئة ولم يعملها فله عشر حسنات» ، وفي حديث آخر «حسنة» ، فقد يدخل يوسف في هذا الصنف. وقالت فرقة: كان «هم» يوسف بضربها ونحو ذلك. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف البتة، والذي أقول في هذه الآية: إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به رواية، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك، لأن العصمة مع النبوة، وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء، فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد، والهم بالشيء مرتبتان: فالواحدة الأولى تجوز عليه مع النبوة، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تنطق به أو تعمل» . معناه من الخواطر، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحا، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر، ومما يؤيد أن استصحاب الخاطر معصية قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كان حريصا على قتل صاحبه. وقوله الله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: ١٢] وهذا منتزع من غير موضع من الشرع، والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز. واختلف في «البرهان» الذي رأى يوسف، وقيل: نودي. واختلف فيما نودي به، فقيل ناداه جبريل: يا يوسف، تكون في ديوان الأنبياء. وتفعل فعل السفهاء؟ وقيل: نودي: يا يوسف، لا تواقع المعصية فتكون كالطائر الذي عصى فتساقط ريشه فبقي ملقى- ناداه بذلك يعقوب-، وقيل غير هذا مما في معناه. وقيل: كان «البرهان» كتابا رآه مكتوبا، فقيل: في جدار المجلس الذي كان فيه، وقيل: بين عيني زليخا، وقيل: في كف من الأرض خرجت دون جسد واختلف في المكتوب، فقيل: قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: ٣٣] ، وقيل: قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: ٣٣] ، وقيل: قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: ٣٢] وقيل غير هذا. وقيل: كان البرهان أن رأى يعقوب عليه السلام ممثلا معه في البيت عاضا على إبهامه وقيل: على شفته. وقيل بل انفرج السقف فرآه كذلك. وقيل: إن جبريل قال له: لئن واقعت المعصية لأمحونك من ديوان النبوة، وقيل: إن جبريل ركضه فخرجت شهوته على أنامله. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقيل: بل كان «البرهان» فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية، وقيل: بل كان البرهان الذي اتعظ به أن زليخا قالت له: مكانك حتى أستر هذا الصنم- لصنم كان معها في البيت- فإني أستحيي منه أن يراني على هذه الحال وقامت إليه فسترته بثوب فاتعظ يوسف وقال: من يسترني أنا من الله القائم على كل شيء، وإذا كنت أنت تفعلين هذا لما لا يعقل فإن أولى أن أستحيي من الله. و «البرهان» في كلام العرب الشيء الذي يعطي القطع واليقين، كان مما يعلم ضرورة أم بخبر قطعي أو بقياس نظري، فهذه التي رويت فيما رآه يوسف براهين. وأَنْ في قوله: لَوْلا أَنْ رَأى في موضع رفع، التقدير: لولا رؤيته برهان ربه، وهذه لَوْلا التي يحذف معها الخبر، تقديره: لفعل أو لارتكب المعصية. وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وأن جواب لَوْلا في قوله: وَهَمَّ بِها وأن المعنى: لولا أن رأى البرهان لهمّ أي فلم يهم عليه السلام، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف. قال الزجّاج: ولو كان الكلام: ولهمّ بها لولا، لكان بعيدا، فكيف مع سقوط اللام!. والكاف من قوله: كَذلِكَ متعلقة بمضمر تقديره: جرت أفعالنا وأقدارنا كَذلِكَ لِنَصْرِفَ، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير: عصمتنا له كذلك لنصرف. وقرأ الجمهور «لنصرف» بالنون، وقرأ الأعمش «ليصرف» بالياء- على الحكاية عن الغائب-، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء «المخلصين» بكسر اللام في كل القرآن، وكذلك مُخْلَصاً [مريم: ٥١] في سورة مريم. وقرأ نافع مخلصا [الزمر: ٢- ١١- ١٤، مريم: ٥١] كذلك بكسر اللام، وقرأ سائر القرآن «المخلصين» بفتح اللام، وقرأ حمزة والكسائي وجمهور من القراء «المخلصين» بفتح اللام و «مخلصا» كذلك في كل القرآن. وقوله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ الآية، وَاسْتَبَقَا معناه سابق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب، هي لترده إلى نفسها وهو ليهرب عنها فقبضت في أعلى قميصه من خلفه، فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. و «القد» : القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا، «والقط» يستعمل فيما كان عرضا، وكذلك هي اللفظة في قول النابغة: تقد السلوقي فإن قوله: توقد بالصفاح يقتضي أن القطع بالطول. وأَلْفَيا: وجدا، و «السيد» الزوج، قاله زيد بن ثابت ومجاهد. فيروى أنهما وجدا العزيز ورجلا من قرابة زليخا عند الباب الذي استبقا إليه قاله السدي. فلما رأت الفضيحة فزعت إلى مطالبة يوسف والبغي عليه، فأرت العزيز أن يوسف أرادها، وقالت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ وتكلمت في الجزاء، أي أن الذنب ثابت متقرر. وهذه الآية تقتضي بعظم موقع السجن من النفوس لا سيما بذوي الأقدار، إذ قرن بأليم العذاب. قوله عز وجل: ٢٦انظر تفسير الآية:٢٩ ٢٧انظر تفسير الآية:٢٩ ٢٨انظر تفسير الآية:٢٩ ٢٩قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) قال نوف الشامي: كان يوسف عليه السلام لم يبن على كشف القصة، فلما بغت به غضب فقال الحق، فأخبره أنها هي راودته عن نفسه، فروي أن الشاهد كان الرجل ابن عمها، قال: انظر إلى القميص فإن كان قده من دبر فكذبت، أو من قبل فصدقت، قاله السدي. وقال ابن عباس: كان رجلا من خاصة الملك، قاله مجاهد وغيره. وقيل: إن الشاهد كان طفلا في المهد فتكلم بهذا، قاله أيضا ابن عباس وأبو هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك. قال القاضي أبو محمد: ومما يضعف هذا أن في صحيح البخاري ومسلم: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء الذي تمنت له أن يكون كالفاجر الجبار، فقال: لم يتكلم وأسقط صاحب يوسف منها، ومنها أن الصبي لو تكلم لكان الدليل نفس كلامه دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص. وأسند الطبري إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم في المهد أربعة» ، فذكر الثلاثة وزاد صاحب يوسف، وذكر الطبري عن ابن عباس: أن ابن ماشطة فرعون تكلم في المهد، فهم على هذا خمسة، وقال مجاهد- أيضا- الشاهد القميص. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأنه لا يوصف بأنه من الأهل. وقرأ جمهور الناس: «من قبل» و «من دبر» بضم الباءين وبالتنوين، وقرأ ابن يعمر والجارود بن أبي سبرة ونوح وابن أبي إسحاق «من قبل» و «من دبر» بثلاث ضمات من غير تنوين، قال أبو الفتح: هما غايتان بنيتا، كقوله تعالى: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم: ٤] قال أبو حاتم: وهذا رديء في العربية جدا، وإنما يقع هذا البناء في الظروف، وقرأ الحسن «من قبل» و «من دبر» بإسكان الباءين والتنوين، ورويت عن أبي عمرو وروي عن نوح القاري أنه أسكن الباءين وضم الأواخر ولم ينون ورواها عن ابن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر. وسمي المتكلم بهذا الكلام شاهِدٌ من حيث دل على الشاهد ونفس الشاهد هو تخريق القميص. وقرأت فرقة: «فلما رأى قميصه عط من دبر» . والضمير في رَأى هو للعزيز، وهو القائل: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ، قاله الطبري وقيل: بل «الشاهد» قال ذلك، والضمير في إِنَّهُ يريد مقالها المتقدم في الشكوى ب «يوسف» . ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالأمارة، من العلماء، فإنها معتمدهم، ويُوسُفُ في قوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا منادى، قاله ابن عباس، ناداه الشاهد، وهو الرجل الذي كان مع العزيز، وأَعْرِضْ عَنْ هذا معناه: عن الكلام به، أي اكتمل ولا تتحدث به ثم رجع إليها فقال: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ أي استغفري زوجك وسيدك، وقال: مِنَ الْخاطِئِينَ ولم يقل: من الخاطئات لأن الخاطئين أعم، وهو من: خطىء يخطأ خطئا وخطأ، ومنه قول الشاعر [أوس بن غلفاء] : [الوافر] لعمرك إنما خطئي وصوبي ... عليّ وإنما أتلفت مالي وينشد بيت أمية بن أبي الصلت: [الوافر] عبادك يخطئون وأنت رب ... بكفيك المنايا والحتوم قوله عز وجل: ٣٠انظر تفسير الآية:٣١ ٣١وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) ذكر الفعل المسند إلى «النسوة» لتذكير اسم الجمع ونِسْوَةٌ جمع قلة لا واحد له من لفظه، وجمع التكثير نساء، ونِسْوَةٌ فعلة، وهو أحد الأبنية الأربعة التي هي لأدنى العدد، وقد نظمها القائل ببيت شعر: [البسيط] بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعا: امرأة خبازة، وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة. والْعَزِيزِ: الملك ومنه قول الشاعر: [الرمل] درة غاص عليها تاجر ... جلبت عند عزيز يوم طل و «الفتى» : الغلام، وعرفه في المملوك- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي» ، ولكنه قد يقال في غير المملوك، ومنه إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف: ٦٠] وأصل «الفتى» في اللغة الشاب، ولكن لما كان جل الخدمة شبابا استعير لهم اسم الفتى. وشَغَفَها معناه: بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف، وهو على أكثر القول غلاف من أغشية القلب، وقيل: «الشغاف» : سويداء القلب، وقيل: الشغاف: داء يصل إلى القلب. وقرأ أبو رجاء والأعرج وعلي بن أبي طالب والحسن بخلاف ويحيى بن يعمر وقتادة بخلاف وثابت وعوف ومجاهد وغيرهم: «قد شعفها» بالعين غير منقوطة، ولذلك وجهان: أحدهما أنه علا بها كل مرقبة من الحب، وذهب بها كل مذهب، فهو مأخوذ- على هذا- من شعف الجبال وهي رؤوسها وأعاليها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» . والوجه الآخر أن يكون الشعف لذة بحرقة يوجد من الجراحات والجرب ونحوها ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] أيقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعف المهنوءة الرجل الطالي والمشعوف في اللغة الذي أحرق الحب قلبه، ومنه قول الأعشى: تعصي الوشاة وكان الحب آونة ... مما يزين للمشعوف ما صنعا وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء أنهما قرآ: «قد شعفعما» بكسر العين غير منقوطة. قال أبو حاتم: المعروف فتح العين وهذا قد قرىء به. وقرأ ابن محيصن: قَدْ شَغَفَها أدغم الدال في الشين. وروي أن مقالة هؤلاء النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها أو يحق لومها. وقد قال ابن زيد الشغف في الحب والشغف في البغض، وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب والشعف الجنون والمشعوف المجنون، وهذان القولان ضعيفان. وقوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ الآية، إنما سمي قولهن مكرا من حيث أظهرن إنكار منكر وقصدن إثارة غيظها عليهن، وقيل: مكرهن انهن أفشين ذلك عنها وقد كانت أطلعتهن على ذلك واستكتمتهن إياه، وهذا لا يكون مكرا إلا بأن يظهرن لها خلاف ذلك ويقصدن بالإفشاء أذاها. ومعنى أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي ليحضرن، وأَعْتَدَتْ معناه: أعدت ويسرت، ومُتَّكَأً ما يتكأ عليه من فرش ووسائد، وعبر بذلك عن مجلس أعد لكرامة، ومعلوم أن هذا النوع من الكرامات لا يخلو من الطعام والشراب، فلذلك فسر مجاهد وعكرمة «المتكأ» بالطعام قال ابن عباس: مُتَّكَأً معناه مجلسا، ذكره الزهراوي. وقال القتبي: يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا. وقوله: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً يقتضي أنه كان في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين، فقيل كان لحما، وكانوا لا ينتهسون اللحم وإنما كانوا يأكلونه حزا بالسكاكين وقيل: كان أترجا، وقيل: كان زماورد، وهو من نحو الأترج موجود في تلك البلاد، وقيل: هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط. وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن عمر وقتادة والضحاك والكلبي وأبان بن تغلب «تكا» بضم الميم وتنوين الكاف. واختلف في معناه، فقيل: هو الأترنج، وقيل: هو اسم يعم ما يقطع بالسكين من الفواكه كالأترنج والتفاح وغيره، وأنشد الطبري: نشرب الإثم بالصواع جهارا ... وترى المتك بيننا مستعارا وقرأ الجمهور: «متّكا» بشد التاء المفتوحة والهمز والقصر، وقرأ الزهري: «متّكا» مشدد التاء من غير همز- وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح، وقرأ الحسن «متكاء» بالمد على إشباع الحركة. و «السكين» تذكر وتؤنث، قاله الكسائي والفراء، ولم يعرف الأصمعي إلا التذكير. وقولها: اخْرُجْ أمر ليوسف، وأطاعها بحسب الملك، وقال مكي والمهدوي: قيل: إن في الآية تقديما وتأخيرا في القصص، وذلك أن قصة النسوة كانت قبل فضيحتها في القميص للسيد، وباشتهار الأمر للسيد انقطع ما بينها وبين يوسف. قال القاضي أبو محمد: وهذا محتمل إلا أنه لا يلزم من ألفاظ الآية، بل يحتمل أن كانت قصة النساء بعد قصة القميص وذلك أن العزيز كان قليل الغيرة بل قومه أجمعين، ألا ترى أن الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: ٢٨] وهذا يدل على قلة الغيرة، ثم سكن الأمر بأن قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا [يوسف: ٢٩] وأنت اسْتَغْفِرِي [يوسف: ٢٩] وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة، فلذلك تغوفل عنها بعد ذلك، لأن دليل القميص لم يكن قاطعا وإنما كان أمارة ما هذا إن لم يكن المتكلم طفلا. وقوله: أَكْبَرْنَهُ معناه: أعظمنه واستهولن جماله، هذا قول الجمهور، وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده: معناه: حضن، وأنشد بعض الناس حجة لهذا التأويل: [البسيط] يأتي النساء على أطهارهنّ ولا ... يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف من معناه منكور، والبيت مصنوع مختلف- كذلك قال الطبري وغيره من المحققين، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمه الله. وقوله: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي كثرن الحز فيها بالسكاكين، وقال عكرمة: «الأيدي» هنا الأكمام، وقال مجاهد هي الجوارح، وقطعنها حتى ألقينها. قال القاضي أبو محمد: فظاهر هذا أنه بانت الأيدي، وذلك ضعيف من معناه، وذلك أن قطع العظم لا يكون إلا بشدة، ومحال أن يسهو أحد عنها، والقطع على المفصل لا يتهيأ إلا بتلطف لا بد أن يقصد، والذي يشبه أنهن حملن على أيديهن الحمل الذي كن يحملنه قبل المتك فكان ذلك حزا، وهذا قول الجماعة. وضوعفت الطاء في قَطَّعْنَ لكثرتهن وكثرة الحز فربما كان مرارا. وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى الله» وقرأ أبيّ وابن مسعود «حاشى الله» ، وقرأ سائر السبعة «حاش لله» ، وفرقة «حشى لله» وهي لغة، وقرأ الحسن «حاش لله» بسكون الشين وهي ضعيفة وقرأ الحسن- أيضا- «حاش الإلاه» محذوفا من «حاشى» . فأما «حاش» فهي حيث جرت حرف معناه الاستثناء، كذا قال سيبويه، وقد ينصب به، تقول: حاشى زيد وحاشى زيدا، قال المبرد: النصب أولى إذ قد صح أنها فعل بقولهم: حاش لزيد، والحرف لا يحذف منه. قال القاضي أبو محمد: يظهر من مجموع كلام سيبويه والمبرد أن الحرف يخفض به لا غير، وأن الفعل هو الذي ينصب به، فهذه اللفظة تستعمل فعلا وحرفا، وهي في بعض المواضع فعل وزنه فاعل، وذلك في قراءة من قرأ «حاشى لله» معناه مأخوذ من معنى الحرف، وهو إزالة الشيء عن معنى مقرون به، وهذا الفعل مأخوذ من الحشا أي هذا في حشى وهذا في حشى، ومن ذلك قول الشاعر: [المعطل الهذلي] . يقول الذي يمسي إلى الحرز أهله ... بأي الحشى صار الخليط المباين ومنه الحاشية كأنها مباينة لسائر ما هي له، ومن المواضع التي حاشى فيه فعل هذه الآية، يدل على ذلك دخولها على حرف الجر، والحروف لا تدخل بعضها على بعض، ويدل على ذلك حذف الياء منها في قراءة الباقين «حاش» على نحو حذفهم من لا أبال ولا أدر ولو تر، ولا يجوز الحذف من الحروف إلا إذا كان فيها تضعيف مثل: لعل، فيحذف، ويرجع عل، ويعترض في هذا الشرط بمنذ وفد حذف دون تضعيف فتأمله. قال القاضي أبو محمد: ومن ذلك في حديث خالد يوم مؤتة: فحاشى بالناس، فمعنى «حاشى لله» أي حاش يوسف لطاعة الله أو لمكان من الله أو لترفيع الله له أن يرمي بما رميته به، أو يدعى إله مثله لأن تلك أفعال البشر، وهو ليس منهم إنما هو ملك- هكذا رتب أبو علي- الفارسي معنى هذا الكلام، على هاتين القراءتين اللتين في السبع- وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود، فعلى أن «حاشى» حرف استثناء- كما قال الشاعر [ابن عطية] : [الكامل] حاشى أبي ثوبان إنّ به ... ضنّا عن الملحاة والشتم وتسكين الشين في إحدى قراءتي الحسن، ضعيف، جمع بين ساكنين، وقراءته الثانية محذوفة الألف من «حاشى» . قال القاضي أبو محمد: والتشبيه بالملك هو من قبيل التشبيه بالمستعظمات وإن كانت لا ترى. وقرأ أبو الحويرث الحنفي والحسن «ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم» بكسر اللام في «ملك» ، وعلى هذه القراءة فالكلام فصيح لما استعظمن حسن صورته قلن: ما هذا إلا مما يصلح أن يكون عبد بشراء، إن هذا مما يصلح أن يكون ملكا كريما. ونصب «البشر» من قوله: ما هذا بَشَراً هو على لغة الحجاز شبهت ما بليس، وأما تميم فترفع، ولم يقرأ به. وروي أن يوسف عليه السلام أعطي ثلث الحسن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أعطي نصف الحسن، ففي بعض الأسانيد هو وأمه، وفي بعضها هو وسارة جدة أبيه. قال القاضي أبو محمد: وهذا على جهة التمثيل، أي لو كان الحسن مما يقسم لكان حسن يوسف يقع في نصفه، فالقصد أن يقع في نفس السامع عظم حسنه على نحو التشبيه برؤوس الشياطين وأنياب الأغوال. قوله عز وجل: ٣٢انظر تفسير الآية:٣٤ ٣٣انظر تفسير الآية:٣٤ ٣٤قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) قال الطبري: المعنى: فهذا الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، أي هذا الذي قطعتن أيديكن بسببه هو الذي جعلتني ضالة في هواه، والضمير عائد على يوسف في فِيهِ ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف، والضمير عائد على الحب، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه. ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة واستنامت إليهن في ذلك إذ قد علمت أنهن قد عذرنها، واستعصم معناه: طلب العصمة وتمسك بها وعصاني، ثم جعلت تتوعده وهو يسمع بقولها: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ إلى آخر الآية. واللام في قوله: لَيُسْجَنَنَّ لام القسم، واللام الأولى هي المؤذنة بمجيء القسم، والنون هي الثقيلة والوقف عليها بشدها، ولَيَكُوناً نونه هي النون الخفيفة، والوقف عليه بالألف، وهي مثل قوله: لَنَسْفَعاً [العلق: ١٥] ومثلها قول الأعشى: [الطويل] وصلّ على حين العشيات والضحى ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا أراد فاعبدن. وقرأت فرقة «وليكونن» بالنون الشديدة. والصَّاغِرِينَ الأذلاء الذين لحقهم الصغار. وقوله تعالى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ، روي أنه لما توعدته امرأة العزيز قال له النسوة: أطع مولاتك، وافعل ما أمرتك به فلذلك قال: مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ قال نحوه الحسن ووزن «يدعون» فى هذه الآية: يفعلن، بخلاف قولك: الرجال يدعون. وقرأ الجمهور «السّجن» بكسر السين، وهو الاسم، وقرأ الزهري وابن هرمز ويعقوب وابن أبي إسحاق «السّجن» بفتح السين وهي قراءة عثمان رضي الله عنه وطارق مولاه، وهو المصدر، وهو كقولك: الجزع والجزع. وقوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ إلى آخر الآية، استسلام لله تعالى ورغبة إليه وتوكل عليه المعنى: وإن لم تنجني أنت هلكت، هذا مقتضى قرينة كلامه وحاله، والضمير في إِلَيْهِ عائد على الفاحشة المعنية بما في قوله مِمَّا. وأَصْبُ مأخوذة من الصبوة، وهي أفعال الصبا، ومن ذلك قول الشاعر- أنشده الطبري-[الهزج] إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي ومن ذلك قول دريد بن الصمة: [الطويل] صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد والْجاهِلِينَ هم الذين لا يراعون حدود الله تعالى ونواهيه. وقوله: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ الآية، قول يوسف عليه السلام: رَبِّ السِّجْنُ إلى قوله: مِنَ الْجاهِلِينَ كلام يتضمن التشكي إلى الله عز وجل من حاله معهن، والدعاء إليه في كشف بلواه. فلذلك قال- بعد مقالة يوسف- فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أي أجابه إلى إرادته وصرف عنه كيدهن في أن حال بينه وبين المعصية، وقوله: السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صفتان لائقتان بقوله: فَاسْتَجابَ. قوله عز وجل: ٣٥انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٦ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) لما أبى يوسف المعصية، ويئست منه امرأة العزيز طالبته بأن قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فإما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإما حبسته كما أنا محبوسة. فحينئذ بدا لهم سجنه. قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر إن يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن قال أبو صالح: ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى. وبَدا معناه: ظهر، والفاعل ب بَدا محذوف تقديره بدو- أو- رأي. وجمع الضمير في لَهُمْ والساجن الملك وحده من حيث كان في الأمر تشاور. ويسجننه جملة دخلت عليها لام القسم. ولا يجوز أن يكون الفاعل ببدا لَيَسْجُنُنَّهُ لأن الفاعل لا يكون جملة بوجه، هذا صريح مذهب سيبويه. وقيل الفاعل لَيَسْجُنُنَّهُ وهو خطأ، وإنما هو مفسر للفاعل. والْآياتِ ذكر فيها أهل التفسير أنها قد القميص، قاله مجاهد وغيره، وخمش الوجه الذي كان مع قد القميص، قاله عكرمة، وحز النساء أيديهن، قاله السدي. قال القاضي أبو محمد: ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد بدو الآيات المبرئة له من التهمة، فهكذا يبين ظلمهم له وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرية ليوسف، ولا تتصور تبرية إلا في خبر القميص، فإن كان المتكلم طفلا- على ما روي- فهي آية عظيمة، وإن كان رجلا فهي آية فيها استدلال ما، والعادة أنه لا يعبر بآية إلا فيما ظهوره في غاية الوضوح، وقد تقع الْآياتِ أيضا على المبينات كانت في أي حد اتفق من الوضوح. ويحتمل أن يكون معنى قوله: مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ أي من بعد ما ظهر لهم من وجوه الأمر وقرائنه أن يوسف بريء، فلم يرد تعيين آية بل قرائن جميع القصة. و «الحين» في كلام العرب وفي هذه الآية الوقت من الزمن غير محدود يقع للقليل والكثير، وذلك بين موارده في القرآن وقال عكرمة «الحين» - هنا- يراد به سبعة أعوام، وقيل: بل يراد بذلك سنة. قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب ما كشف الغيب في سجن يوسف. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ «عتى حين» بالعين- وهي لغة هذيل- فقال له: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود، فكتب عمر إلى ابن مسعود: إن الله أنزل القرآن عربيا بلغة قريش، فبها أقرئ الناس، ولا تقرئهم بلغة هذيل، وروي عن ابن عباس أنه قال: عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات: هَمَّ [يوسف: ٢٤] فسجن، وقال: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: ٤٢] فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف: ٤٢] فطول سجنه، وقال: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يوسف: ٧٠] فروجع: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف: ٧٧] . وقوله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ الآية، المعنى: فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضا، وهذه «مع» تحتمل أن تكون باقتران وقت الدخول، وأن لا تكون بل دخلوا أفذاذا، وروي أنهما كانا للملك الأعظم- الوليد بن الريان- أحدهما: خبازه، والآخر: ساقيه. و «الفتى» الشاب، وقد تقع اللفظة على المملوك وعلى الخادم الحر، ويحتمل أن يتصف هذان بجميع ذلك، واللفظة من ذوات الياء، وقولهم: الفتوة شاذ. وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه، ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما، قاله السدي، فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزماه، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه، وقال له: كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف: لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات: أحبتني عمتي فامتحنت لمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت لمحبته لي، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت لمحبتها بما ترى، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا وأجيد، فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه وروى عم مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة، فأرادا سؤاله، فقال أحدهما واسمه بنو، فيما روي، إني رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان، فيها عناقيد عنب حسان، فكنت أعصرها وأسقي الملك وقال الآخر، واسمه مجلث، كنت أرى أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه. وقوله أَعْصِرُ خَمْراً قيل: إنه سمى العنب خمرا بالمئال، وقيل: هي لغة أزد عمان، يسمون العنب خمرا، وقال الأصمعي: حدثني المعتمر، قال: لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء، فقلت: ما تحمل؟ قال: خمرا، أراد العنب. وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «إني أراني أعصر عنبا» . قال القاضي أبو محمد: ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها. وقوله خُبْزاً يروى أنه رأى ثريدا فوق رأسه، وفي مصحف ابن مسعود «فوق رأسي ثريدا تأكل الطير منه» . وقوله إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال الجمهور: يريدان في العلم، وقال الضحاك وقتادة: المعنى: مِنَ الْمُحْسِنِينَ في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم، وقيل: إنه أراد إخباره أنهما يريان له إحسانا عليهما ويدا إذا تأول لهما ما رأياه، ونحا إليه ابن إسحاق. قوله عز وجل: ٣٧انظر تفسير الآية:٣٨ ٣٨قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) روي عن السدي وابن إسحاق: أن يوسف عليه السلام لما علم شدة تعبير منامه رأى الخبز وأنها تؤذن بقتله، ذهب إلى غير ذلك من الحديث، عسى ألا يطالباه بالتعبير، فقال لهما- معلما بعظيم علمه للتعبير-: إنه لا يجيئكما طعام في نومكما، تريان أنكما رزقتماه إلا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام، أي بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به. فروي أنهما قالا: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ثم نهض ينحي لهما على الكفر ويحسن لهما الإيمان بالله: فروي أنه قصد في ذلك وجهين: أحدهما: تنسيتهما أمر تعبير ما سألا عنه- إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما- والآخر: الطماعية في إيمانهما. ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته. وقال ابن جريج: أراد يوسف عليه السلام: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ في اليقظة تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما منه بعلم وبما يؤول إليه أمركما قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلك المآل. قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا إنما أعلمهم بأنه يعلم مغيبات لا تعلق لها برؤيا. وقصد بذلك أحد الوجهين المتقدمين. وهذا على ما روي من أنه نبىء في السجن، فإخباره كإخبار عيسى عليه السلام، وقال ابن جريج: كانت عادة ذلك الملك إذا أراد قتل أحد ممن في سجنه بعث إليه طعاما يجعله علامة لقتله. قال القاضي أبو محمد: وهذا كله لا يقتضيه اللفظ ولا ينهض به إسناد. وقوله: تَرَكْتُ مع أنه لم يتشبث بها، جائز صحيح، وذلك أنه عن تجنبه من أول بالترك، وساق لفظة الترك استجلابا لهما عسى أن يتوكأ الترك الحقيقي الذي هو بعد أخذ في الشيء، والقوم المتروكة ملتهم: الملك وأتباعه. وكرر قوله: هُمْ على جهة التأكيد، وحسن ذلك للفاصلة التي بينهما. وقوله: وَاتَّبَعْتُ الآية، تماد من يوسف عليه السلام في دعائهما إلى الملة الحنيفية، وزوال عن مواجهة- مجلث- لما تقتضيه رؤياه. وقرأ «آبائي» بالإسكان في الياء الأشهب العقيلي وأبو عمرو، وقرأ الجمهور «آبائي» بياء مفتوحة، قال أبو حاتم: هما حسنتان فاقرأ كيف شئت. وأما طرح الهمزة فلا يجوز، ولكن تخفيفها جيد فتصير ياء مكسورة بعد ياء ساكنة أو مفتوحة. وقوله: ذلِكَ إشارة إلى ملتهم وشرعهم، وكون ذلك فضلا عليهم بين، إذ خصهم الله تعالى بذلك وجعلهم أنبياء. وكونه فضلا على الناس هو إذ يدعون به إلى الدين ويساقون إلى النجاة من عذاب الله عز وجل. وقوله مِنْ شَيْءٍ هي مِنْ الزائدة المؤكدة التي تكون مع الجحد. وقوله لا يَشْكُرُونَ يريد الشكر التام الذي فيه الإيمان. قوله عز وجل: ٣٩انظر تفسير الآية:٤٢ ٤٠انظر تفسير الآية:٤٢ ٤١انظر تفسير الآية:٤٢ ٤٢يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وصفه لهما ب صاحِبَيِ السِّجْنِ هو: إما على أن نسبهما بصحبتهما للسجن من حيث سكناه- كما قال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف: ٤٤، الحشر: ٢٠] ، وأَصْحابِ الْجَحِيمِ [البقرة: ١١٩] ونحو هذا- وإما أن يريد صحبتهما له في السجن، فأضافهما إلى السجن بذلك، كأنه قال: يا صاحبيّ في السجن، وهذا كما قيل في الكفار إن الأصنام شركاؤهم وعرضه عليهما بطول أمر الأوثان بأن وصفها «بالتفرق» ، ووصف الله تعالى ب «الوحدة» و «القهر» تلطف حسن وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته، وهكذا الوجه في محاجة الجهلة أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك أبدا حتى يصل إلى الحق، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم. وقوله: إِلَّا أَسْماءً ذهب بعض المتكلمين إلى أنه أوقع في هذه الآية الأسماء على المسميات وعبر عنها بها إذ هي ذوات أسماء. قال القاضي أبو محمد: والاسم الذي هو ألف وسين وميم- قد يجري في اللغة مجرى النفس والذات والعين، فإن حملت الآية على ذلك صح المعنى، وليس الاسم- على هذا- بمنزلة التسمية التي هي رجل وحجر، وإن أريد بهذه الأسماء التي في الآية أسماء الأصنام التي هي بمنزلة اللات والعزى ونحو ذلك من تسميتها آلهة، فيحتمل أن يريد: إلا ذوات أسماء، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ويحتمل- وهو الراجح المختار إن شاء الله- أن يريد: ما تعبدون من دونه ألوهية ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لإله إلا باسم فقط لا بالحقيقة، وأما الحقيقة فهي وسائر الحجارة والخشب سواء، فإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعتم، فذلك هو معبودكم إذا حصل أمركم فعبر عن هذا المعنى باللفظ المسرود في الآية، ومن هذه الآية وهم من قال- في قولنا: رجل وحجر- إن الاسم هو المسمى في كل حال، وقد بانت هذه المسألة في صدر التعليق. ومفعول «سميتم» الثاني محذوف، تقديره: آلهة، هذا على أن «الأسماء» يراد بها ذوات الأصنام، وأما على المعنى المختار- من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء وليست موجودة في الأصنام- فقوله سَمَّيْتُمُوها بمنزلة وضعتموها، فالضمير للتسميات، ووكد الضمير ليعطف عليه. وال سُلْطانٍ الحجة، وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ليس لأصنامكم التي سميتموها آلهة من الحكم والأقدار والأرزاق شيء، أي فما بالها إذن؟ ويحتمل أن يريد الرد على حكمهم في نصبهم آلهة دون الله تعالى وليس لهم تعدي أمر الله في أن لا يعبد غيره، والْقَيِّمُ معناه: المستقيم. وأَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لجهالتهم وغلبة الكفر. ثم نادى يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ثانية لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب، فروي أنه قال لنبو: أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وقال لمجلث: أما أنت فتصلب، وذلك كله بعد ثلاث، فروي أنهما قالا له: ما رأينا شيئا وإنما تحالمنا لنجربك وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب وقيل: كانا رأيا ثم أنكرا. وقرأت فرقة: «يسقي ربه» من سقى، وقرأت فرقة من أسقى، وهما لمعنى واحد لغتان وقرأ عكرمة والجحدري: «فيسقى ربه خمرا» بضم الياء وفتح القاف أي ما يرويه. وأخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله تعالى: إن الأمر قد قضي ووافق القدر. وقوله: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ الآية. «الظن» هاهنا- بمعنى اليقين، لأن ما تقدم من قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ يلزم ذلك، وهو يقين فيما لم يخرج بعد إلى الوجود: وقال قتادة: «الظن» - هنا- على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن. قال القاضي أبو محمد: وقول يوسف عليه السلام: قُضِيَ الْأَمْرُ دال على وحي ولا يترتب قول قتادة إلا بأن يكون معنى قوله قُضِيَ الْأَمْرُ أي قضي كلامي وقلت ما عندي وتم، والله أعلم بما يكون بعد. وفي الآية تأويل آخر، وهو: أن يكون ظَنَّ مسندا إلى الذي قيل له: إنه يسقي ربه خمرا، لأنه دخلته أبهة السرور بما بشر به وصار في رتبة من يؤمل حين ظن وغلب على معتقده أنه ناج: وذلك بخلاف ما نزل بالآخر المعرف بالصلب. ومعنى الآية: قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك: اذْكُرْنِي عند الملك، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق، أو يذكره بهما. والضمير في أنساه قيل: هو عائد على يوسف عليه السلام، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق، فروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك، وطول سجنه عقوبة على ذلك، وقيل: أوحي إليه: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك، وقيل: إن الضمير في أنساه عائد على الساقي- قاله ابن إسحاق- أي نسي ذكر يوسف عند ربه، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده، و «الرب» - على هذا التأويل- الملك. وبِضْعَ في كلام العرب اختلف فيه، فالأكثر على أنه من الثلاثة إلى العشرة، قاله ابن عباس، وعلى هذا هو فقه مذهب مالك رحمه الله في الدعاوى والأيمان وقال أبو عبيدة: «البضع» لا يبلغ العقد ولا نصف العقد، وإنما هو من الواحد إلى الأربعة، وقال الأخفش «البضع» من الواحد إلى العشرة، وقال قتادة: «البضع» من الثلاثة إلى التسعة، ويقوي هذا ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق في قصة خطره مع قريش في غلبة الروم لفارس «أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع» . وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة، قال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع العشرات، لا يذكر مع مائة ولا مع ألف، والذي روي في هذه الآية أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين ثم نزلت له قصة الفتيين وعوقب على قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ بالبقاء في السجن سبع سنين، فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة، وقيل: عوقب ببقاء سنتين، وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» ، ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس. قوله عز وجل: ٤٣انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٤انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٥وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) المعنى: وَقالَ الْمَلِكُ الأعظم: إِنِّي أَرى يريد في منامه، وقد جاء ذلك مبينا في قوله تعالى: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: ١٠٤] . وحكيت حال ماضية ف أَرى وهو مستقبل من حيث يستقبل النظر في الرؤيا. سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يروى أنه قال: رأيتها خارجة من نهر، وخرجت وراءها سَبْعٌ عِجافٌ، فرأيتها أكلت تلك السمان حتى حصلت في بطونها ورأى «السنابل» أيضا كما ذكر، و «العجاف» التي بلغت غاية الهزال، ومنه قول الشاعر: [الكامل] ورجال مكة مسنتون عجاف ثم قال لجماعته وحاضريه: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي. قرأت فرقة بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بأن لفظت بألف «أفتوني» واوا. وقوله لِلرُّءْيا دخلت اللام لمعنى التأكيد والربط، وذلك أن المفعول إذا تقدم حسن في بعض الأفعال أن تدخل عليه لام، وإذا تأخر لم يحتج الفعل إلى ذلك. و «عبارة الرؤيا» مأخوذة من عبر النهر، وهو تجاوزه من شط إلى شط، فكأن عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها. وقوله: قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ الآية، «الضغث» في كلام العرب أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب ونحوه، وربما كان ذلك من جنس واحد. وربما كان من أخلاط النبات، فمن ذلك قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً [ص: ٤٤] وروي أنه أخذ عثكالا من النخل، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل نحو هذا في حد أقامه على رجل زمن، ومن ذلك قول ابن مقبل: [الكامل] خود كأنّ فراشها وضعت به ... أضغاث ريحان غداة شمال ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها: ضغث على إبالة فيشبه اختلاط الأحلام باختلاط الجملة من النبات، والمعنى أن هذا الذي رأيت أيها الملك اختلاط من الأحلام بسبب النوم، ولسنا من أهل العلم بذلك، أي بما هو مختلط ورديء فإنما نفوا عن أنفسهم عبر الأحلام لا عبر الرؤيا على الإطلاق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان» . وقال للذي كان يرى رأسه يقطع ثم يرده فيرجع: «إذا لعب الشيطان بأحدكم في النوم فلا يحدث بذلك» . قال القاضي أبو محمد: فالأحلام وحدثان النفس ملغاة، والرؤيا هي التي تعبر ويلتمس علمها. والباء في قولهم بِعالِمِينَ للتأكيد، وفي قولهم: بِتَأْوِيلِ للتعدية وهي متعلقة بقولهم بِعالِمِينَ. والْأَحْلامِ جمع حلم، يقال: حلم الرجل- بفتح اللام- يحلم: إذا خيل إليه في منامه، والأحلام مما أثبتته الشريعة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا من الله وهي المبشرة والحلم المحزن من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليتفل على يساره ثلاث مرات وليقل: أعوذ بالله من شر ما رأيت، فإنها لا تضره» . وما كان عن حديث النفس في اليقظة فإنه لا يلتفت إليه. ولما سمع الساقي- الذي نجا- هذه المقالة من الملك ومراجعة أصحابه، تذكر يوسف وعلمه بتأويل الأحلام والرؤى، فقال مقالته في هذه الآية. وادَّكَرَ أصله ادتكر- افتعل- من الذكر، قلبت التاء دالا وأدغم الأول في الثاني، ثم بدلت دالا غير منقوطة لقوة الدال وجلدها، وبعض العرب يقول: اذكر وقرىء «فهل من مذكر» [القمر: ١٥، ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠، ٥١] بالنقط ومِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: ١٥، ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠، ٥١] على اللغتين وقرأ جمهور الناس: «بعد أمة» وهي المدة من الدهر، وقرأ ابن عباس وجماعة «بعد أمة» وهو النسيان، وقرأ مجاهد وشبل بن عزرة «بعد أمه» بسكون الميم وهو مصدر من أمه إذا نسي، وقرأ الأشهب العقيلي «بعد إمة» بكسر الهمزة، والإمة: النعمة والمعنى: بعد نعمة أنعمها الله على يوسف في تقريب إطلاقه وعزته. وبقوله: ادَّكَرَ يقوي قول من يقول: إن الضمير في أَنْسانِيهُ [الكهف: ٦٣] عائد على الساقي، والأمر محتمل. وقرأ الجمهور: «أنا أنبئكم» وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «أنا آتيكم» ، وكذلك في مصحف أبي بن كعب. وقوله: فَأَرْسِلُونِ استئذان في المضي، فقيل: كان السجن في غير مدينة الملك- قاله ابن عباس- وقيل: كان فيها. قال القاضي أبو محمد: ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال. قوله عز وجل: ٤٦انظر تفسير الآية:٤٩ ٤٧انظر تفسير الآية:٤٩ ٤٨انظر تفسير الآية:٤٩ ٤٩يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) المعنى: فجاء الرسول- وهو الساقي- إلى يوسف فقال له: يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ- وسماه صديقا من حيث كان جرب صدقه في غير شيء- وهو بناء مبالغة من صدق، وسمي أبو بكر صديقا من صدق غيره، إذ مع كل تصديق صدق، فالمصدق بالحقائق صادق أيضا، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: ١٩] . ثم قال: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ أي فيمن رأى في المنام سبع بقرات، وحكى النقاش حديثا روى فيه: أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه، وأخرجه من، السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سببا لفرج يوسف. ويروى أن الملك كان يرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يخرجن من نهر، وتخرج وراءها سَبْعٌ عِجافٌ، فتأكل العجاف السمان، فكان يعجب كيف غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف، وكان يرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وقد التفت بها سبع يابسات، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضا لذلك. وقوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أي تأويل هذه الرؤيا، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس. وقيل: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سببا لتخلصك. وقوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ الآية، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول: أحدها: تعبير بالمعنى لا باللفظ. والثاني: عرض رأي وأمر به، وهو قوله: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ. والثالث: الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة. قال القاضي أبو محمد: ويحتمل هذا ألا يكون غيبا، بل علم العبارة، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف، كما أعطى أن النهر مثال للزمان. إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالا للسنين. ودَأَباً معناه: ملازمة لعادتكم في الزراعة، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل] كدأبك من أم الحويرث قبلها.. البيت وقرأ جمهور السبعة «دأبا» بإسكان الهمزة، وقرأ عاصم وحده «دأبا» بفتح الهمزة، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة، وهما مثل: نهر ونهر. والناصب لقوله: دَأَباً تَزْرَعُونَ، عند أبي العباس المبرد، إذ في قوله تَزْرَعُونَ تدأبون، وهي عنده مثل قولهم: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر، كأنه قال: تزرعون تدأبون دأبا. وقوله فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب، ويؤكل الأقدم فالأقدم فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الناس الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر، وادخروا أيضا الشيء الذي يصاب في أعوام الجدب على قلته، وحملت الأعوام بعضها على بعض حتى يتخلص الناس، وإلى هذه السنين أشار النبي عليه السلام في دعائه على قريش: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» ، فابتدأ ذلك بهم ونزلت سنة حصت كل شيء حتى دعا لهم النبي عليه السلام فارتفع ذلك عنهم ولم يتماد سبع سنين، وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك وأعجبه أمره، قال له الملك: قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة، فكان هذا أول ما ولي يوسف. وأسند الأكل في قوله: يَأْكُلْنَ إلى السنين اتساعا من حيث يؤكل فيها كما قال تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [النمل: ٨٦، يونس: ٦٧، غافر: ٦١] وكما قال: نهارك بطال وليلك قائم وهذا كثير في كلام العرب. ويحتمل أن يسمى فعل الجدب وإيباس البلالات أكلا، وفي الحديث: «فأصابتهم سنة حصت كل شيء» وقال الأعرابي في السنة جمشت النجم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم. وتُحْصِنُونَ معناه تحرزون وتخزنون، قاله ابن عباس، وهو مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ، ومنه تحصن النساء لأنه بمعنى التحرز. وقوله: يُغاثُ جائز أن يكون من الغيث، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين، أي يمطرون، وجائز أن يكون من أغاثهم الله، أذا فرج عنهم، ومنه الغوث وهو الفرج. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يعصرون» بفتح الياء وكسر الصاد، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة، وقال جمهور المفسرين: هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة وروي أنهم لم يعصروا شيئا مدة الجدب، والحلب منه لأنه عصر للضروع. وقال أبو عبيدة وغيره: ذلك مأخوذ من العصرة والعصر وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه: [الخفيف] صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود ومنه قول عدي بن زيد: [الرمل] لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري ومنه قول ابن مقبل: [البسيط] وصاحبي وهوه مستوهل زعل ... يحول بين حمار الوحش والعصر ومنه قول لبيد: [الطويل] فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقافا بغير معصر أي بغير ملتجأ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة. وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد «يعصرون» بضم الياء وفتح الصاد، وهذا مأخوذ من العصرة، أي يؤتون بعصرة ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم، قال ابن المستنير: معناها يمطرون، وحكى النقاش أنه قرىء «يعصرون» وجعلها من عصر البلل ونحوه. ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة ردا كثيرا بغير حجة. قوله عز وجل: ٥٠وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) في تضاعيف هذه الآية محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدل عليها، والمعنى هنا: فرجع الرسول إلى الملأ والملك فقص عليهم مقالة يوسف، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير وحسن الرأي وتضمن الغيب في أمر العام الثامن، مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنامة المتقدمة، فعظم يوسف في نفس الملك، وقال ائْتُونِي بِهِ، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه، وقال: إن الملك قد أمر بأن تخرج، قال له: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ- أي الملك- وقل له: ما بالُ النِّسْوَةِ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان- وقل له: يستقصي عن ذنبي وينظر في أمري، هل سجنت بحق أو بظلم. فرسم قصته بطرف منها إذا وقع النظر عليه بان الأمر كله. ونكب عن ذكر امرأة العزيز حسن عشرة ورعاية لذمام ملك العزيز له. وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو حيوة «النّسوة» بضم النون، وقرأ الباقون «النّسوة» بكسر النون. وهما لغتان في تكسير نساء الذي هو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقرأت فرقة «اللايي» بالياء، وقرأ فرقة «اللاتي» بالتاء وكلاهما جمع التي. وكان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبرا وطلبا لبراءة الساحة، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه صفحا، فيراه الناس بتلك العين أبدا، ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه، فأراد يوسف عليه السلام أن تبين براءته وتتحقق منزلته من العفة والخير، وحينئذ يخرج للإخطاء والمنزلة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يرحم الله أخي يوسف، لقد كان صابرا حليما، ولو لبثت في السجن لبثه لأجبت الداعي ولم ألتمس العذر حينئذ» ، وروي نحو هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك في كتاب التفسير من صحيح البخاري، وليس لابن القاسم في الديوان غيره. وهنا اعتراض ينبغي أن ينفصل عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكر هذا الكلام على جهة المدح ليوسف، فما باله هو، يذهب بنفسه عن حالة قد مدح بها غيره، فالوجه في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ لنفسه وجها آخر من الرأي له جهة أيضا من الجودة، أي لو كنت أنا لبادرت بالخروج ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك وذلك أن هذه القصص والنوازل إنما هي معرضة ليقتدي الناس بها يوم القيامة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور، وذلك أن المتعمق في مثل هذه النازلة التارك فرصة الخروج من مثل ذلك السجن، ربما تنتج له من ذلك البقاء في سجنه، وانصرفت نفس مخرجه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أمن من ذلك بعلمه من الله فغيره من الناس لا يأمن ذلك فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ومدح، وما فعله يوسف عليه السلام صبر عظيم وجلد. وقوله إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ يحتمل أن يريد بالرب الله عز وجل، وفي الآية وعيد- على هذا- وتهديد، ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه، ففي ذلك استشهاد به وتقريع له. والضمير في «كَيْدَهُنَّ» ل النِّسْوَةِ المذكورات لا للجنس لأنها حالة توقيف على ذنب. قوله عز وجل: ٥١قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) المعنى: فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن، وقال لهن: ما خَطْبُكُنَّ ... الآية، أي: أي شيء كانت قصتكن؟ فهو استدعاء منه أن يعلمنه القصة فجاوب النساء بجواب جيد، تظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قرر لهن أنهن راودنه قلن- جوابا عن ذلك- حاشَ لِلَّهِ وقد يحتمل- على بعد- أن يكون قولهن حاشَ لِلَّهِ في جهة يوسف عليه السلام، وقولهن: ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في إحدى الجهتين، ولو قلن: ما علمن عليه إلا خيرا لكان أدخل في التبرية. وقد بوب البخاري على هذه الألفاظ على أنها تزكية، وأدخل قول أسامة بن زيد في حديث الإفك: أهلك ولا نعلم إلا خيرا. قال القاضي أبو محمد: وأما مالك رحمه الله فلا يقنع بهذا في تزكية الشاهد، لأنه ليس بإثبات العدالة. قال بعض المفسرين فلما سمعت زوجة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي حضرتها نية وتحقيق، فقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. وحَصْحَصَ معناه: تبين بعد خفائه، كذا قال الخليل وغيره وقيل: هو مأخوذ من الحصة، أي بانت حصته من حصة الباطل. ثم أقرت على نفسها بالمراودة والتزمت الذنب وأبرأت يوسف البراءة التامة. قوله عز وجل: ٥٢انظر تفسير الآية:٥٣ ٥٣ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) قالت جماعة من أهل التأويل: هذه المقالة هي من يوسف عليه السلام، وذلك: لِيَعْلَمَ العزيز سيدي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في أهله وهو غائب، وليعلم أيضا أن الله تعالى لا يَهْدِي كيد خائن ولا يرشد سعيه. قال القاضي أبو محمد: والهدى للكيد مستعار، بمعنى لا يكلمه ولا يمضيه على طريق إصابة، ورب كيد مهدي إذا كان من تقي في مصلحة. واختلفت هذه الجماعة فقال ابن جريج: هذه المقالة من يوسف هي متصلة بقوله للرسول: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف: ٥٠] ، وفي الكلام تقديم وتأخير، فالإشارة بقوله: ذلِكَ- على هذا التأويل- هي إلى بقائه في السجن والتماسه البراءة أي هذا ليعلم سيدي أني لم أخنه. وقال بعضهم: إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها، إلى قولها: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: ٥١] فالإشارة- على هذا- إلى إقرارها، وصنع الله تعالى فيه، وهذا يضعف، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك، وبعد هذا يقول الملك: ائْتُونِي بِهِ [يوسف: ٥٤] . وقالت فرقة من أهل التأويل: هذه الآية من قول امرأة العزيز، وكلامها متصل، أي قولي هذا وإقراري ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته بأن أكذب عليه أو أرميه بذنب هو بريء منه والتقدير- على هذا التأويل توبتي وإقراري ليعلم أني لم أخنه وأن الله لا يهدي ... وعلى أن الكلام من يوسف يجيء التقدير: وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين. وقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي الآية، هذه أيضا مختلف فيها هل هي من كلام يوسف أم من كلام المرأة، حسب التي قبلها: فمن قال من كلام يوسف روى في ذلك: عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما قال يوسف: أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل: ولا حين هممت وحللت سراويلك، وقال نحوه ابن عباس وابن جبير وعكرمة والضحاك. وروي أن المرأة قالت له ذلك، قاله السدي، وروي أن يوسف تذكر من تلقائه ما كان هم به فقال: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، قاله ابن عباس أيضا. ومن قال: إن المرأة قالت وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي فوجه كلامها الاعتذار عن وقوعها فيما يقع فيه البشر من الشهوات، كأنها قالت: وما هذا ببدع ولا ذلك نكير على البشر فأبرىء أنا منه نفسي، والنفوس أمارات بالسوء مائلة إليه. وأمارة بناء مبالغة، وما في قوله: إِلَّا ما رَحِمَ مصدرية، هذا قول الجمهور فيها، وهو على هذا. استثناء منقطع، أي إلا رحمة ربي. ويجوز أن تكون بمعنى «من» ، هذا على أن تكون النفس يراد بها النفوس إذ النفس تجري صفة لمن يعقل كالعين والسمع، كذا قال أبو علي، فتقدير الآية: إلا النفوس التي يرحمها الله. قال القاضي أبو محمد: وإذن النفس اسم جنس، فصح أن تقع ما مكان «من» إذ هي كذلك في صفات من يعقل وفي أجناسه، وهو نص في كلام المبرد، وهو- عندي- معنى كلام سيبويه، وهو مذهب أبي علي- ذكره في البغداديات. ويجوز أن تكون ما ظرفية، المعنى: أن النفس لأمارة بالسوء إلا مدة رحمة الله العبد وذهابه عن اشتهاء المعاصي. ثم ترجى في آخر الآية بقوله: إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. قوله عز وجل: ٥٤انظر تفسير الآية:٥٧ ٥٥انظر تفسير الآية:٥٧ ٥٦انظر تفسير الآية:٥٧ ٥٧وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) المعنى أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله فقال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي. قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي أمّ يوسف عليه السلام بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فتأمل أن الملك قال أولا- حين تحقق علمه- ائْتُونِي بِهِ [يوسف: ٥٠] فقط، فلما فعل يوسف ما فعل، فظهرت أمانته وصبره وعلو همته وجودة نظره قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فلما جاءه وكلمه قال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ فدل ذلك على أنه رأى من كلامه وحسن منطقه ما صدق به الخبر أو أربى عليه، إذ المرء مخبوء تحت لسانه ثم لما زاول الأعمال مشى القدمية حتى ولاه خطة العزيز. وأَمِينٌ من الأمانة، وقالت فرقة هو بمعنى آمن. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يخرج من نمط الكلام وينحط إكرام يوسف كثيرا ويروى أن الملك لما أدنى يوسف قال له: إني أشاركك في كل شيء إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي وأن لا يأكل معي عبدي، فقال له يوسف: أتأنف أن آكل معك؟ أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم الخليل، وابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الصديق. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الحديث بعد وضعف، وقد قال ابن ميسرة: إنما جرى هذا في أول أمره، كان يأكل مع العزيز، فلما جرت قصد المرأة قالت للعزيز: أتدع هذا يواكلك؟ فقال له: اذهب فكل مع العبيد فأنف وقال ما تقدم. اما ان الظاهر من قصته وقت محاورة الملك أنه كان على عبودية، وإلا كان اللائق به أن ينتحي بنفسه عن عمل الكافر، لأن القوم كانوا أهل أوثان ومحاورة يوسف لصاحبي السجن تقضي بذلك. وسمى الله تعالى فرعون مصر ملكا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، ولو كان حيا لكان حكما له إذا قيل لكافر: ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فقال: «عظيم الروم» ، ولم يقل: ملكا ولا أميرا، لأن ذلك حكم، والحق أن يسلم ويسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيفما تقلب، ولو كتب له النبي عليه السلام: أمير الروم، لتمسك بتلك الحجة على نحو تمسك زياد في قوله: شهد- والله- لي أبو الحسن. وقوله تعالى: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ الآية، فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره في الملك، فألقى يده في الفصل الذي تمكنه فيه المعدلة ويترتب له الإحسان إلى من يجب ووضع الحق على أهله وعند أهله. قال بعض أهل التأويل: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء وأما إن كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز له ذلك. قال القاضي أبو محمد: وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام لرغبته في أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر الصديق في الخلافة مع نهيه المستشير من الأنصار عن أن يتأمر على اثنين ... الحديث بكماله فجائز للفاضل أن يعمل وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه، وجائز أيضا للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره. وخَزائِنِ لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره. وحَفِيظٌ عَلِيمٌ صفتان تعم وجوه التثقيف والحيطة لا خلل معهما لعامل. وقد خصص الناس بهاتين الصفتين أشياء، مثل قولهم: «حفيظ» بالحساب «عليم» بالألسن، وقول بعضهم: «حفيظ» لما استودعتني، «عليم» بسني الجوع، وهذا كله تخصيص لا وجه له، وإنما أراد باتصافه أن يعرف الملك بالوجه الذي به يستحق الكون على خزائن الأرض فاتصف بأنه يحفظ المجبي من كل جهة تحتاج إلى الحفظ. ويعلم التناول أجمع. وروي عن مالك بن أنس أنه قال: مصر خزانة الأرض، واحتج بهذه الآية. وقوله خَزائِنِ الْأَرْضِ يريد أرض مصر إذ لم تكن مملكة فرعون إلا بها فقط، ويؤكد أن تسمى خزانة الأرض نصبتها في بلاد الأرض وتوسطها، فمنها ينقل الناس إلى أقطار الأرض وهي محل كل جالب. وقوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ الآية، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الأفعال المنصوصة، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض. قال القاضي أبو محمد: فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق: بل عزله الملك ثم مات أطفير، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه عروسا قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت أردت؟ فقالت له: أيها الصديق كنت في غاية الجمال، وكنت شابة عذراء، وكان زوجي لا يطأ، فغلبتني نفسي في حبك، فدخل يوسف بها فوجدها بكرا، وولدت له ولدين. وروي أن الملك عزل العزيز، وولاه موضعه، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد: وأسلم الملك آخر أمره، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه، ومات وافتقرت زوجته، وزمنت وشاخت، فلما كان في بعض الأيام. لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَسُبْحانَ اللَّهِ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: ١٠٨] فصاحت به وقالت: سبحان من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب بالمعصية، فعرفها، وقالت له: تعطف عليّ وارزقني شيئا فدعاها وكلمها، وأشفق لحالها، ودعا الله تعالى، فرد عليها جمالها وتزوجها. قال القاضي أبو محمد: وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه. وقرأ الجمهور: «حيث يشاء» على الإخبار عن يوسف وقرأ ابن كثير وحده «حيث نشاء» بالنون على ضمير المتكلم. أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين وقال أبو علي: إما أن يكون تقدير هذه القراءة: حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها وإما أن يكون معناها: حيث يشاء يوسف، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: ١٧] . قال القاضي أبو محمد: وهذا كله من أبي على نزغة اعتزالية، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين، فتأمله. واللام في قوله: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ يجوز أن تكون على حد التي في قوله رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢] ولِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: ٤٣] . وقوله: يَتَبَوَّأُ في موضع نصب على الحال، وحَيْثُ يَشاءُ نصب على الظرف أو على المفعول به، كما قال الشماخ: حيث تكوى النواحز. وباقي الآية بين. ولما تقدم في هذه الآية الإحسان من العبد، والجري على طريق الحق لا يضيع عند الله ولا بد من حسن عاقبته في الدنيا، عقب ذلك بأن حال الآخرة أحمد وأحرى أن تجعل غرضا ومقصدا، وهذا هو الذي ينتزع من الآية بحسب المقيدين بالإيمان والتقوى من الناس وفيها مع ذلك إشارة إلى أن حاله من الآخرة خير من حاله العظيمة في الدنيا. قوله عز وجل: ٥٨انظر تفسير الآية:٦٠ ٥٩انظر تفسير الآية:٦٠ ٦٠وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قال السدي وغيره: سبب مجيئهم أن الجماعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب، وروي أنه كان في الغربات من أرض فلسطين بغور الشام. وقيل: كان بالأولاج من ناحية الشعب، وكان صاحب بادية له إبل وشاء، فأصابهم الجوع، وكان أهل مصر قد استعدوا وادخروا من السنين الخصيبة، فكان الناس يمتارون من عند يوسف، وهو في رتبة العزيز المتقدم، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير، يسوي بين الناس، فلما ورد إخوته عرفهم يوسف ولم يعرفوه هم، لبعد العهد وتغير سنه، ولم يقع لهم- بسبب ملكه ولسانه القبطي- ظن عليه وروي في بعض القصص: أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم- بترجمان- أظنكم جواسيس، فاحتاجوا- حينئذ- إلى التعريف بأنفسهم فقالوا: نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثني عشر، ذهب واحد منا في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا، وكانوا عشرة، ولهم أحد عشر بعيرا فقال لهم يوسف: ولم تخلف أخوكم؟ قالوا: لمحبة أبينا فيه، قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين؟ وروي في القصص أنهم وردوا مصر، واستأذنوا على العزيز وانتسبوا في الاستئذان، فعرفهم، وأمر بإنزالهم، وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه وأهبة شنيعة وروي أنه كان متلثما أبدا سترا لجماله، وأنه كان يأخذ الصواع فينقره، ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم يوسف: صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب، طن يوسف الصاع وقال: كذبتم، ثم تغير لهم، وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك، في قصص طويل جاءت الإشارة إليه في القرآن وجيزة. و «الجهاز» ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع وكل ما يحمل، وكذلك جهاز العروس وجهاز الميت. وقول يوسف عليه السلام: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ الآية، يرغبهم في نفسهم آخرا، ويؤنسهم ويستميلهم. والْمُنْزِلِينَ يعني المضيفين في قطره ووقته، و «الجهاز» - المشار إليه- الطعام الذي كان حمله لهم، ثم توعدهم إن لم يجيئوا بالأخ بأنه لا كيل لهم عنده في المستأنف، وأمرهم ألا يقربوا له بلدا ولا طاعة، ولا تَقْرَبُونِ نهي لفظا ومعنى، ويجوز أن يكون لفظه الخبر ومعناه النهي، وتحذف إحدى النونين كما قرىء فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: ٥٤]- بكسر النون- وهذا خبر لا غير. وخلط النحاس في هذا الموضع وقال مالك رحمه الله: هذه الآية وما يليها تقتضي أن كيل الطعام على البائع، وكذلك هي الرواية في التولية والشركة: أنها بمنزلة البيع، والرواية في القرض: أن الكيل على المستقرض. وروي أنه حبس منهم شمعون رهينة حتى يجيئوه ببنيامين، - قاله السدي- وروي: أنه لم يحبس منهم أحدا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان يوسف يلقي حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيطن فيقول لهم: إن هذا الإناء يخبرني أن لكم أبا شيخا» . قال القاضي أبو محمد: كأنها حيلة وإيهام لهم، وروي: أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام إظهارا لعزته بحسب غلائه في تلك المدة، وروي: أن يوسف استوفى في تلك السنين أموال الناس، ثم أملاكهم، فمن هناك ليس لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك. وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع ليكمل أجر يعقوب ومحنته وتتفسر الرؤيا الأولى. قوله عز وجل: ٦١انظر تفسير الآية:٦٣ ٦٢انظر تفسير الآية:٦٣ ٦٣قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) تقدم معنى «المراودة» أي سنفائل أباه في أن يتركه يأتي معنا إليك، ثم شددوا هذه المقالة بأن التزموها له في قولهم: وَإِنَّا لَفاعِلُونَ، وأراد يوسف عليه السلام المبالغة في استمالتهم بأن رد مال كل واحد منهم في رحله بين طعامه، وأمر بذلك فتيانه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «لفتيته» وقرأ حمزة والكسائي: «لفتيانه» ، واختلف عن عاصم، ففتيان للكثرة- على مراعاة المأمورين- وفتية للقلة- على مراعاة المتناولين وهم الخدمة- ويكون هذا الوصف للحر والعبد. وفي مصحف ابن مسعود: «وقال لفتيانه» وهو يكايلهم. وقوله لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها يريد: لعلهم يعرفون لها يدا، أو تكرمة يرون حقها، فيرغبون فينا، فلعلهم يرجعون حينئذ وأما ميز البضاعة فلا يقال فيه: لعل، وقيل: قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن، وهذا ضعيف من وجوه، وسرورهم بالبضاعة وقولهم: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف: ٦٥] يكشف أن يوسف لم يقصد هذا وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم، فيرغبهم في نفسه كالذي كان وخص البضاعة بعينها- دون أن يعطيهم غيرها من الأموال- لأنها أوقع في نفوسهم، إذ يعرفون حلها، وماله هو إنما كان عندهم مالا مجهول الحال، غايته أن يستجاز على نحو استجازتهم قبول الميرة ويظهر أن ما فعل يوسف من صلتهم، وجبرهم في تلك الشدة كان واجبا عليه، إذ هو ملك عدل وهم أهل إيمان ونبوة وقيل: علم عدم البضاعة والدراهم عند أبيه، فرد البضاعة إليهم لئلا يمنعهم العدم من الانصراف إليه وقيل: جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك، ليبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة. قال القاضي أبو محمد: والظاهر من القصة أنه إنما أراد الاستئلاف وصلة الرحم. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «نكتل» بالنون على مراعاة مُنِعَ مِنَّا ويقويه: وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَزْدادُ [يوسف: ٦٥] وقرأ حمزة والكسائي: «يكتل» بالياء، أي يكتل يامين كما اكتلنا نحن. وأصل نَكْتَلْ، وزنه نفتعل. وقولهم مُنِعَ مِنَّا ظاهره أنهم أشاروا إلى قوله: فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي [يوسف: ٦٠] فهو خوف في المستأنف وقيل: أشاروا إلى بعير بنيامين- الذي لم يمتر- والأول أرجح. ثم تضمنوا له حفظه وحيطته. قوله عز وجل: ٦٤انظر تفسير الآية:٦٥ ٦٥قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قوله هَلْ توقيف وتقرير، وتألم يعقوب عليه السلام من فرقة بنيامين، ولم يصرح بمنعهم من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة، لكنه أعلمهم بقلة طمأنينته إليهم. وأنه يخاف عليه من كيدهم، ولكن ظاهر أمرهم أنهم كانوا نبئوا وانتقلت حالهم، فلم يخف كمثل ما خاف على يوسف من قبل، لكن أعلم بأن في نفسه شيئا، ثم استسلم لله تعالى، بخلاف عبارته في قصة يوسف. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم- في رواية أبي بكر- «خير حفظا» وقرأ حمزة والكسائي وحفص- عن عاصم- «خير حافظا» ونصب ذلك- في القراءتين- على التمييز. وقال الزجاج: يجوز أن ينصب «حافظا» على الحال، وضعف ذلك أبو علي الفارسي، لأنها حال لا بد للكلام والمعنى منها، وذلك بخلاف شرط الحال، وإنما المعنى أن حافظ الله خير حافظكم. ومن قرأ «حفظا» فهو مع قولهم: وَنَحْفَظُ أَخانا. ومن قرأ «حافظا» فهو مع قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: ٦٣] فاستسلم يعقوب عليه السلام لله وتوكل عليه. قال أبو عمرو الداني: قرأ ابن مسعود: «فالله خير حافظ وهو خير الحافظين» . قال القاضي أبو محمد: وفي هذا بعد. وقوله: فَتَحُوا مَتاعَهُمْ سمى المشدود المربوط بحملته متاعا، فلذلك حسن الفتح فيه، قرأ جمهور الناس: «ردت» بضم الراء، على اللغة الفاشية عن العرب، وتليها لغة من يشم، وتليها لغة من يكسر. وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب «ردت» بكسر الراء على لغة من يكسر- وهي في بني ضبة-، قال أبو الفتح: وأما المعتل- نحو قيل وبيع- فالفاشي فيه الكسر، ثم الإشمام، ثم الضم، فيقولون: قول وبوع، وأنشد ثعلب: [الرجز] ... وقول لا أهل له ولا مال قال الزجاج: من قرأ: «ردت» بكسر الراء- جعلها منقولة من الدال- كما فعل في قيل وبيع- لتدل على أن أصل الدال الكسرة. وقوله ما نَبْغِي يحتمل أن تكون ما استفهاما، قاله قتادة. ونَبْغِي من البغية، أي ما نطلب بعد هذه التكرمة؟ هذا مالنا رد إلينا مع ميرتنا. قال الزجّاج: ويحتمل أن تكون ما نافية، أي ما بقي لنا ما نطلب، ويحتمل أيضا أن تكون نافية، ونَبْغِي من البغي، أي ما تعدينا فكذبنا على هذا الملك ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة. وقرأ أبو حيوة «ما تبغي» - بالتاء، على مخاطبة يعقوب، وهي بمعنى: ما تريد وما تطلب؟ قال المهدوي: وروتها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأت فرقة: «ونمير» بفتح النون- من مار يمير: إذا جلب الخير، ومن ذلك قول الشاعر: [الوافر] بعثتك مائرا فمكثت حولا ... متى يأتي غياثك من تغيث وقرأت عائشة رضي الله عنها: «ونمير» بضم النون- وهي من قراءة أبي عبد الرحمن السلمي- وعلى هذا يقال: مار وأمار بمعنى ... ؟ وقولهم: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف إنما حمل لهم عشرة أبعرة ولم يحمل الحادي عشر لغيب صاحبه: وقال مجاهد: كَيْلَ بَعِيرٍ أراد كيل حمار. قال: وبعض العرب يقول للحمار بعير. قال القاضي أبو محمد: وهذا شاذ. وقولهم: ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ تقرير بغير ألف، أي أذلك كيل يسير في مثل هذا العام فيهمل أمره؟ وقيل: معناه: يَسِيرٌ على يوسف أن يعطيه. وقال الحسن البصري: وقد كان يوسف وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن وقال السدي: معنى ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي سريع لا نحبس فيه ولا نمطل. قال القاضي أبو محمد: فكأنهم أنسوه على هذا بقرب الأوبة. قوله عز وجل: ٦٦انظر تفسير الآية:٦٧ ٦٧قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) أراد يعقوب عليه السلام أن يتوثق منهم. و «الموثق» - مفعل- من الوثاقة. فلما عاهدوه أشهد الله بينه وبينهم بقوله: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ و «الوكيل» القيم الحافظ الضامن. وقرأ ابن كثير «تؤتوني» بياء في الوصل والوقف، وروي عن نافع أنه وصل بياء ووقف دونها. والباقون تركوا الياء في الوجهين. وقوله: لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ قيل: خشي عليهم العين لكونهم أحد عشر لرجل واحد، وكانوا أهل جمال وبسطة. قال ابن عباس والضحاك وقتادة وغيره: والعين حق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» ، وفي تعوذه عليه السلام: «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة وكل عين لامة» . وقيل: خشي أن يستراب بهم لقول يوسف قبل: أنتم جواسيس ويضعف هذا ظهورهم قبل بمصر. وقيل: طمع بافتراقهم أن يستمعوا أو يتطلعوا خبر يوسف- وهذا ضعيف يرده: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فإن ذلك لا يتركب على هذا المقصد. وقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والقسر والمعنى تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا تكون لكم حيلة ولا وجه تخلص. وقال مجاهد: المعنى: إلا أن تهلكوا جميعا. وقال قتادة: إلا ألا تطيقوا ذلك. قال القاضي أبو محمد: وهذا يرجحه لفظ الآية. وانظر أن يعقوب عليه السلام قد توثق في هذه القصة، وأشهد الله تعالى، ووصى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكله، فهذا توكل مع تسبب، وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شط في رفض السعي وقنع بماء وبقل البرية ونحوه، فتلك غاية التوكل وعليها بعض الأنبياء عليهم السلام، والشارعون منهم مثبتون سنن التسبب الجائز، وما تجاوز ذلك من الإلقاء باليد مختلف في جوازه، وقد فضله بعض المجيزين له، ولا أقول بذلك، وباقي الآية بين. قوله عز وجل: ٦٨انظر تفسير الآية:٦٩ ٦٩وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) روي أنه لما ودعوا أباهم قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا. وفي كتاب أبي منصور المهراني: أنه خاطبه بكتاب قرىء على يوسف فبكى. وقوله: ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها بمثابة قولهم: لم يكن في ذلك دفع قدر الله بل كان أربا ليعقوب قضاه. وطيبا لنفسه تمسك به وأمر بحبسه. فجواب لَمَّا في معنى قوله: ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وإِلَّا حاجَةً استثناء ليس من الأول. وال حاجَةً هي أن يكون طيب النفس بدخولهم من أبواب متفرقة خوف العين. قال مجاهد: «الحاجة» : خيفة العين، وقاله ابن إسحاق، وفي عبارتهما تجوز: ونظير هذا الفعل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سد كوة في قبر بحجر وقال: «إن هذا لا يغني شيئا ولكنه تطيب لنفس الحي» . قال القاضي أبو محمد: وقوله- عندي- ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ معناه: ما رد عنهم قدرا، لأنه لو قضي أن تصيبهم عين لأصابتهم مفترقين أو مجتمعين، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة فوصى وقضى بذلك حاجته في نفسه في أن يتنعم برجائه، أن تصادف القدر في سلامتهم. ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب بأنه لقن ما علمه الله من هذا المعنى، واندرج غير ذلك في العموم وقال إن أكثر الناس ليس كذلك، وقيل: معناه: إنه لعامل بما علمناه- قاله قتادة- وقال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما. قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يعطيه اللفظ، اما انه صحيح في نفسه يرجحه المعنى، ومات تقتضيه منزلة يعقوب عليه السلام. قال أبو حاتم: قرأ الأعمش لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ. ويحتمل أن يكون جواب لَمَّا في هذه الآية محذوفا مقدرا، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كانَ يُغْنِي ... الآية. وقوله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ الآية. المعنى أنه لما دخل إخوة يوسف عليه ورأى أخاه شكر ذلك لهم- على ما روي- وضم إليه أخاه وآواه إلى نفسه: ومن هذه الكلمة المأوى. وكان بنيامين شقيق يوسف فآواه. وصورة ذلك- على ما روي عن ابن إسحاق وغيره- أن يوسف عليه السلام أمر صاحب ضيافته أن ينزلهم رجلين رجلين، فبقي يامين وحده، فقال يوسف: أنا أنزل هذا مع نفسي، ففعل وبات عنده وقال له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ واختلف المتأولون في هذا اللفظ فقال ابن إسحاق وغيره: أخبره بأنه أخوه حقيقة واستكتمه، وقال له: لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم. وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إلى ما يعمله فتيان يوسف، من أمر السقاية ونحو ذلك ويحتمل أن يشير إلى ما عمله الإخوة قديما. وقال وهب بن منبه: إنما أخبره أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب، ولم يكشف إليه الأمر بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته. وتَبْتَئِسْ- تفتعل- من البؤس، أي لا تحزن ولا تهتم، وهكذا عبر المفسرون. قوله عز وجل: ٧٠انظر تفسير الآية:٧٥ ٧١انظر تفسير الآية:٧٥ ٧٢انظر تفسير الآية:٧٥ ٧٣انظر تفسير الآية:٧٥ ٧٤انظر تفسير الآية:٧٥ ٧٥فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام، وذلك أنه كان في دين يعقوب أن يستعبد السارق، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، فعلم يوسف أن إخوته- لثقتهم ببراءة ساحتهم- سيدعون في السرقة إلى حكمهم فتحيل لذلك، واستسهل الأمر- على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام، وعليهم- لما علم في ذلك من الصلاح في الأجل، وبوحي لا محالة وإرادة من الله محنتهم بذلك، - هذا تأويل قوم، ويقويه. قوله تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: ٧٦] وقيل: إنما أوحي إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى على ما ظهر إليه- ورجحه الطبري وتفتيش الأوعية يرد عليه. وقيل: إنهم لما كانوا قد باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وإنه عوقب على ذلك بأن قالوا: «فقد سرق أخ له من قبل» وقوله: جَعَلَ أي بأمره خدمته وفتيانه. وقرأ ابن مسعود «وجعل» بزيادة واو. والسِّقايَةَ: الإناء الذي به يشرب الملك وبه كان يكيل الطعام للناس، هكذا نص جمهور المفسرين ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك وابن زيد. قال القاضي أبو محمد: وفي كتب من حرر أمرها أنها شكل له رأسان ويصل بينهما مقبض تمسك الأيدي فيه فيكال الطعام بالرأس الواحد ويشرب بالرأس الثاني أو بهما. فيشبه أن تكون لشرب أضياف الملك وفي أطعمته الجميلة التي يحتاج فيها إلى عظيم الأواني. وقال سعيد بن جبير: ال صُواعَ مثل المكوك الفارسي، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ما هو، قال: وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية. قال القاضي أبو محمد: وقال ابن جبير- أيضا- «الصواع» : المكوك الفارسي الذي تلتقي طرفاه، كانت تشرب فيه الأعاجم. وروي أنها كانت من فضة- وهذا قول الجمهور- وروي أنها كانت من ذهب قال الزجاج: وقيل: كان من مسك. قال القاضي أبو محمد: وقد روي هذا بفتح الميم، وقيل: كان يشبه الطاس، وقيل: من نحاس- قاله ابن عباس أيضا- ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيلها على ذلك الإناء. وكان هذا الجعل بغير علم من يامين- قاله السدي، وهو الظاهر. فلما فصلت العير بأوفارها وخرجت من مصر- فيما روي وقالت فرقة بل قبل الخروج من مصر- أمر بهم فحبسوا. وأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ و «مخاطبة العير» تجوز، والمراد أربابها، وإنما المراد: أيتها القافلة أو الرفقة، وقال مجاهد: كانت دوابهم حميرا، ووصفهم بالسرقة من حيث سرق في الظاهر أحدهم، وهذا كما تقول: بنو فلان قتلوا فلانا، وإنما قتله أحدهم. فلما سمع إخوة يوسف هذه المقالة أقبلوا عليهم وساءهم أن يرموا بهذه المنقبة، وقالوا: ماذا تَفْقِدُونَ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا إكمال الدعوى عسى أن يكون فيها ما تبطل به، فلا يحتاج إلى خصام. وقرأ أبو عبد الرحمن: «تفقدون» بضم التاء، وضعفها أبو حاتم. قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ: وهو المكيال وهو السقاية رسمه أولا بإحدى جهتيه وآخرا بالثانية. وقرأ جمهور الناس «صواع» بضم الصاد وبألف، وقرأ أبو حيوة: «صواع» بكسر الصاد وبألف، وقرأ أبو هريرة ومجاهد «صاع الملك» بفتح الصاد دون واو، وقرأ عبد الله بن عوف: «صوع» بضم الصاد، وقرأ أبو رجاء «صوع» وهذه لغة في المكيال- قاله أبو الفتح وغيره- وتؤنث هذه الأسماء وتذكر. وقال أبو عبيد: يؤنث الصاع من حيث سمي سقاية، ويذكر من حيث هو صاع. وقرأ يحيى بن يعمر: «صوغ» بالغين منقوطة- وهذا على أنه الشيء المصوغ للملك على ما روي أنه كان من ذهب أو من فضة، فهو مصدر سمي به، ورويت هذه القراءة عن أبي رجاء. قال أبو حاتم: وقرأ سعيد بن جبير والحسن «صواغ» بضم الصاد وألف وغين معجمة. وقوله: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، أي لمن دل على سارقه وفضحه وجبر الصواع- وهذا جعل- وقوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ حمالة، وذلك أنه لما كان الطعام لا يوجد إلا عند الملك فهم من المؤذن أنه إنما جعل عن غيره، فلخوفه ألا يوثق بهذه الجعالة- إذ هي عن الغير- تحمل هو بذلك. قال مجاهد: ال زَعِيمٌ هو المؤذن الذي قال: أَيَّتُهَا الْعِيرُ و «الزعيم» : الضامن- في كلام العرب- ويسمى الرئيس زعيما، لأنه يتضمن حوائج الناس. وقوله: قالُوا: تَاللَّهِ الآية، روي: أن إخوة يوسف كانوا ردوا البضاعة الموجودة في الرحال وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فلذلك قالوا: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أي لقد علمتم منا التحري وروي أنهم كانوا قد اشتهروا في مصر بصلاح وتعفف، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زرع الناس، فلذلك قالوا: لقد علمتم ما جئنا لفساد وما نحن أهل سرقة. والتاء في تَاللَّهِ بدل من واو- كما أبدلت في تراث وفي التورية وفي التخمة- ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى، لا في غير ذلك- لا تقول: تالرحمن ولا تالرحيم-. وقوله تعالى: قالُوا: فَما جَزاؤُهُ الآية، قال فتيان يوسف: فما جزاء السارق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في قولكم: وَما كُنَّا سارِقِينَ؟ فقال إخوة يوسف: جزاء السارق والحكم الذي تتضمنه هذه الألفاظ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ف جَزاؤُهُ الأول مبتدأ ومَنْ والجملة خبر قوله: جَزاؤُهُ الأول، والضمير في قالُوا جَزاؤُهُ للسارق. ويصح أن تكون مَنْ خبرا عائد على مَنْ ويكون قوله: فَهُوَ جَزاؤُهُ زياد بيان وتأكيد. وليس هذا الموضع- عندي- من مواضع إبراز الضمير على ما ذهب إليه بعض المفسرين، ويحتمل أن يكون التقدير: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله فَهُوَ جَزاؤُهُ وقولهم هذا قول من لم يسترب بنفسه، لأنهم التزموا إرغام من وجد في رحله، وهذا أكثر من موجب شرعهم إذ حق شرعهم أن لا يؤخذ إلا من صحت سرقته، وأمر بنيامين في السقاية كان محتملا. لكنهم التزموا أن من وجد في رحله فهو مأخوذ على أنه سارق. وقولهم كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، أي هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة: أن يتملك السارق كما تملك هو الشيء المسروق. قال القاضي أبو محمد: وحكى بعض الناس: أن هذا الحكم كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع، وهذا ضعيف، ما كان قط فيما علمت، وحكى الزهراوي عن السدي: أن حكمهم إنما كان أن يستخدم السارق على قدر سرقته وهذا يضعفه رجوع الصواع فكان ينبغي ألا يؤخذ بنيامين إذ لم يبق فيما يخدم. قوله عز وجل: ٧٦فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) بدؤه- أيضا- من أوعيتهم تمكين للحيلة وإبعاد لظهور أنها حيلة. وقرأ جمهور الناس «وعاء» بكسر الواو، وقرأ الحسن «وعاء» بضمها، وقرأ ابن جبير «أعاء» بهمزة بدل الواو، وذلك شائع في الواو المكسورة، وهو أكثر في المضمومة، وقد جاء من المفتوحة: أحد في وحد. وأضاف الله تعالى إلى ضميره لما أخرج القدر الذي أباح به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد، وقال السدي والضحاك: كِدْنا معناه: صنعنا. ودِينِ الْمَلِكِ فسره ابن عباس بسلطانه، وفسره قتادة بالقضاء والحكم. قال القاضي أبو محمد: وهذا متقارب، والاستثناء في هذه الآية حكاية حال، التقدير: إلا ان شاء الله ما وقع من هذه الحيلة ويحتمل أن يقدر أن تسنن لما قرر النفي. وقرأ الجمهور «نرفع» على ضمير المعظم و «نشاء» كذلك، وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء، أي الله تعالى: «وقرأ أبو عمرو ونافع وأهل المدينة «درجات من» بإضافة الدرجات إلى مَنْ، وقرأ عاصم وابن محيصن «درجات من» بتنوين» الدرجات، وقرأ الجمهور، «وفوق كل ذي علم» . وقرأ ابن مسعود «وفوق كل ذي عالم» والمعنى أن البشر في العلم درجات، فكل عالم فلا بد من أعلم منه، فإما من البشر وإما الله عز وجل. وأما على قراءة ابن مسعود فقيل: ذِي زائدة، وقيل: «عالم» مصدر كالباطل. وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل فلم يجد فيه شيئا استغفر الله عز وجل تائبا من فعله ذلك، وظاهر كلام قتادة وغيره، أن المستغفر كان يوسف لأنه كان يفتشهم يعلم أين الصواع، حتى فرغ منهم وانتهى إلى رحل بنيامين فقال: ما أظن هذا الفتى رضي بهذا، ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته، والله لا تبرح حتى تفتشه فهو أطيب لنفسك ونفوسنا، ففتش فأخرج السقاية- وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن إنما سرقه برأيه، فإنما يقال جميع ذلك كان بأمر الله تعالى، ويقوي ذلك قوله: كِدْنا، وكيف لا يكون برأي يوسف وهو مضطر في محاولته إلى أن يلزمهم حكم السرقة له أخذ أخيه. والضمير في قوله: اسْتَخْرَجَها عائد على السِّقايَةَ [يوسف: ٧٠] ، ويحتمل أن يعود على السرقة. وروي أن إخوة يوسف لما رأوا ذلك قالوا: يا بنيامين بن راحيل قبحك الله ولدت أمك أخوين لصّين، كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يديه إلى السماء وقال: والله ما فعلت، فقالوا له: فمن وضعها في رحلك قال: الذي وضع البضاعة في رحالكم. وما ذكرناه من المعنى في قوله: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ هو قول الحسن وقتادة، وقد روي عن ابن عباس، وروي أيضا عنه رضي الله عنه: أنه حدث يوما بحديث عجيب فتعجب منه رجل ممن حضر، وقال: الحمد لله وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وقال ابن عباس: بئس ما قلت، إنما العليم لله وهو فوق كل ذي علم. قال القاضي أبو محمد: فبين هذا وبين قول الحسن فرق. قوله عز وجل: ٧٧قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) الضمير في قالُوا لإخوة يوسف، والأخ الذي أشاروا إليه هو يوسف، ونكروه تحقيرا للأمر، إذ كان مما لا علم للحاضرين به، ثم ألصقوه ببنيامين، إذ كان شقيقه، ويحتمل قولهم: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ تأويلين. أحدهما: أنهم حققوا السرقة في جانب بنيامين ويوسف عليهما السلام، بحسب ظاهر الحكم، فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف كان قد سرق. فهذا من الإخوة إنحاء على ابني راحيل: يوسف وبنيامين. والوجه الآخر الذي يحتمله لفظهم يتضمن أن السرقة في جانب يوسف وبنيامين- مظنونة- كأنهم قالوا: إن كان هذا الذي رمي به بنيامين حقا في نفسه فالذي رمي به يوسف قبل حق إذا، وكأن قصة يوسف والظن به قوي عندهم بما ظهر في جهة وبنيامين. وقال بعض المفسرين: التقدير: فقد قيل عن يوسف إنه سرق، ونحو هذا من الأقوال التي لا ينطبق معناها على لفظ الآية. وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إنما كانت بحسب الظاهر وموجب الحكم في النازلتين، فلم يقعوا في غيبة ليوسف، وإنما قصدوا الإخبار بأمر جرى ليزول بعض المعرة عنهم، ويختص بها هذان الشقيقان. وأما ما روي في سرقة يوسف فثلاثة وجوه: الجمهور منها على أن عمته كانت ربته، فلما شب أراد يعقوب أخذه منها، فولعت به وأشفقت من فراقه، فأخذت منطقة إسحاق- وكانت متوارثة عندهم- فنطقته بها من تحت ثيابه، ثم صاحت وقالت: إني قد فقدت المنطقة ويوسف قد خرج بها، ففتشت فوجدت عنده، فاسترقّته- حسبما كان في شرعه- وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه. وقال ابن إدريس عن أبيه: إنما أكل بنو يعقوب طعاما فأخذ يوسف عرقا فخبأه فرموه لذلك بالسرقة، وقال سعيد بن جبير وقتادة: إنما أمرته أمه أن يسرق صنما لأبيها، فسرقه وكسره، وكان ذلك- منها ومنه- تغييرا للمنكر، فرموه لذلك بالسرقة، وفي كتاب الزجاج: أنه كان صنم ذهب. والضمير في قوله: فَأَسَرَّها عائد يراد به الحزة التي حدثت في نفس يعقوب من قولهم، والكلام يتضمنها، وهذا كما تضمن الكلام الضمير الذي في قول حاتم: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر وهذا كقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: ١١٠] فهي مراد بها الحالة المتحصلة من هذه الأفعال. وقال قوم: أسر المجازاة، وقال قوم: أسر الحجة، وما قدمناه أليق. وقرأ ابن أبي عبلة: «فأسره يوسف» بضمير تذكير. وقوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً الآية، الظاهر منه أنه قالها إفصاحا فكأنه أسر لهم كراهية مقالتهم ثم تجهمهم بقوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي لسوء أفعالكم، والله يعلم إن كان ما وصفتموه حقا، وفي اللفظ إشارة إلى تكذيبهم، ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا الشفاعة بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة بالشيخ صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة- وهو ظاهر كلام ابن عباس- لم يقل يوسف هذا الكلام إلا في نفسه- وإنما هو تفسير للذي أسر في نفسه، أي هذه المقالة هي التي أسر، فكأن المراد في نفسه: أنتم ... وذكر الطبري هنا قصصا اختصاره: أنه لما استخرجت السقاية من رحل بنيامين قال إخوته: يا بني راحيل ألا يزال البلاء ينالنا من جهتكم؟ فقال بنيامين: بل بنو راحيل ينالهم البلاء منكم: ذهبتم بأخي فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. فقالوا: لا تذكر الدراهم لئلا نؤخذ بها. ثم دخلوا على يوسف فأخذ الصواع فنقره فطن، فقال: إنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم فبعتموه، فسجد بنيامين وقال: أيها العزيز سل صواعك هذا يخبرك بالحق. قال القاضي أبو محمد: ونحو هذا من القصص الذي آثرنا اختصاره. وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه، فأمر يوسف بنيا له، فمسه، فسكن غضبه، فقال روبيل: لقد مسني أحد من ولد يعقوب، ثم إنهم تشاوروا في محاربة يوسف- وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك- فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه، فرأوا من قوته ما استعظموه عند ذلك وقالوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ... [يوسف: ٨٨] قوله عز وجل: ٧٨انظر تفسير الآية:٨٠ ٧٩انظر تفسير الآية:٨٠ ٨٠قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) خاطبوه باسم الْعَزِيزُ إذ كان في تلك الخطة بعزل الأول أو موته- على ما روي في ذلك- وقولهم: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ يحتمل أن يكون مجازا وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر ليسترقّ بدل من أحكمت السنة رقه، وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك تبالغ في استنزاله، وعلى هذا يتجه قول يوسف مَعاذَ اللَّهِ لأنه تعوذ من غير جائز، ويحتمل أن يكون قولهم فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ حقيقة، وبعيد عليهم- وهم أنبياء- أن يريدوا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة، أي خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك، ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه، ويعرف يعقوب جلية الأمر، فمنع يوسف عليه السلام من ذلك، إذ الحمالة في الحدود ونحوها لمعنى إحضار المضمون فقط جائزة مع التراضي غير لازمة إذا أبى الطالب، وأما الحمالة في مثل ذلك- على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة- فلا يجوز ذلك إجماعا. وفي الواضحة: إن الحمالة بالوجه فقط في جميع الحدود جائزة إلا في النفس. وقولهم: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوه من إحسانه في جميع أفعاله- معهم ومع غيرهم- ويحتمل أن يريدوا: إنا نرى لك إحسانا علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا- وهذا تأويل ابن إسحاق. ومَعاذَ نصب على المصدر، ولا يجوز إظهار الفعل معه، والظلم في قوله: لَظالِمُونَ على حقيقته، إذ هو وضع الشيء في غير موضعه، وذكر الطبري أنه روي أن يوسف أيأسهم بلفظه هذا، قال لهم: إذا أتيتم أباكم فاقرأوا عليه السلام، وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ولدك يوسف، ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله. وقوله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ الآية، يقال: يئس واستيأس بمعنى واحد، كما يقال: سخر واستسخر، ومنه قوله تعالى: يَسْتَسْخِرُونَ [الصافات: ١٤] وكما يقال: عجب واستعجب، ومنه قول أوس بن حجر: [الطويل] ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم ومنه نوك واستنوك- وعلى هذا يجيء قول الشاعر في بعض التأويلات: واستنوكت وللشباب نوك. وهذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير: «استأيسوا» و «لا تأيسوا» و «لا يأيس» و «حتى إذا استأيس الرسل» أصله استأيسوا- استفعلوا- ومن أيس- على قلب الفعل من يئس إلى أيس، وليس هذا كجذب وجبذ بل هذان أصلان والأول قلب، دل على ذلك أن المصدر من يئس وأيس واحد، وهو اليأس، ولجذب وجبذ مصدران. وقوله: خَلَصُوا نَجِيًّا معناه انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضا، والنجي لفظ يوصف به من له نجوى واحدا أو جماعة أو مؤنثا أو مذكرا، فهو مثل عدو وعدل، وجمعه أنجية، قال لبيد: وشهدت أنجية الأفاقة عاليا ... كعبي وأرداف الملوك شهود وكَبِيرُهُمْ قال مجاهد: هو شمعون لأنه كان كبيرهم رأيا وتدبيرا وعلما- وإن كان روبيل أسنهم- وقال قتادة: هو روبيل لأنه أسنهم، وهذا أظهر ورجحه الطبري. وقال السدي: معنى الآية: وقال كبيرهم في العلم، وذكرهم أخوهم الميثاق في قوله يعقوب لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يوسف: ٦٦] . وقوله: ما فَرَّطْتُمْ يصح أن تكون ما صلة في الكلام لا موضع لها من الإعراب. ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء والخبر قوله: فِي يُوسُفَ- كذا قال أبو علي- ولا يجوز أن يكون قوله: مِنْ قَبْلُ متعلقا ب فَرَّطْتُمْ. قال القاضي أبو محمد: وإنما تكون- على هذا- مصدرية، التقدير: من قبل تفريطكم في يوسف واقع أو مستقر، وبهذا المقدر يتعلق قوله: مِنْ قَبْلُ. ويصح أن يكون في موضع نصب عطفا، على أن التقدير: وتعلموا تفريطكم أو وتعلموا الذي فرطتم، فيصح- على هذا الوجه- أن يكون بمعنى الذي ويصح أن تكون مصدرية. وقوله تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أراد أرض القطر والموضع الذي ناله فيه المكروه المؤدي إلى سخط أبيه، والمقصد بهذا اللفظ التحريج على نفسه والتزام التضييق، كأنه سجن نفسه في ذلك القطر ليبلي عذرا. وقوله: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي لفظ عام بجميع ما يمكن أن يرده من القدر كالموت أو النصرة وبلوغ الأمل وغير ذلك، وقال أبو صالح: أو يحكم الله لي بالسيف. ونصب يَحْكُمَ بالعطف على يَأْذَنَ، ويجوز أن تكون أَوْ في هذا الموضع بمعنى إلا أن، كما تقول: لألزمنك أو تقضيني حقي، فتنصب على هذا يَحْكُمَ ب أَوْ. وروي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب بكى وقال: يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم: ذهبتم فنقصتم يوسف، ثم ذهبتم فنقصتم شمعون حيث ارتهن، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل. قوله عز وجل: ٨١انظر تفسير الآية:٨٣ ٨٢انظر تفسير الآية:٨٣ ٨٣ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) الأمر بالرجوع قيل: هو من قول كبيرهم، وقيل: بل هو من قول يوسف لهم، والأول أظهر. وقرأ الجمهور «سرق» على تحقيق السرقة على بنيامين، بحسب ظاهر الأمر. وقرأ ابن عباس وأبو رزين «سرّق» بضم السين وكسر الراء وتشديدها، وكأن هذه القراءة فيها لهم تحر، ولم يقطعوا عليه بسرقة، وإنما أرادوا جعل سارقا بما ظهر من الحال- ورويت هذه القراءة عن الكسائي- وقرأ الضحاك: «إن ابنك سارق» بالألف وتنوين القاف، ثم تحروا بعد- على القراءتين- في قولهم وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي وقولنا لك: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى، والعلم في الغيب إلى الله، ليس في ذلك حفظنا، هذا قول ابن إسحاق، وقال ابن زيد: قولهم: ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أرادوا به: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقّ في شرعك إلا بما علمنا من ذلك، وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أن السرقة تخرج من رحل أحدنا، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا. وقرأ الحسن «وما شهدنا عليه إلا بما علمنا» بزيادة «عليه» . ويحتمل قوله: وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي حين واثقناك، إنما قصدنا ألا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه. وروي أن معنى قولهم: لِلْغَيْبِ أي الليل، والغيب: الليل- بلغة حمير- فكأنهم قالوا: وما شهدنا عندك إلا بما علمناه من ظاهر حاله، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو أو التدليس عليه. ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها- وهي مصر، قاله ابن عباس وغيره، وهذا مجاز، والمراد أهلها، وكذلك قوله: وَالْعِيرَ، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح، وحكى أبو المعالي في التلخيص عن بعض المتكلمين أنه قال: هذا من الحذف وليس من المجاز، قال: وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هي له. قال القاضي أبو محمد: وحذف المضاف هو عين المجاز وعظمه- هذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر- وليس كل حذف مجازا، ورجح أبو المعالي- في هذه الآية- أنه مجاز، وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا. وقالت فرقة: بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة، ومن حيث هو نبي فلا يبعد أن تخبره بالحقيقة. قال القاضي أبو محمد: وهذا وإن جوز فبعيد، والأول أقوى، وهنا كلام مقدر يقتضيه الظاهر، تقديره: فلما قالوا هذه المقالة لأبيهم قال: بَلْ سَوَّلَتْ، وهذا على أن يتصل كلام كبيرهم إلى هنا، ومن يرى أن كلام كبيرهم تم في قوله: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ، فإنه يجعل الكلام هنالك تقديره: فلما رجعوا قالوا: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ الآية. والظاهر أن قوله: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً. إنما هو ظن سيء بهم، كما كان في قصة يوسف قبل، فاتفق أن صدق ظنه هناك، ولم يتحقق هنا، وسَوَّلَتْ معناه: زينت وخيلت وجعلته سولا، والسول ما يتمناه الإنسان ويحرص عليه. وقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إما ابتداء وخبره أمثل أو أولى، وحسن الابتداء بالنكرة من حيث وصفت. وإما خبر ابتداء تقديره، فأمري أو شأني، أو صبري صبر جميل وهذا أليق بالنكرة أن تكون خبرا، ومعنى وصفه بالجمال: أنه ليس فيه شكوى إلى بشر ولا ضجر بقضاء الله تعالى. ثم ترجى عليه السلام من الله أن يجبرهم عليه وهم يوسف وبنيامين وروبيل الذي لم يبرح الأرض، ورجاؤه هذا من جهات: إحداها: الرؤيا التي رأى يوسف فكان يعقوب ينتظرها. والثانية: حسن ظنه بالله تعالى في كل حال. والثالثة: ما أخبروه به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه فوقع له- من هنا- تحسس ورجاء. والوصف «بالعلم والإحكام» لائق بما يرجوه من لقاء بنيه، وفيها تسليم لحكمة الله تعالى في جميع ما جرى عليه. قوله عز وجل: ٨٤انظر تفسير الآية:٨٦ ٨٥انظر تفسير الآية:٨٦ ٨٦وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) المعنى: أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به، تَوَلَّى عَنْهُمْ أي زال بوجهه عنهم وجعل يتفجع ويتأسف، قال الحسن: خصت هذه الأمة بالاسترجاع ألا ترى إلى قول يعقوب: يا أَسَفى. قال القاضي أبو محمد: والمراد: «يا أسفي» . لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفا نحو: يا غلاما ويا أبتا، ونادى الأسف على معنى احضر فهذا من أوقاتك. وقيل: قوله: يا أَسَفى على جهة الندبة، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلدا منه عليه السلام، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل، وقيل: قوله: يا أَسَفى نداء فيه استغاثة. قال القاضي أبو محمد: ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع ويا أَسَفى لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام. وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن، وروي «أن يعقوب عليه السلام حزن حزن سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط» ، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن عباس ومجاهد «من الحزن» بفتح الحاء والزاي، وقرأ قتادة بضمهما وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي. وهو كَظِيمٌ يمعنى كاظم، كما قال وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: ١٣٤] ، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والفجر. وقال ناس: كَظِيمٌ بمعني: مكظوم. قال القاضي أبو محمد: وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم: ٤٨] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم بثه في صدره، وجري كظيم على باب كاظم أبين. وفسر ناس «الكظيم» بالمكروب وبالمكمود- وذلك كله متقارب- وقال منذر بن سعيد: الأسف إذا كان من جهة من هو أقل من الإنسان فهو غضب، ومنه قول الله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥] ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم: فأسفت فلطمتها وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو حزن وهم. قال القاضي أبو محمد: وتحرير هذا المنزع: أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها، وقوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا الآية، المعنى تالله لا تفتأ فتحذف لا في هذه الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها فمن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل] فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ومنه قول الآخر: تالله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس أراد لا يبرح ولا يبقى، وقال الزجاجي: وقد تحذف أيضا ما في هذا الموضع. قال القاضي أبو محمد: وخطأه بعض النحويين، ومن المواضع التي حذفت فيها لا ويدل عليها الكلام قول الشاعر: [الطويل] فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما قبل الزّند قادح وقوله ما قبل الزند قادح يوجب أن المحذوف «لا» ، وليست «ما» ، وفتىء بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل، تقول: والله لا فتئت قاعدا كما تقول: لا زلت ولا برحت، ومنه قول أوس بن حجر: [الطويل] فما فتئت حتى كأن غبارها ... سرادق يوم ذي رياح يرفّع و «الحرض» : الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور «حرضا» بفتح الراء والحاء ... وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضمهما، وقرأت فرقة «حرضا» بضم الحاء وسكون الراء. وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد، كعدل وعدو، وقيل في قراءة الحسن: انه يراد: فتات الأشنان أي باليا متعتتا، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم: رجل حارض، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث ويذكر، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [البسيط] إني امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم وقد سمع من العرب: رجل محرض، قال الشاعر- وهو امرؤ القيس: [الطويل] أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا ... كأحراض بكر في الديار مريض و «الحرض» - بالجملة- الذي فسد ودنا موته، قال مجاهد: «الحرض» : ما دون الموت، قال قتادة: «الحرض» : البالي الهرم، وقال نحوه الضحاك والحسن، وقال ابن إسحاق: حَرَضاً معناه فاسد لا عقل له فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له: أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى الهلاك. فأجابهم يعقوب عليه السلام رادّا عليهم: أي أني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف في ذلك. و «البث» ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أن يبثه وينشره، وأكثر ما يستعمل «البث» في المكروه، وقال أبو عبيدة وغيره: «البث» : أشد الحزن، وقد يستعمل «البث» في المخفي على الجملة ومنه قول المرأة في حديث أم زرع: ولا يولج الكف ليعلم «البث» ، ومنه قولهم: أبثك حديثي. وقرأ عيسى: «وحزني» بفتح الحاء والزاي. وحكى الطبري بسند: أن يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له فرعون: ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا: إنه يعقوب، فقال: ما بلغ بك هذا يا يعقوب؟ قال له: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة فاغفرها لي، وأسند الطبري إلى الحسن قال: كان بين خروج يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب. وقوله: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر: إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه. قوله عز وجل: ٨٧انظر تفسير الآية:٨٨ ٨٨يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) المعنى: اذْهَبُوا إلى الأرض التي جئتم منها وتركتم أخويكم بنيامين وروبيل، فَتَحَسَّسُوا، أي استقصوا ونقروا، والتحسس: طلب الشيء بالحواس من البصر والسمع، ويستعمل في الخير والشر، فمن استعماله في الخير هذه الآية، وفي الشر نهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ولا تحسسوا. وقوله: مِنْ يُوسُفَ يتعلق بمحذوف يعمل فيه تحسسوا التقدير: فتحسسوا نبأ أو حقيقة من أمر يوسف. لكن يحذف ما يدل ظاهر القول عليه إيجازا. وقرأت فرقة: «تيأسوا» وقرأت فرقة «تأيسوا» على ما تقدم، وقرأ الأعرج «تئسوا» بكسر التاء. وخص يوسف وبنيامين بالذكر لأن روبيل إنما بقي مختارا. وهذان قد منعا الأوبة. و «الروح» : الرحمة. ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين. إذ فيه إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل بصفات الله تعالى. وقرأ الحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز «من روح الله» بضم الراء. وكأن معنى هذه القراءة لا تأيسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي روحه فيرجى، ومن هذا قول الشاعر: [الطويل] وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع ومن هذا قول عبيد: وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب ويظهر من حديث الذي قال: إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في البحر والبر في يوم راح. فلئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من الناس، إنه يئس من روح الله، وليس الأمر كذلك، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فغفر الله له يقتضي أنه مات مؤمنا إذ لا يغفر الله لكافر، فبقي أن يتأول الحديث، إما على أن قدر بمعنى ضيق وناقش الحساب، فذلك معنى بين، وإما أن تكون من القدرة، ويقع خطأ في أن ظن في أن الاجتماع بعد السحق والتذرية محال لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه فغلط في أن جعل الجائز محالا، ولا يلزمه بهذا كفر. قال النقاش: وقرأ ابن مسعود «من فضل» وقرأ أبي بن كعب: «من رحمة الله» . وقوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ الآية، في هذا الموضع اختصار محذوفات يعطيها الظاهر، وهي: أنهم نفذوا من الشام إلى مصر ووصلوها والضمير في عَلَيْهِ عائد على يوسف، والضُّرُّ أرادوا به المسغبة التي كانوا بسبيلها وأمر أخيهم الذي أهم أباهم وغم جميعهم، و «البضاعة» : القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح، وال مُزْجاةٍ معناها المدفوعة المتحيل لها، ومنه إزجاء السحاب، ومنه إزجاء الإبل كما قال الشاعر: على زواحف تزجى مخهارير وكما قال النابغة: [البسيط] وهبت الريح من تلقاء ذي أزل ... تزجى مع الليل من صرّادها صرما وقال الأعشى: [الكامل] الواهب المائة الهجان وعبدها ... عوذا تزجي خلفها أطفالها وقال الآخر: بحاجة غير مزجاة من الحاج وقال حاتم: ليبك على ملحان ضيف مدفع ... وأرملة تزجي مع الليل أرملا فجملة هذا أن من يسوق شيئا ويتلطف في تسييره فقد أزجاه فإذا كانت الدراهم مدفوعة نازلة القدر تحتاج أن يعتذر معها ويشفع لها فهي مزجاة، فقيل: كان ذلك لأنها كانت زيوفا- قاله ابن عباس- وقال الحسن: كانت قليلة، وقيل: كانت ناقصة- قاله ابن جبير- وقيل: كانت بضاعتهم عروضا، فلذلك قالوا هذا. واختلف في تلك العروض: ما كانت؟ فقيل: كانت السمن والصوف- قاله عبد الله بن الحارث- وقال علي بن أبي طالب: كانت قديد وحش- ذكره النقاش- وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: كانت الصنوبر والحبة الخضراء. قال القاضي أبو محمد: وهي الفستق. وقيل: كانت المقل، وقيل: كانت القطن، وقيل: كانت الحبال والأعدال والأقتاب. وحكى مكي أن مالكا رحمه الله قال: المزجاة: الجائزة. قال القاضي أبو محمد: ولا أعرف لهذا وجها، والمعنى يأباه. ويحتمل أن صحف على مالك وأن لفظه بالحاء غير منقوطة وبالراء. واستند مالك رحمه الله في أن الكيل على البائع إلى هذه الآية، وذلك ظاهر منها وليس بنص. وقولهم: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا معناه بما بين الدراهم الجياد وهذه المزجاة، قاله السدي وغيره. وقيل: كانت الصدقة غير محرمة على أولئك الأنبياء وإنما حرمت على محمد، قاله سفيان بن عيينة. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة» . وقالت فرقة: كانت الصدقة عليهم محرمة ولكن قالوا هذا تجوزا واستعطافا منهم في المبايعة، كما تقول لمن تساومه في سلعة: هبني من ثمنها كذا وخذ كذا، فلم تقصد أن يهبك، وإنما حسنت له الانفعال حتى يرجع معك إلى سومك، وقال ابن جريج: إنما خصوا بقولهم وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا أمر أخيهم بنيامين، أي أوف لنا الكيل في المبايعة وتصدق علينا بصرف أخينا إلى أبيه. وقولهم: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قال النقاش: يقال: هو من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا على غير دينهم، ولو قالوا: إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة، كذبوا، فقالوا له لفظا يوهمه أنهم أرادوه وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل. قوله عز وجل: ٨٩انظر تفسير الآية:٩٢ ٩٠انظر تفسير الآية:٩٢ ٩١انظر تفسير الآية:٩٢ ٩٢قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) روي أن يوسف عليه السلام لما قال إخوته مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف: ٨٨] واستعطفوه- رق ورحمهم، قال ابن إسحاق: وارفض دمعه باكيا فشرع في كشف أمره إليهم، فيروى أنه حسر قناعه وقال لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ الآية. وقوله: فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ يريد من التفريق بينهما في الصغر والتمرس بهما وإذاية بنيامين. بعد مغيب يوسف. فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه، ولم يشر إلى قصة بنيامين الآخرة لأنهم لم يفعلوا هم فيها شيئا، ونسبهم إما إلى جهل المعصية، وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة، فلما خاطبهم هذه المخاطبة- ويشبه أن يكون قد اقترن بها من هيئته وبشره وتبسمه ما دلهم- تنبهوا ووقع لهم من الظن القوي أنه يوسف، فخاطبوه مستفهمين استفهام مقرر. وقرأت فرقة «أإنك يوسف» بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بإدخال ألف بين همزتين وتحقيقهما «أإنك» ، وقرأت فرقة بتسهيل الثانية «إنك» ، وقرأ ابن محيصن وقتادة وابن كثير «إنك» على الخبر وتأكيده وقرأ أبي بن كعب «أإنك أو أنت يوسف» قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا على حذف خبر «إن» كأنه قال: أإنك لغير يوسف أو أنت يوسف؟ وحكى أبو عمرو الداني: أن في قراءة أبي بن كعب: «أو أنت يوسف» وتأولت فرقة ممن قرأ «إنك» إنها استفهام بإسقاط حرف الاستفهام، فأجابهم يوسف كاشفا أمره قال: أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي وقال مجاهد: أراد مَنْ يَتَّقِ في ترك المعصية ويصبر في السجن. وقال إبراهيم النخعي: المعنى: مَنْ يَتَّقِ الزنى ويصبر على العزوبة. قال القاضي أبو محمد: ومقصد اللفظ إنما هو العموم في العظائم، وإنما قال هذان ما خصصا، لأنها كانت من نوازله، ولو فرضنا نزول غيرها به لا تقى وصبر. وقرأ الجمهور «من يتق ويصبر» وقرأ ابن كثير وحده: «من يتقي ويصبر» بإثبات الياء، واختلف في وجه ذلك، فقيل: قدر الياء متحركة وجعل الجزم في حذف الحركة، وهذا كما قال الشاعر: [الوافر] ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد قال أبو علي: وهذا مما لا نحمله عليه، لأنه يجيء في الشعر لا في الكلام، وقيل: «من» بمعنى الذي و «يتقي» فعل مرفوع، و «يصبر» عطف على المعنى لأن «من» وإن كانت بمعنى الذي ففيها معنى الشرط، ونحوه قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: ١٠] وقيل: أراد «يصبر» بالرفع لكنه سكن الراء تخفيفا، كما قرأ أبو عمرو: وَيَأْمُرُكُمْ [البقرة: ٦٧] بإسكان الراء. وقوله تعالى: قالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا الآية، هذا منهم استنزال ليوسف وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه. وآثَرَكَ لفظ يعم جميع التفضيل وأنواع العطايا، والأصل فيها همزتان وخففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، والمصدر إيثار، وخاطئين من خطىء يخطأ، وهو المعتمد للخطأ، والمخطئ من أخطأ، وهو الذي قصد الصواب فلم يوفق إليه، ومن ذلك قول الشاعر- وهو أمية بن الأسكر-[الوافر] وإن مهاجرين تكتفاه ... غداة إذ لقد خطئا وخابا وقوله: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ عفو جميل، وقال عكرمة: أوحى الله إلى يوسف: بعفوك على إخوتك رفعت لك ذكرك وفي الحديث: أن أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لما وردا مهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنهما لقبح فعلهما معه قبل، فشق ذلك عليهما وأتيا أبا بكر فكلفاه الشفاعة، فأبى، وأتيا عمر فكذلك، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى ابن عمه علي، وذهب عبد الله إلى أخته أم سلمة، فقال علي رضي الله عنه: الرأي أن تلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفل فتصيحان به: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ فإنه لا يرضى أن يكون دون أحد من الأنبياء فلا بد لذلك أن يقول: لا تثريب عليكما، ففعلا ذلك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الآية. والتثريب: اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء معتقد ونحوه، وقد عبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير، ومنه قول النبي عليه السلام: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب» ، أي لا يعير، أخرجه الشيخان في الحدود. ووقف بعض القراءة عَلَيْكُمُ وابتدأ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ووقف أكثرهم: الْيَوْمَ وابتدأ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ على جهة الدعاء- وهو تأويل ابن إسحاق والطبري، وهو الصحيح- والْيَوْمَ ظرف، فعلى هذا فالعامل فيه ما يتعلق به عَلَيْكُمُ تقديره: لا تثريب ثابت أو مستقر عليكم اليوم. وهذا الوقف أرجح في المعنى، لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي. قوله عز وجل: ٩٣انظر تفسير الآية:٩٥ ٩٤انظر تفسير الآية:٩٥ ٩٥اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) حكمه بعد الأمر إلقاء القميص على وجه أبيه بأن أباه يأتي بصيرا ويزول عماه دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله. قال النقاش: وروي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله إياه حين خرج من النار وكان من ثياب الجنة. وكان بعد لإسحاق ثم ليعقوب ثم كان دفعه ليوسف فكان عنده في حفاظ من قصب. قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يحتاج إلى سند، والظاهر أنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل أحد، وهكذا تبين العرابة في أن وجد ريحه من بعد، ولو كان من قمص الجنة لما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد. وأما «أهلهم» فروي: أنهم كانوا ثمانين نسمة، وقيل ستة وسبعين نفسا بين رجال ونساء- وفي هذا العدد دخلوا مصر ثم خرج منها أعقابهم مع موسى في ستمائة ألف. وذكر الطبري عن السدي أنه لما كشف أمره لإخوته سألهم عن أبيهم: ما حاله؟ فقالوا: ذهب بصره من البكاء. فحينئذ قال لهم: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي الآية. وقوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ الآية، معناه: فصلت العير من مصر متوجهة إلى موضع يعقوب، حسبما اختلف فيه، فقيل: كان على مقربة من بيت المقدس، وقيل كان بالجزيرة والأول أصح لأن آثارهم وقبورهم حتى الآن هناك. وروي أن يعقوب وجد رِيحَ يُوسُفَ وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام، قاله ابن عباس، وقال: هاجت ريح فحملت عرفه وروي: أنه كان بينهما ثمانون فرسخا- قاله الحسن- وابن جريج قال: وقد كان فارقه قبل ذلك سبعا وسبعين سنة. قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من الأول. وروي: أنه كان بينهما مسيرة ثلاثين يوما، قاله الحسن بن أبي الحسن، وروي عن أبي أيوب الهوزني: أن الريح استأذنت في أن توصل عرف يوسف إلى يعقوب، فأذن لها في ذلك. وكانت مخاطبة يعقوب هذه لحاضريه، فروي: أنهم كانوا حفدته، وقيل: كانوا بعض بنيه، وقيل: كانوا قرابته. وتُفَنِّدُونِ معناه: تردون رأيي وتدفعون في صدري، وهذا هو التفنيد في اللغة، ومن ذلك قول الشاعر: [البسيط] يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمري بمردود ويقال: أفند الدهر فلانا: إذا أفسده. قال ابن مقبل: [الطويل] دع الدهر يفعل ما أراد فإنه ... إذا كلف الإفناد بالناس أفندا ومما يعطي أن الفند الفساد في الجملة قول النابغة: [البسيط] إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فأحددها عن الفند وقال منذر بن سعيد: يقال: شيخ مفند: أي قد فسد رأيه، ولا يقال: عجوز. قال القاضي أبو محمد: والتفنيد يقع إما لجهل المفند، وإما لهوى غلبه، وإما لكذبه، وإما لضعفه وعجزه لذهاب عقله وهرمه، فلهذا فسّر الناس التفنيد في هذه الآية بهذه المعاني ومنه قوله عليه السلام أو هرما مفندا. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: معناه تسفهون، وقال ابن عباس- أيضا- تجهلون، وقال ابن جبير وعطاء: معناه: تكذبون، وقال ابن إسحاق: معناه: تضعفون، وقال ابن زيد ومجاهد: معناه: تقولون: ذهب عقلك، وقال الحسن: معناه: تهرمون. والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب إنما كان لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف. قال الطبري: أصل التفنيد الإفساد. وقولهم: لَفِي ضَلالِكَ يريدون في انتكافك وتحيرك، وليس هو بالضلال الذي هو في العرف ضد الرشاد، لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به، وقد تأول بعض الناس على ذلك، ولهذا قال قتادة رحمه الله: قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله عليه السلام، وقال ابن عباس: المعنى: لفي خطئك. قال القاضي أبو محمد: وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين، فلذلك يقال له: ذو الحزنين. قوله عز وجل: ٩٦انظر تفسير الآية:١٠٠ ٩٧انظر تفسير الآية:١٠٠ ٩٨انظر تفسير الآية:١٠٠ ٩٩انظر تفسير الآية:١٠٠ ١٠٠فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) روي عن ابن عباس: أن الْبَشِيرُ كان يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم. قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الواعظ أبا الفضل بن الجوهري على المنبر بمصر يقول: إن يوسف عليه السلام لما قال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي [يوسف: ٩٣] قال يهوذا لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه وذلك. وقال هذا المعنى السدي. وارتد معناه: رجع هو، يقال: ارتد الرجل ورده غيره، وبَصِيراً معناه: مبصرا، ثم وقفهم على قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وهذا- والله أعلم- هو انتظاره لتأويل الرؤيا- ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله تعالى فقط. وروي: أنه قال للبشير: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام قال: الحمد لله، الآن كملت النعمة. وفي مصحف ابن مسعود: «فلما أن جاء البشير من بين يدي العير» ، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنه قال: أَنْ في قوله: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ زائدة، والعرب تزيدها أحيانا في الكلام بعد لما وبعد حتى فقط، تقول: لما جئت كان كذا، ولما أن جئت، وكذلك تقول: ما قام زيد حتى قمت، وحتى أن قمت. وقوله: قالُوا: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الآية، روي أن يوسف عليه السلام لما غفر لإخوته، وتحققوا أيضا أن يعقوب يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغني عنا هذا إن لم يغفر الله لنا؟! فطلبوا- حينئذ- من يعقوب أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطأ، فقال لهم يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ، فقالت فرقة: سوفهم إلى السحر، وروي عن محارب بن دثار أنه قال: كان عم لي يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول: اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي، فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسئل عبد الله بن مسعود عن ذلك، فقال: إن يعقوب عليه السلام أخر بنيه إلى السحر، ويقوي هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟» الحديث. ويقويه قوله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران: ١٧] . وقالت فرقة: إنما سوفهم يعقوب إلى قيام الليل، وقالت فرقة- منهم سعيد بن جبير- سوفهم يعقوب إلى الليالي البيض، فإن الدعاء فيهن يستجاب وقيل: إنما أخرهم إلى ليلة الجمعة، وروى ابن عباس هذا التأويل عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أخرهم يعقوب حتى تأتي له الجمعة» . ثم رجاهم يعقوب عليه السلام بقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وقوله: فَلَمَّا دَخَلُوا الآية، هاهنا محذوفات يدل عليها الظاهر، وهي: فرحل يعقوب بأهله أجمعين وساروا حتى بلغوا يوسف، فلما دخلوا عليه. وآوى معناه: ضم وأظهر الحماية بهما، وفي الحديث: «أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله» . وقيل: أراد «بالأبوين» : أباه وأمه- قاله ابن إسحاق والحسن- وقال بعضهم: أباه وجدته- أم أمه- حكاه الزهراوي- وقيل: أباه وخالته، لأن أمه قد كانت ماتت- قاله السدي-. قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر- بحسب اللفظ- إلا لو ثبت بسند أن أمه قد كانت ماتت. وفي مصحف ابن مسعود: «آوى إليه أبويه وإخوته» . وقوله: ادْخُلُوا مِصْرَ معناه: تمكنوا واسكنوا واستقروا، لأنهم قد كانوا دخلوا عليه، وقيل: بل قال لهم ذلك في الطريق حين تلقاهم- قاله السدي- وهذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه، أن يقوله الإنسان في جميع ما ينفذه بقوله في المستقبل، وقال ابن جريج: هذا مؤخر في اللفظ وهو متصل في المعنى بقوله: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا التأويل ضعف. والْعَرْشِ: سرير الملك، وكل ما عرش فهو عريش وعرش، وخصصت اللغة العرش لسرير الملك، وخَرُّوا معناه: تصوبوا إلى الأرض، واختلف في هذا السجود، فقيل: كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود- على أي هيئة كان- فإنما كان تحية لا عبادة. قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم. وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقال الحسن: الضمير في لَهُ لله عز وجل. قال القاضي أبو محمد: ورد على هذا القول. وحكى الطبري: أن يعقوب لما بلغ مصر في جملته كلم يوسف فرعون في تلقيه فخرج إليه وخرج الملوك معه فلما دنا يوسف من يعقوب وكان يعقوب يمشي متوكئا على يهوذا- قال: فنظر يعقوب إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، هذا فرعون مصر، قال: لا هو ابنك، قال: فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام، فمنعه يعقوب من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل، فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان. قال القاضي أبو محمد: ونحو هذا من القصص، وفي هذا الوقت قال يوسف ليعقوب: إن فرعون قد أحسن إلينا فادخل عليه شاكرا، فدخل عليه، فقال فرعون: يا شيخ ما مصيرك إلى ما أرى؟ قال: تتابع البلاء عليّ. قال: فما زالت قدمه حتى نزل الوحي: يا يعقوب، أتشكوني إلى من لا يضرك ولا ينفعك؟ قال: يا رب ذنب فاغفره. وقال أبو عمرو الشيباني: تقدم يوسف يعقوب في المشي في بعض تلك المواطن فهبط جبريل فقال له: أتتقدم أباك؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي. قوله عز وجل: وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ.... المعنى: قال يوسف ليعقوب: هذا السجود الذي كان منكم، هو ما آلت إليه رؤياي قديما في الأحد عشر كوكبا وفي الشمس والقمر. وقوله: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ابتداء تعديد نعم الله تعالى عليه، وقوله: قَدْ أَحْسَنَ بِي، أي أوقع وناط إحسانه بي. فهذا منحى في وصول الإحسان بالباء، وقد يقال: أحسن إليّ، وأحسن فيّ، ومنه قول عبد الله بن أبي ابن سلول: يا محمد أحسن في مواليّ وهذه المناحي مختلفة المعنى، وأليقها بيوسف قوله: بِي لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد هو الغاية التي صار إليها. وذكر يوسف عليه السلام إخراجه من السجن، وترك إخراجه من الجب لوجهين: أحدهما: أن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس. والوجه الآخر: أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا أوضح. وقوله: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ يعم جمع الشمل والتنقل من الشقاوة إلى النعمة بسكنى الحاضرة، وكان منزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام في بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية. ونَزَغَ معناه: فعل فعلا أفسد به، ومنه قول النبي عليه السلام: «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده» . وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعا. وقوله: لِما يَشاءُ أي من الأمور أن يفعله، واختلف الناس في كم كان بين رؤيا يوسف وبين ظهورها: فقالت فرقة أربعون سنة- هذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد، وقال عبد الله بن شداد: ذلك آخر ما تبطئ الرؤيا- وقالت فرقة- منهم الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض- ثمانون سنة. وقال ابن إسحاق: ثمانية عشر، وقيل: اثنان وعشرون- قاله النقاش- وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون- قاله قتادة- وقال السدي وابن جبير: ستة وثلاثون سنة. وقيل: إن يوسف عليه السلام عمر مائة وعشرين سنة. وقيل: إن يعقوب بقي عند يوسف نيفا على عشرين سنة ثم توفي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي أبو محمد: ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه، وأراد من صورة جمعهم- لا إله إلا هو- وقال النقاش: كان ذلك الوحي في الجب، وهو قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف: ١٥] وهذا محتمل. ومما روي في أخبار يعقوب عليه السلام: قال الحسن: إنه لما ورده البشير لم يجد عنده شيئا يثيبه به فقال له: والله ما أصبت عندنا شيئا، وما خبزنا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. ومن أخباره: أنه لما اشتد بلاؤه وقال: يا رب أعميت بصري وغيبت عني يوسف، أفما ترحمني؟ فأوحى الله إليه: سوف أرحمك وأرد عليك ولدك وبصرك، وما عافيتك بذلك إلا أنك طبخت في منزلك حملا فشمه جار لك ولم تساهمه بشيء، فكان يعقوب بعد يدعوه إلى غدائه وعشائه. وحكى الطبري: أنه لما اجتمع شمله كلفه بنوه أن يدعو الله لهم حتى يأتي الوحي بأن الله قد غفر لهم. قال: فكان يعقوب يصلي ويوسف وراءه وهم وراء يوسف، ويدعو لهم فلبث كذلك عشرين سنة ثم جاءه الوحي: إني قد غفرت لهم وأعطيتهم مواثيق النبوة بعدك. ومن أخباره: أنه لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يدفنه بالشام، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام، ثم مات يوسف فدفن بمصر، فلما خرج موسى- بعد ذلك- من أرض مصر احتمل عظام يوسف حتى دفنها بالشام مع آبائه. قوله عز وجل: ١٠١انظر تفسير الآية:١٠٢ ١٠٢رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) قرأ ابن مسعود «آتيتن» و «علمتن» بحذف الياء على التخفيف، وقرأ ابن ذر «رب آتيتني» بغير «قد» . وذكر كثير من المفسرين: أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين، ورأى أن الدنيا كلها قليلة فتمنى الموت في قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقال ابن عباس: «لم يتمن الموت نبي غير يوسف» ، وذكر المهدوي تأويلا آخر- وهو الأقوى عندي- أن ليس في الآية تمني موت- وإنما عدد يوسف عليه السلام نعم الله عنده ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره أي تَوَفَّنِي- إذا حان أجلي- على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين، وإنما تمنى الموافاة على الإسلام لا الموت. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يتمنينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به» . الحديث بكماله. وروي عنه عليه السلام أنه قال في بعض دعائه: «وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم قد رقّ عظمي وانتشرت وعييت فتوفني غير مقصر ولا عاجز. قال القاضي أبو محمد: فيشبه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: لضر نزل به- إنما يريد ضرر الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك ويبقى تمني الموت مخافة فساد الدين مباحا، ويدلك على هذا قول النبي عليه السلام: «يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، ليس به الدين لكن ما يرى من البلاء والفتن» . قال القاضي أبو محمد: فقوله: ليس به الدين- يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة الناس كيف تكون. وقوله: آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ قيل: مِنَ للتبعيض وقيل: لبيان الجنس وكذلك في قوله: مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ والمراد بقوله: الْأَحادِيثِ الأحلام، وقيل: قصص الأنبياء والأمم. وقوله: فاطِرَ منادى، وقوله: أَنْتَ وَلِيِّي أي القائم بأمري الكفيل بنصرتي ورحمتي. وقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الآية، ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من قصة يوسف، وهذه الآية تعريض لقريش وتنبيه على آية صدق محمد، وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه. والضمير في لَدَيْهِمْ عائد إلى إخوة يوسف، وكذلك الضمائر إلى آخر الآية، وأَجْمَعُوا معناه: عزموا وجزموا، و «الأمر» هنا هو إلقاء يوسف في الجب، و «المكر» هو أن تدبر على الإنسان تدبيرا يضره ويؤذيه، والخديعة هي أن تفعل بإنسان وتقول له ما يوجب أن يفعل هو فعلا فيه عليه ضرر. وحكى الطبري عن أبي عمران الجوني أنه قال: والله ما قص الله نبأهم ليعيرهم بذلك، إنهم لأنبياء من أهل الجنة، ولكن قص الله علينا نبأهم لئلا يقنط عبده. قوله عز وجل: ١٠٣انظر تفسير الآية:١٠٨ ١٠٤انظر تفسير الآية:١٠٨ ١٠٥انظر تفسير الآية:١٠٨ ١٠٦انظر تفسير الآية:١٠٨ ١٠٧انظر تفسير الآية:١٠٨ ١٠٨وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) هاتان الآيتان تدلان أن الآية التي قبلهما فيها تعريض لقريش ومعاصري محمد عليه السلام، كأنه قال: فإخبارك بالغيوب دليل قائم على نبوتك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وإن كنت أنت حريصا على إيمانهم، أي يؤمن من شاء الله. وقوله: وَلَوْ حَرَصْتَ اعتراض فصيح. وقوله: وَما تَسْئَلُهُمْ الآية، توبيخ للكفرة وإقامة الحجة عليهم، أي ما أسفههم؟؟؟ في أن تدعوهم إلى الله دون أن تبغي منهم أجرا فيقول قائل: بسبب الأجر يدعوهم. وقرأ مبشر بن عبيد: «وما نسألهم» بالنون. ثم ابتدأ الله تعالى الإخبار عن كتابه العزيز أنه ذكر وموعظة لجميع العالم- نفعنا الله به ووفر حظنا منه بعزته-. وقرأت الجماعة «وكأيّن» بهمز الألف وشد الياء، قال سيبويه: هي كاف التشبيه اتصلت بأي، ومعناها معنى كم في التكثير. وقرأ ابن كثير «وكائن» بمد الألف وهمز الياء، وهو من اسم الفاعل من كان، فهو كائن ولكن معناه معنى كم أيضا. وقد تقدم استيعاب القراءات في هذه الكلمة في قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قتل [آل عمران: ١٤٦] . وال آيَةٍ هنا المخلوقات المنصوبة للاعتبار والحوادث الدالة على الله سبحانه في مصنوعاته، ومعنى يَمُرُّونَ عَلَيْها الآية- أي إذا جاء منها ما يحس أو يعلم في الجملة لم يتعظ الكافر به، ولا تأمله ولا اعتبر به بحسب شهواته وعمهه، فهو لذلك كالمعرض، ونحو هذا المعنى قول الشاعر: [الطويل] تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضا ... ويصدع قلبي أن يهب هبوبها وقرأ السدي «والأرض» بالنصب بإضمار فعل، والوقف- على هذا- في السَّماواتِ وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد «والأرض» بالرفع على الابتداء، والخبر قوله: يَمُرُّونَ وعلى القراءة بخفض «الأرض» ف يَمُرُّونَ نعت لآية. وفي مصحف عبد الله: «والأرض يمشون عليها» . وقوله: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ الآية، قال ابن عباس: هي في أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله ثم يشركون من حيث كفروا بنبيه، أو من حيث قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. وقال عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد هي في كفار العرب، وإيمانهم هو إقرارهم بالخالق والرازق والمميت، فسماه إيمانا وإن أعقبه إشراكهم بالأوثان والأصنام- فهذا الإيمان لغوي فقط من حيث هو تصديقها. وقيل: هذه الآية نزلت بسبب قول قريش في الطواف والتلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك، يقول له: قط قط، أي قف هنا ولا تزد: إلا شريك هو لك. وال غاشِيَةٌ ما يغشي ويغطي ويغم، وقرأ أبو حفص مبشر بن عبد الله: «يأتيهم الساعة بغتة» بالياء، وبَغْتَةً معناه: فجأة، وذلك أصعب، وهذه الآية من قوله: وَكَأَيِّنْ وإن كانت في الكفار- بحكم ما قبلها- فإن العصاة يأخذون من ألفاظها بحظ، ويكون الإيمان حقيقة والشرك لغويا كالرياء، فقد قال عليه السلام: «الرياء: الشرك الأصغر» . وقوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي الآية، إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة بأسرها. قال ابن زيد: المعنى: هذا أمري وسنتي ومنهاجي. وقرأ ابن مسعود: «قل هذا سبيلي» «والسبيل» : المسلك، وتؤنث وتذكر، وكذلك الطريق، وبَصِيرَةٍ: اسم لمعتقد الإنسان في الأمر من الحق واليقين، و «البصيرة» أيضا في كلام العرب: الطريقة في الدم، وفي الحديث المشهور: «تنظر في النصل فلا ترى بصيرة» ، وبها فسر بعض الناس قول الأشعر الجعفي: راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأي يصف قوما باعوا دم وليهم فكأن دمه حصلت منه طرائق على أكتافهم إذ هم موسومون عند الناس ببيع ذلك الدم. قال القاضي أبو محمد: ويجوز أن تكون «البصيرة» في بيت الأشعر على المعتقد الحق، أي جعلوا اعتقادهم طلب النار وبصيرتهم في ذلك وراء ظهورهم، كما تقول: طرح فلان أمري وراء ظهره. وقوله: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يحتمل أن يكون تأكيدا للضمير في أَدْعُوا ويحتمل أن تكون الآية كلها أمارة بالمعروف داعية إلى الله الكفرة به والعصاة. وسُبْحانَ اللَّهِ تنزيه لله، أي وقل: سبحان الله، وقل متبرئا من الشرك. وروي أن هذه الآية: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي إلى آخرها كانت مرقومة على رايات يوسف عليه السلام. قوله عز وجل: ١٠٩انظر تفسير الآية:١١٠ ١١٠وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) هذه الآية تتضمن الرد على مستغربي إرسال الرسل من البشر كالطائفة التي قالت: أبعث الله بشرا رسولا، وكالطائفة التي اقترحت ملكا وغيرهما. وقرأ الجمهور: «يوحى إليهم» بالياء وفتح الحاء، وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر، وقرأ في رواية حفص: «نوحي» بالنون وكسر الحاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن وطلحة. والْقُرى: المدن، وخصصها دون القوم المنتوين- أهل العمود- فإنهم في كل أمة أهل جفاء وجهالة مفرطة، قال ابن زيد: أَهْلِ الْقُرى أعلم وأحلم من أهل العمود. قال القاضي أبو محمد: فإنهم قليل نبلهم ولم ينشىء الله فيهم رسولا قط. وقال الحسن: لم يبعث الله رسولا قط من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن. قال القاضي أبو محمد: والتبدي مكروه إلا في الفتن وحين يفر بالدين، كقوله عليه السلام «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما» الحديث. وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تعرب في الإسلام» وقال: من «بدا جفا» . وروي عنه معاذ بن جبل أنه قال: «الشيطان ذيب الإنسان كذيب الغنم يأخذ الشاة القاصية فإياكم والشعاب وعليكم بالمساجد والجماعات والعامة» . قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا ببدو يعقوب، وينفصل عن ذلك بوجهين: أحدهما: أن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود بل هو بتقر في منازل وربوع. والثاني: أنه إنما جعله بدوا بالإضافة إلى مصر كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر. ثم أحالهم على الاعتبار في الأمم السالفة في أقطار الأرض التي كذبت رسلها فحاق بها عذاب الله، ثم حض على الآخرة والاستعداد لها والاتقاء من الموبقات فيها، ثم وقفهم موبخا بقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ. وقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ زيادة في وصف إنعامه على المؤمنين، أي عذب الكفار ونجى المؤمنين، ولدار الآخرة أحسن لهم. وأما إضافة «الدار» إلى الْآخِرَةِ فقال الفراء: هي إضافة الشيء إلى نفسه كما قال الشاعر: [الوافر] فإنك لو حللت ديار عبس ... عرفت الذل عرفان اليقين وفي رواية: فلو أقوت عليك ديار إلخ. وكما يقال: مسجد الجامع، ونحو هذا، وقال البصريون: هذه على حذف مضاف تقديره: ولدار الحياة الآخرة أو المدة الآخرة. قال القاضي أبو محمد: وهذه الأسماء التي هي للأجناس كمسجد وثوب وحق وجبل ونحو ذلك- إذا نطق بها الناطق لم يدر ما يريد بها، فتضاف إلى معرف مخصص للمعنى المقصود فقد تضاف إلى جنس آخر كقولك: جبل أحد، وقد تضاف إلى صفة كقولك: مسجد الجامع وحق اليقين، وقد تضاف إلى اسم خاص كقولك جبل أحد ونحوه. وقرأ الحسن والأعمش والأعرج وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وعلقمة «يعقلون» بالياء، واختلف عن الأعمش. قال أبو حاتم: قراءة العامة: «أفلا تعقلون» بالتاء من فوق. ويتضمن قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوا أممهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات، صاروا في حيز من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن تدخل حَتَّى في قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن وعائشة- بخلاف- وعيسى وقتادة ومحمد بن كعب والأعرج وأبو رجاء وابن أبي مليكة «كذّبوا» بتشديد الذال وضم الكاف، وقرأ الباقون «كذبوا» بضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها- وهي قراءة علي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والأعمش وابن جبير ومسروق والضحاك وإبراهيم وأبي جعفر، ورواها شيبة بن نصاح عن القاسم عن عائشة- وقرأ مجاهد والضحاك وابن عباس وعبد الله بن الحارث- بخلاف عنهم- «كذبوا» بفتح الكاف والذال، فأما الأولى فتحتمل أن يكون الظن بمعنى اليقين، ويكون الضمير في ظَنُّوا وفي كُذِبُوا للرسل، ويكون المكذبون مشركي من أرسل إليه المعنى: وتيقن الرسل أن المشركين كذبوهم وهموا على ذلك، وأن الانحراف عنه ويحتمل أن يكون الظن على بابه، والضميران للرسل، والمكذبون مؤمنو من أرسل إليه، أي مما طالت المواعيد حسب الرسل أن المؤمنين أولا قد كذبوهم وارتابوا بقولهم. وأما القراءة الثانية- وهي ضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها- فيحتمل أن يكون المعنى- حتى إذا استيأس الرسل من النصر أو من إيمان قومهم- على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك- وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوءة، أو فيما توعدوهم به من العذاب- لما طال الإمهال واتصلت العافية- فلما كان المرسل إليهم- على هذا التأويل- مكذبين- بني الفعل للمفعول في قوله: «كذبوا» - هذا مشهور قول ابن عباس وابن جبير- وأسند الطبري: أن مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فهذا هو أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مخففة. فقال له ابن جبير: يا أبا عبد الرحمن إنما يئس الرسل من قومهم أن يجيبوهم، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم، فحينئذ جاء النصر. فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال: فرجت عني فرج الله عنك. قال القاضي أبو محمد: فرضي الله عنهم كيف كان خلقهم في العلم. وقال بهذا التأويل- في هذه القراءة- ابن مسعود ومجاهد، ورجح أبو علي الفارسي هذا التأويل، وقال: إن رد الضمير في ظَنُّوا وفي «كذبوا» على المرسل إليهم- وإن كان لم يتقدم لهم ذكر صريح- جائز لوجهين: أحدهما: أن ذكر الرسل يقتضي ذكر مرسل إليه. والآخر: أن ذكرهم قد أشير إليه في قوله: عاقِبَةُ الَّذِينَ، وتحتمل هذه القراءة أيضا أن يكون الضمير في ظَنُّوا وفي كُذِبُوا عائد على الرسل، والمعنى: كذبهم من أخبرهم عن الله، والظن على بابه- وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم- والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم- قاله ابن عباس وابن مسعود أيضا وابن جبير- وقال: ألم يكونوا بشرا؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا هو الذي نكره. وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا. وقال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز على الرسل. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم؟ وأما القراءة الثالثة- وهي فتح الكاف والذال- فالضمير في ظَنُّوا للمرسل إليهم، والضمير في «كذبوا» للرسل، ويحتمل أن يكون الضميران للرسل، أي ظن الرسل أنهم قد كذبوا من حيث نقلوا الكذب وإن كانوا لم يتعمدوه، فيرجع هذا التأويل إلى المعنى المردود الذي تقدم ذكره وقوله: جاءَهُمْ نَصْرُنا أي بتعذيب أممهم الكافرة، ثم وصف حال مجيء العذاب في أنه ينجي الرسل وأتباعهم، وهم الذين شاء رحمتهم، ويحل بأسه بالمجرمين الكفرة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فننجي» - بنونين- من أنجى. وقرأ الحسن: «فننجي» - النون الثانية مفتوحة، وهو من نجى ينجّي. وقرأ أبو عمرو أيضا وقتادة «فنجّي» - بنون واحدة وشد الجيم وسكون الياء- فقالت فرقة: إنها كالأولى أدغمت النون الثانية في الجيم ومنع بعضهم أن يكون هذا موضع إدغام لتنافر النون والجيم في الصفات لا في المخارج، وقال: إنما حذفت النون في الكتاب لا في اللفظ وقد حكيت هذه القراءة عن الكسائي ونافع. وقرأ عاصم وابن عامر «فنجي» بفتح الياء على وزن فعل. وقرأت فرقة «فننجي» - بنونين وفتح الياء- رواها هبيرة عن حفص عن عاصم- وهي غلط من هبيرة. وقرأ ابن محيصن ومجاهد «فنجى» - فعل ماض بتخفيف الجيم وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن بن أبي الحسن وابن السميفع وأبي حيوة، قال أبو عمرو الداني: وقرأت لابن محيصن «فنجّى» - بشد الجيم- على معنى فنجى النصر. و «البأس» : العذاب. وقرأ أبو حيوة «من يشاء» - بالياء- وجاء الإخبار عن هلاك الكافرين، بقوله: وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا ... الآية- إذ في هذه الألفاظ وعيد بين، وتهديد لمعاصري محمد عليه السلام. وقرأ الحسن «بأسه» ، بالهاء. قوله عز وجل: ١١١لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١) الضمير في قَصَصِهِمْ عام ليوسف وأبويه وإخوته وسائر الرسل الذين ذكروا على الجملة، ولما كان ذلك كله في القرآن قال عنه ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى فإذا تأملت قصة يوسف ظهر أن في غرائبها وامتحان الله فيها لقوم في مواضع، ولطفه لقوم في مواضع، وإحسانه لقوم في مواضع، معتبرا لمن له لب وأجاد النظر، حتى يعلم أن كل أمر من عند الله وإليه. وقوله: ما كانَ صيغة منع، وقرينة الحال تقتضي أن البرهان يقوم على أن ذلك لا يفترى، وذلك بأدلة النبوءة وأدلة الإعجاز، و «الحديث» - هنا- واحد الأحاديث، وليس للذي هو خلاف القديم هاهنا مدخل. ونصب تَصْدِيقَ إما على إضمار معنى كان، وإما على أن تكون لكِنْ بمعنى لكن المشددة. وقرأ عيسى الثقفي «تصديق» بالرفع، وكذلك كل ما عطف عليه، وهذا على حذف المبتدأ، التقدير: هو تصديق. وقال أبو حاتم: النصب على تقدير: ولكن كان، والرفع على: ولكن هو. وينشد بيت ذي الرمة بالوجهين: وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت ولا كسي مأثم ولكن عطاء الله من كل رحلة ... إلى كل محجوب السرادق خضرم رفع عطاء الله، والنصب أجود. والَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هو التوراة والإنجيل، والضمير في يَدَيْهِ عائد على القرآن، وهم اسم كان. وقوله: كُلِّ شَيْءٍ يعني من العقائد والأحكام والحلال والحرام. وباقي الآية بين. |
﴿ ٠ ﴾