بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة العنكبوتهذه السورة مكية. إلا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة، وفي هذا الفصل اختلاف وهذا أصح ما قيل فيه. قوله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ١انظر تفسير الآية:٣ ٢انظر تفسير الآية:٣ ٣الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وقرأ ورش «ألم احسب» بفتح الميم من غير همز بعدها وذلك على تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها على الميم، وهذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكر أن يمكن الله الكفرة من المؤمنين قال مجاهد وغيره، فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله تعالى في عباده اختبارا للمؤمنين وفتنة ليعلم الصادق ويري ثواب الله له ويعلم الكاذب ويري عقابه إياه. قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب وفي هذه الجماعة فهي بمعناها باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى والاختبار باق في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المؤمنين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر، وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله تعالى ونظرائه، وقال الشعبي: سبب الآية ما كلفه المؤمنون من الهجرة، فهي الفتنة التي لم يتركوا دونها، لا سيما وقد لحقهم بسببها أن اتبعهم الكفار وردوهم وقاتلوهم، فقتل من قتل ونجا من نجا، وقال السدي: نزلت في مسلمين كانوا بمكة وكرهوا الجهاد والقتال حين فرض على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، و «حسب» ، معناه ظن، وأَنْ نصب ب «حسب» وهي والجملة التي بعدها تسد مسد مفعولي «حسب» وأَنْ الثانية في موضع نصب على تقدير إسقاط حرف الخفض تقديره «بأن يقولوا» ، ويحتمل أن يقدر «لأن يقولوا» ، والمعنى في الباء واللام مختلف وذلك أنه في الباء كما تقول تركت زيدا بحاله، وهي في اللام بمعنى من أجل أن حسبوا أن إيمانهم علة للترك، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يريد بهم المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر، وقرأ الجمهور «فليعلمن» بفتح الياء واللام الثانية، ومعنى ذلك ليظهرن عليهم ويوجدن منهم ما علمه أزلا، وذلك أن علمه بذلك قديم وإنما هذه عبارة عن الإيجاد بالحالة التي تضمنها العلم القديم، والصدق والكذب على بابهما أي من صدق فعله قوله ومن كذبه ونظير هذا قول زهير: [البسيط] ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا قال النقاش، قيل إن الإشارة ب صَدَقُوا هي إلى مهجع مولى عمر بن الخطاب لأنه أول قتيل قتل من المؤمنين يوم بدر، وقالت فرقة: إنما هي استعارة وإنما أراد بها الصلابة في الدين أو الاضطراب فيه وفي جهاد العدو ونحو هذا، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام، وهذه القراءة تحتمل ثلاثة معان أحدها أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا، بمعنى يوقفهم على ما كان منهم، والثاني أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره ليعلمن الناس أو العالم هؤلاء الصادقين والكاذبين، أي يفضحهم ويشهرهم، هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة، والثالث أي يكون ذلك من العلامة أي لكل طائفة علما تشهر به، فالآية على هذا ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها» وعلى كل معنى منها ففيها وعد للمؤمنين الصادقين ووعيد للكافرين، وقرأ الزهري الأولى كقراءة الجمهور والثانية كقراءة عليّ رضي الله عنه. قوله عز وجل: ٤انظر تفسير الآية:٧ ٥انظر تفسير الآية:٧ ٦انظر تفسير الآية:٧ ٧أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) أَمْ معادلة للألف في قوله أَحَسِبَ [العنكبوت: ١] وكأنه عز وجل قرر الفريقين، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون وقرر الكافرين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون عقاب الله ويعجزونه، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، وإن كان الكفار المراد الأول بحسب النازلة التي الكلام فيها فإن لفظ الآية يعم كل عاص وعامل سيئة من المسلمين وغيرهم، وقوله ساءَ ما يَحْكُمُونَ يجوز أن يكون ما بمعنى الذي فهي في موضع رفع، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير ساء حكما يحكمونه، وقال ابن كيسان: ما مع يَحْكُمُونَ في موضع المصدر كأنه قال: ساء حكمهم، وفي هذه الآية وعيد للكفرة الفاتنين، وتأنيس وعده بالنصر للمؤمنين المفتونين المغلوبين، ثم أخبر تعالى عن الحشر والرجوع إلى الله تعالى في القيامة بأنه آت إذ قد أجله الله تعالى وأخبر به، وفي قوله مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ، تثبيت، أي من كان على هذا الحق فليوقن بأنه آت وليتزيد بصيرة، وقال أبو عبيدة يَرْجُوا هاهنا بمعنى يخاف، والصحيح أن الرجاء هاهنا على بابه متمكنا، قال الزجاج: المعنى لقاء ثواب الله، وقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، معناه لأقوال كل فرقة، والْعَلِيمُ معناه بالمعتقدات التي لهم، وقوله تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إعلام بأن كل واحد مجازى بفعله فهو إذا له، وهو حظه الذي ينبغي أن لا يفرط فيه فإن الله غني عن جهاده و «غني عن العالمين» بأسرهم، وهاتان الآيتان نبذ على سؤال الطائفة المرتابة المترددة في فتنة الكفار التي كانت تنكر أن ينال الكفار المؤمنين بمكروه وترتاب من أجل ذلك، فكأنهم قيل لهم من كان يؤمن بالبعث فإن الأمر حق في نفسه، والله تعالى بالمرصاد، أي هذه بصيرة لا ينبغي لأحد أن يعتقدها لوجه أحد، وكذلك من جاهد فثمرة جهاده له فلا يمن بذلك على أحد، وهذا كما يقول المناظر عند سوق حجته من أراد أن يرى الحق فإن الأمر كذا وكذا ونحو هذا فتأمله، وقيل: معنى الآية ومن جاهد المؤمنين ودفع في صدر الدين فإنما جهاده لنفسه لا لله فالله غني. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ذكره المفسرون وهو ضعيف، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى رفع بهم عز وجل وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم الكفار إلى الحصول في هذه المرتبة ع و «السيئات» ، الكفر وما اشتمل عليه ويدخل في ذلك المعاصي من المؤمنين مع الأعمال الصالحات واجتناب الكبائر، وفي قوله عز وجل وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ حذف مضاف تقديره ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. قوله عز وجل: ٨انظر تفسير الآية:١١ ٩انظر تفسير الآية:١١ ١٠انظر تفسير الآية:١١ ١١وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ الآية، روي عن قتادة وغيره أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها ويكفر بمحمد فلج هو في هجرته، ونزلت الآية، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة، وذلك أنه اعتراه في دينه نحو من هذا بعد أن خدعه أبو جهل ورده إلى أمه الحديث في كتاب السيرة، ولا مرية أنها نزلت فيمن كان من المؤمنين بمكة يشقى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو الهجرة فكان القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مثل هذا، لعظم الأمر وكثرة الخطر فيه مع الله تعالى، ثم إنه لما كان بر الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي قررته الشريعة وأكدت فيه وكان من القوي عندهم الملتزم قدم الله تعالى النهي عن طاعتهما، وقوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً على معنى أنا لا نخلّ ببر الوالدين لكنا لا نسلطه على طاعة الله لا سيما في معنى الإيمان والكفر وقوله: حُسْناً يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تجوز ويسهله كونه عاما لمعان، كما تقول وصيتك خيرا أو وصيتك شرا، عبر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك دون حرف جر كون حرف الجر في قوله بِوالِدَيْهِ لأن المعنى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بالحسن في فعله، مع والديه، ونظير هذا قول الشاعر: [الرجز] عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيرا بها فكأننا جافونا ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله بِوالِدَيْهِ وينتصب حُسْناً بفعل مضمر تقديره يحسن حسنا، وينتصب انتصاب المصدر، والجمهور على ضم الحاء وسكون السين، وقرأ عيسى «حسنا» بفتحهما، وقال الجحدري في الإمام مكتوب «بوالديه إحسانا» قال أبو حاتم يعني «في الأحقاف» ، وقال الثعلبي في مصحف أبي بن كعب «إحسانا» ، ووجوه إعرابه كالذي تقدم في قراءة من قرأ «حسنا» . وقوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر، ثم كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم، وقوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ مبالغة على معنى في الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته وإذا تحصل للمؤمنين هذا الحكم تحصل ثمره وجزاؤه وهو الجنة، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ الآية إلى قوله الْمُنافِقِينَ نزلت في قوم من المسلمين كانوا بمكة مختفين بإسلامهم، قال ابن عباس: فلما خرج كفار قريش إلى بدر أخرجوا مع أنفسهم طائفة من هؤلاء فأصيب بعضهم فقال المسلمون كانوا أصحابنا وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧] ، قال فكتبت لمن بقي بمكة بهذه الآية أي لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة وردوهم إلى مكة فنزلت فيهم هذه الآية، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: ١١٠] ، فكتب لهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا وقتل من قتل، وقال ابن زيد: نزل قوله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ الآية في منافقين كفروا لما أوذوا، وقوله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي صعب عليه أذى الناس حين صده وكان حقه أن لا يلتفت إليه وأن يصبر له في جنب نجاته من عذاب الله، ثم أزال تعالى موضع تعلقهم ومغالطتهم أن جاء نصر، ثم قررهم على علم الله تعالى بما في صدورهم أي لو كان يقينا تاما وإسلاما خالصا لما توقفوا ساعة ولركبوا كل هول إلى هجرتهم ودار نبيهم وقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ، تفسيره على حد ما تقدم في نظيره، وهنا انتهى المدني في هذه السورة. قوله عز وجل: ١٢انظر تفسير الآية:١٥ ١٣انظر تفسير الآية:١٥ ١٤انظر تفسير الآية:١٥ ١٥وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) روي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة، وقيل بل كانت شائعة من كفار قريش قالوا لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ادخلوا في أمرنا وأقروا بآلهتنا واعبدوها معنا ونحن ليقيننا أنه لا بعث بعد الموت ولا رجوع نتضمن لكم حمل خطاياكم فيما دعوناكم إليه إن كان في ذلك درك كما تزعمون، وقولهم وَلْنَحْمِلْ إخبار أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالثقل ولكنهم أخرجوه في صيغة الأمر لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازاة وهذا نحو قال الشاعر [مدثار بن شيبان النمري] : [الوافر] فقلت ادعي وأدع فإن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان ولكونه خبرا حسن تكذيبهم فيه، فأخبر الله عز وجل أن ذلك باطل وأنهم لو فعلوه لم ينحمل عن أحد من هؤلاء المغترين بهم شيء من خطاياه التي تختص به، وقرأ الجمهور «ولنحمل» بجزم اللام، وقرأ عيسى ونوح القاري «ولنحمل» بكسر اللام وقرأ داود بن أبي هند «من خطيهم» بفتح الطاء وكسر الياء وحكى عنه أبو عمرو أنه قرأ «من خطيئاتهم» بكسر الطاء وهمزة وتاء بعد الألف، وقال مجاهد: الحمل هو من الحمالة لا من الحمل على الظهر. ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفرة أنهم يحملون أثقالهم من كفرهم الذي يجترحونه ويتلبسون به، وأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ يريد ما يلحقهم من إغوائهم لعامتهم وأتباعهم فأنه يلحق كل داع إلى ضلالة كفل منها حسب الحديث المشهور، «أيما داع إلى هدى فاتبع عليه فله مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة» الحديث. قال القاضي أبو محمد: وهي وإن كانت من أَثْقالَهُمْ فلكونها بسبب غيرهم وعن غير كفر تلبسوه فرق بينها وبين أَثْقالَهُمْ ولم ينسبها إلى غيرهم بل جعلها في رتبة أخرى فقط فهم فيها إنما يزرون بوزر أنفسهم، وقد يترتب حمل أثقال الغير بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه يقتص للمظلوم بأن يعطى من حسنات ظالمه فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه» ، وقوله تعالى: وَلَيُسْئَلُنَّ، يريد على جهة التوبيخ والتقريع لا على جهة الاستفهام والاستعلام، ويَفْتَرُونَ، معناه يختلقون من الكفر ودعوى الصاحبة والولد لله تعالى وغير ذلك، وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الآية قصة فيها تسلية لمحمد عليه السلام عما تضمنته الآيات قبلها من تعنت قومه وفتنتهم للمؤمنين وغير ذلك، وفيها وعيد لهم بتمثيل أمرهم بأمر قوم نوح، والواو في قوله وَلَقَدْ عاطفة جملة كلام على جملة، والقسم فيها بعيد، وقوله تعالى: أَرْسَلْنا، فَلَبِثَ، هذا العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولا يدعو، وقد يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه من لدن مولده إلى غرق قومه، وأما على التأويل الأول فاختلف في سنيه التي بعث عندها، فقيل أربعون، وقيل ثمانون، وقال عون بن أبي شداد: ثلاثمائة وخمسون، وكذلك يحتمل أن تكون وفاته عليه السلام عند غرق قومه بعد ذلك بيسير. وقد روي أنه عمر بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين عاما وأنه عاش ألف سنة وستمائة وخمسين سنة، وقوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ يقتضي أنه أخذ قومه فقط، وقد اختلف في ذلك فقالت فرقة: إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض وهي المختصة بقوم نوح، وقالت فرقة: هي الجمهور: إنما غرقت المعمورة كلها. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو ظاهر الأمر لاتخاذه السفينة ولبعثه الطير يرتاد زوال الماء ولغير ذلك من الدلائل، وبقي أن يعترض هذا بأن يقال كيف غرق الجميع والرسالة إلى البعض، فالوجه في ذلك أن يقال: إن اختصاص نبي بأمة ليس هو بأن لا يهدي غيرها ولا يدعوها إلى توحيد الله تعالى، وإنما هو بأن لا يؤخذ بقتال غيرها ولا ببث العبادات فيهم، لكن إذا كانت نبوة قائمة هذه المدة الطويلة والناس حولها يعبدون الأوثان ولم يكن الناس يومئذ كثيرا بحكم القرب من آدم فلا محالة أن دعاءه إلى توحيد الله كان قد بلغ الكل فنالهم الغرق لإعراضهم وتماديهم، والطُّوفانُ العظيم الطامي، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء أو نار أو موت ومنه قول الشاعر: فجاءهم طوفان موت جارف و «طوفان» وزنه فعلان بناء مبالغة من طاف يطوف إذا عم من كل جهة، ولكنه كثر استعماله في الماء خاصة وقوله تعالى: وَهُمْ ظالِمُونَ، يريد بالشرك، وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ قد تقدم في غير هذه السورة الاختلاف في عددهم، وهم بنوه وقوم آمنوا معه، والضمير في قوله وَجَعَلْناها يحتمل أن يعود على السَّفِينَةِ ويحتمل أن يعود على العقوبة، ويحتمل أن يعود على النجاة، والآية هنا العبرة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه، قال قتادة: أبقاها آية على الجودي. قوله عز وجل: ١٦انظر تفسير الآية:١٧ ١٧وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) يجوز أن يكون إِبْراهِيمَ معطوفا على «نوح» ، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في «أنجيناه» [العنكبوت: ١٥] ، ويجوز أن ينصبه فعل تقديره «واذكر إبراهيم» .، وهذه القصة أيضا تمثيل لقريش، وكان نمرود وأهل مدينته عبدة أصنام فدعاهم إبراهيم إلى توحيد الله تعالى وعبادته، ثم قرر لهم ما هم عليه من الضلال، وقرأ جمهور الناس، «تخلقون إفكا» ، وقرأ ابن الزبير وفضيل «إفكا» على وزن فعل وهو مصدر كالكذب والضحك ونحوه، واختلف في معنى تَخْلُقُونَ فقال ابن عباس هو نحت الأصنام وخلقها. سماها إِفْكاً توسعا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة، وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك، وقرأ عبد الرحمن السلمي وعون العقيلي وقتادة وابن أبي ليلى «وتخلّقون إفكا» بفتح الخاء وشد اللام وفتحها، و «الإفك» على هذه القراءة الكذب ثم وقفهم على جهة الاحتجاج عليهم بأمر تفهمه عامتهم وخاصتهم وهو أمر الرزق، فقرر أن الأصنام لا ترزق، وأمر بابتغاء الخير عند الله تعالى وخصص الرِّزْقَ لمكانته من الخلق فهو جزء يدل على جنسه كله، ويقال شكرت لك وشكرتك بمعنى واحد، ثم أخبرهم بالمعاد والحشر إليه. قوله عز وجل: ١٨انظر تفسير الآية:٢٠ ١٩انظر تفسير الآية:٢٠ ٢٠وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) في قوله تعالى وَإِنْ تُكَذِّبُوا الآية وعيد، أي قد كذب غيركم وعذب وإنما على الرسول البلاغ، وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه «أو لم تروا» بالتاء، وقرأ الباقون «أو لم يروا» بالياء، الأولى على المخاطبة والثانية على الحكاية عن الغائب. وقرأ الجمهور «يبدىء» وقرأ عيسى وأبو عمرو بخلاف والزهري «يبدأ» وهذه الإحالة على ما يظهر مع الأحيان من إحياء الأرض والنبات وإعادته ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور والحشر، ويحتمل أن يريد أَوَلَمْ يَرَوْا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعد الله الأجسام بعد الموت وهو تأويل قتادة، وقال الربيع ابن أنس: كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر حتى إلى التراب، وقال مقاتل الْخَلْقَ في هذه الآية الليل والنهار، ثم أمر تعالى نبيه، ويحتمل أن يكون إبراهيم، ويحتمل أن يكون محمدا، إن كان في قصة إبراهيم اعتراض بين كلامين بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير في الأرض والنظر في كل قطر وفي كل أمة قديما وحديثا، فإن ذلك يوجد أن لا خالق إلا الله تعالى ولا يبتدىء بالخلق سواه، ثم ساق على جهة الخبر أن الله تعالى يعيد وينشىء نشأة القيام من القبور، وقرأت فرقة «النشأة» ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «النشاءة» على وزن الفعالة وهي قراءة الأعرج، وهذا كما تقول رأفة ورافة، وقرأ الباقون «النشأة» على وزن الفعلة، وقرأ الزهري «النشّة» بشين مشددة في جميع القرآن، والبعث من القبور يقوم دليل العقل على جوازه وأخبرت الشرائع وقوعه ووجوده. قوله عز وجل: ٢١انظر تفسير الآية:٢٣ ٢٢انظر تفسير الآية:٢٣ ٢٣يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) المعنى ييسر من يشاء لأعمال من حق عليه العذاب وييسر من يشاء لأعمال من سبقت له الرحمة فيتعلق الثواب والعقاب بالاكتساب المقترن بالاختراع الذي لله تعالى في أعمال العبد، ثم أخبر أن إليه المنقلب وأن البشر ليس بمعجز ولا مفلت فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، ويحتمل أن يريد ب السَّماءِ الهواء علوا أي ليس للإنسان حيلة صعد أو نزل حكى نحوه الزهراوي ويحتمل أن يريد السَّماءِ المعروفة أي لستم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا ولو كنتم فِي السَّماءِ، وقال ابن زيد معناه ولا من في السماء معجز إن عصى ونظروه على هذا بقول حسان بن ثابت: [الوافر] أمن يهجو رسول الله منا ... ويمدحه وينصره سواء والتأويل الأوسط أحسنها. ونحوه قول الأعشى: [الطويل] ولو كنت في جب ثمانين قامة ... ولقيت أسباب السماء بسلم ليعتورنك القول حتى تهزه ... وتعلم أني لست عنك بمحرم و «الولي» أخص من «النصير، وقرأ يحيى بن الحارث وابن القعقاع «ييسوا» من غير همز، قال قتادة ذم الله تعالى قوما هانوا عليه فقال أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي. قال القاضي أبو محمد: وما تقدم من قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ [العنكبوت: ١٩] إلى هذه الآية المستأنفة، يحتمل أن يكون خطابا لمحمد ويكون اعتراضا في قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم ومحاورة لقومه، وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه. قوله عز وجل: ٢٤انظر تفسير الآية:٢٥ ٢٥فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) قرأ الجمهور «جواب» بالنصب، وقرأ الحسن «جواب» بالرفع، وكذلك قرأ سالم الأفطس، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم لما بين إبراهيم الحجج وأوضح أمر الدين رجعوا معه إلى الغلبة والقهر والغشم وعدوا عن طريق الاحتجاج حين لم يكن لهم قبل به فتأمروا في قتله أو تحريقه بالنار، وأنفذوا أمر تحريقه حسبما قد اقتص في غير هذا الموضع، «وأنجاه الله» تعالى من نارهم بأن جعلها عليه بردا وسلاما، قال كعب الأحبار: ولم تحرق النار إلا الحبل الذي أو ثقوه به، وجعل ذلك آية وعبرة ودليلا على وحدانيته لمن شرح صدره ويسره للإيمان أي هذا الصنف ينتفع بالآية والكفار هي عليهم عمى وإن كانت في نفسها آية للكل، ثم ذكر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قررهم على أن اتخاذهم الأوثان والأنصاب إنما كان اتباعا من بعضهم لبعض وحفظا لموداتهم ومحباتهم الدنياوية، وأنهم يوم القيامة يجحد بعضهم بعضا ويتلاعنون لأن توادهم كان على غير تقوى، والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وقرأ عاصم في رواية الأعمش عن أبي بكر عنه «مودة» بالرفع «بينكم» بالنصب وهي قراءة الحسن وأبي حيوة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي في رواية المفضل «مودة» بترك التنوين والرفع «بينكم» بالخفض، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية أبي زيد «مودة بينكم» بالتنوين والنصب ونصب «بين» ، وقرأ حمزة «مودة» بالنصب وترك التنوين والإضافة إلى «بين» ، فأما قراءتا الرفع في «مودة» فوجههما أن يكون «ما» بمعنى الذي وفي قوله اتَّخَذْتُمْ ضمير عائد على الذي، وهذا الضمير هو مفعول أول ل اتَّخَذْتُمْ، وأَوْثاناً مفعول ثان، و «مودة» خبر «إن» في قراءة من نونها، وفي قراءة من لم ينونها ويجوز أن تكون «ما» كافة ولا يكون في قوله اتَّخَذْتُمْ ضمير ويكون قوله أَوْثاناً مفعولا لقوله اتَّخَذْتُمْ ثم يقتصر عليه، ويقدر الثاني آلهة أو نحوه، كما يقدر قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [الأعراف: ١٥٢] أي إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ [الأعراف: ١٥٢] ، ويكون قوله «مودة» خبر ابتداء تقديره هو مودة وفي هذه التأويلات مجاز واتساع في تسمية الأوثان «مودة» أو يكون ذلك على حذف مضاف، وأما من نصب مودة فعلى أن «ما» كافة وعلى خلو اتَّخَذْتُمْ من الضمير والاقتصار على المفعول الواحد كما تقدم ويكون نصب «المودة» على المفعول من أجله، ومن أضاف «المودة» إلى «البين» في القراءتين بالنصب والرفع تجوز في ذلك وأجرى الظرف مجرى الأسماء، ومن نصب «بينكم» في قراءتي الرفع والنصب في «مودة» فكذلك يحتمل أن ينتصب انتصاب الظروف ويكون معلقا ب «مودة» وكذلك فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف أيضا متعلق ب «مودة» وهو مصدر عمل في ظرفين من حيث افترقا بالمكان والزمان ولو كانا لواحد منهما لم يجز ذلك، تقول رأيت زيدا أمس في السوق ولا تقول رأيت زيدا أمس البارحة اللهم إلا أن يكون أحد الظرفين جزءا للآخر، رأيت زيدا أمس عشية، ويجوز أن ينتصب «بينكم» على أنه صفة ل «مودة» ، فهنا محذوف مقدر تقديره «مودة» ثابتة «بينكم» ، وفي الظرف ضمير عائد على «مودة» لما حذفت ثابتة استقر الضمير في الظرف نفسه، وقوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف في موضع الحال من الضمير الكائن في بَيْنِكُمْ بعد حذف ثابتة فهذه الحال متعلقة ب «مودة» وجاز تعلقها بها، وهي قد وصفت لأن معنى الفعل فيها، وإن وصفت فلا يمتنع أن يعمل معنى الفعل إلا في المفعول، فأما في الظرف والحال فيعمل، قال مكي: ويجوز أن يكون فِي الْحَياةِ صفة ثابتة ل «مودة» ويكون فيها مقدر مستقرة وفيها ضمير ثان عائد إلى «مودة» فالتقدير على هذا مودة ثابتة بينكم مستقرة في الحياة الدنيا. قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون قوله «مودة» في قراءة من نصب مفعولا ثانيا لقوله اتَّخَذْتُمْ ويكون في ذلك اتساع فتأمله، وفي مصحف أبي بن كعب «مودة بينهم» بالهاء وفي مصحف ابن مسعود «إنما مودّة بينكم» . قوله عز وجل: ٢٦انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٧انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٨فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) فَآمَنَ معناه فصدق وهو فعل يتعدى بالباء وباللام والقائل إِنِّي مُهاجِرٌ هو إبراهيم عليه السلام قاله قتادة والنخعي. وقالت فرقة: هو لوط عليه السلام، ومما صح من القصص أن إبراهيم ولوطا هاجرا من قريتهما كوثا وهي في سواد الكوفة من أرض بابل إلى بلاد الشام فلسطين وغيرها، وقال ابن جريج: إلى حران، ثم أمرا بعد إلى الشام وفي هذه الهجرة كانت سارة في صحبة إبراهيم واعتراهما أمر الملك، والمهاجر، النازع عن الأمر وهو في عرف الشريعة من ترك وطنه رغبة في رضى الله تعالى، وقد ذهب بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، وقوله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مع الهجرة إليه، صفتان بليغتان يقتضي استحقاق التوكل عليه، وفي قوله إِلى رَبِّي، حذف مضاف كأنه يقول إلى رضى ربي أو نحو هذا، وإِسْحاقَ بن إبراهيم هو الذي بشر به في شيخه، وبشر ب يَعْقُوبَ من ورائه فهو ولد إسحاق، وَالْكِتابَ اسم الجنس أي جعل الله تعالى في ذرية إبراهيم جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وعيسى عليه السلام من ذريته، وقوله أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، يريد في حياته وبحيث أدرك ذلك وسر به، والأجر الذي آتاه الله هو العافية من النار ومن الملك الجائر والعمل الصالح والثناء الحسن قاله مجاهد، وأن كل أمة تتولاه، قاله ابن جريج، والولد الذي قرت به العين بحسب طاعة الله، قاله الحسن ثم أخبر عنه أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضى الله وفازوا برحمته وكرامته العليا، وقوله تعالى وَلُوطاً نصب بفعل مضمر تقديره واذكر لوطا، والْفاحِشَةَ إتيان الرجال في الأدبار وهي معصية ابتدعها قوم لوط. قوله عز وجل: ٢٩انظر تفسير الآية:٣١ ٣٠انظر تفسير الآية:٣١ ٣١أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) تقدم القول في القرآن في أَإِنَّكُمْ، واختلف الناس في قطع السبيل المشار إليه هاهنا، فقالت فرقة: كان قطع الطريق بالسلب فاشيا فيهم، وقال ابن زيد: كانوا يقطعون الطرق على الناس لطلب الفاحشة فكانوا يخيفون، وقالت فرقة: بل أراد قطع سبيل النسل في ترك النساء وإتيان الرجال، وقالت فرقة: أراد أنهم لقبح الأحدوثة عنهم يقطعون سبل الناس عن قصدهم في التجارات وغيرها، و «النادي» المجلس الذي يجتمع فيه الناس وهو اسم جنس لأن الأندية في المدن كثيرة فكأنه قال وتأتون في اجتماعكم حيث اجتمعتم. واختلف الناس في الْمُنْكَرَ، فقالت فرقة كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هاني عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت حلقهم مهملة لا يربطهم دين ولا مروءة، وقال مجاهد ومنصور: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا، وقال القاسم بن محمد: منكرهم أنهم كانوا يتفاعلون في مجالسهم، ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس كانوا يتضارطون ويتصافعون في مجالسهم، وقال مجاهد أيضا: كان أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والحذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم وقد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالتناهي واجب، فلما وقفهم لوط على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج فقالوا ائْتِنا بالعذاب، أي أن ذلك لا يكون ولا تقدر عليه، وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على اعتقاد كذبه، وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا، ثم استنصر لوط عليه السلام ربه عليهم، فبعث ملائكة لعذابهم ورجمهم بالحاصب فجاؤوا إبراهيم أولا مبشرين بإسحاق ومبشرين بنصرة لوط على قومه، وكان لقاؤهم لإبراهيم على الصورة التي بينت في غير هذه الآية، فلفظة «البشرى» في هذه الآية تتضمن أمر إسحاق ونصرة لوط، ولما أخبره بإهلاك القرية على ظلمهم أشفق إبراهيم على لوط فعارضهم بأمره حسبما يأتي. قوله عز وجل: ٣٢انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٣انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٤انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٥قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) روي عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما علم من قبل الملائكة أن قرية لوط تعذب أشفق على المؤمنين فجادل الملائكة وقال لهم: أرأيتم إن كان فيهم مائة بيت من المؤمنين أتتركونهم، قالوا ليس فيهم ذلك، فجعل ينحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات، فقال له الملائكة ليس فيهم عشرة ولا خمسة ولا ثلاثة ولا اثنان، فحينئذ قال إبراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً فراجعوه حينئذ بأنا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي لا تخف أن يقع حيف على مؤمن، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «لننجّينّه» بفتح النون الوسطى وشد الجيم و «منجّوك» بفتح النون وشد الجيم. وقرأ حمزة والكسائي «لننجينه» بسكون النون وتخفيف الجيم، «ومنجوك» ، بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «لننجّينه» بالتشديد و «منجوك» بالتخفيف، وقرأت فرقة «لننجينه» بسكون النون الأخيرة من الكلمة وهذا إنما يجيء على أنه خفف النون المشددة وهو يريدها، وامرأة لوط هذه كانت كافرة تعين عليه وتنبه على أضيافه، و «الغابر» الباقي ومعناه مِنَ الْغابِرِينَ في العذاب، وقالت فرقة مِنَ الْغابِرِينَ أي ممن عمر وبقي من الناس وعسا في كفره، والضمير في بِهِمْ في الموضعين عائد على الأضياف الرسل، وذلك من تخوفه لقومه عليهم فلما أخبروه بما هم فيه فرج عنه، وقرأ عامة القراء «سيء» بكسر السين، وقرأ عيسى وطلحة بضمها، و «الرجز» ، العذاب، وقوله: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، أي عذابهم بسبب فسقهم، وكذلك كل أمة عذبها الله، فإنما عذبها على الفسوق والمعصية لكن بأن يقترن ذلك بالكفر الذي يوجب عذاب الآخرة، وقرأ أبو حيوة والأعمش «يفسقون» بكسر السين، وقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من خبرها وما بقي من أثرها، ف «من» لابتداء الغاية ويصح أن تكون للتبعيض على أن يريد ما ترك من بقايا بناء القرية ومنظرها، و «الآية» موضع العبرة وعلامة القدرة ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى، وقرأ جمهور القراء «منزلون» بتخفيف الزاي، وقرأ ابن عامر «منزّلون» بشد الزاي وهي قراءة الحسن وعاصم بخلاف عنهما، وقرأ الأعمش «إنا مرسلون» بدل مُنْزِلُونَ، وقرأ ابن محيصن «رجزا» بضم الراء. قوله عز وجل: ٣٦انظر تفسير الآية:٣٨ ٣٧انظر تفسير الآية:٣٨ ٣٨وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) نصب شُعَيْباً بفعل مضمر يحسن مع إلى تقديره بعثنا أو أرسلنا، فأمر شعيب بعبادة الله تعالى والإيمان بالبعث واليوم الآخر ومع الإيمان به يصح رجاؤه، وذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى وخافوا، وتَعْثَوْا، معناه تفسدون، يقال عثا يعثو وعث يعث وعاث يعيث وعثى يعثي إذا فسد، وأهل مَدْيَنَ قوم شعيب هذا على أنها اسم البلدة، وقيل مَدْيَنَ اسم القبيلة وأصحاب الأيكة وغيرهم، وقيل هم بعضهم ومنهم وذلك أن معصيتهم في أمر الموازين والمكاييل كانت واحدة. والرَّجْفَةُ ميد الأرض بهم وزلزلتها عليهم وتداعيها بهم وذلك نحو من الخسف، ومنه الإرجاف بالأخبار، و «الجثوم» في هذا الموضع تشبيه، أي كان همودهم على الأرض كالجثوم الذي هو للطائر والحيوان، ومنه قول لبيد: [الكامل] فغدوت في غلس الظلام وطيره ... غلب على خضل العضاة جثوم وقوله وَعاداً منصوب بفعل مضمر تقديره واذكر عادا، وقيل هو معطوف على الضمير في قوله فَأَخَذَتْهُمُ، وقال الكسائي هو معطوف على قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: ٣] ، وقرأ، «وثمودا» عاصم وأبو عمرو وابن وثاب، وقرأ «وثمود» بغير تنوين أبو جعفر وشيبة والحسن، وقرأ ابن وثاب «وعاد وثمود» بالخفض والتنوين، ثم دل عز وجل على ما يعطي العبرة في بقايا مَساكِنِهِمْ ورسوم منازلهم ودثور آثارهم، وقرأ الأعمش «تبين لكم مساكنهم» دون «من» ، وقوله تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ عطف جملة من الكلام على جملة، والسَّبِيلِ، هي طريق الإيمان بالله ورسله، ومنهج النجاة من النار، وقوله، مُسْتَبْصِرِينَ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه لهم بصيرة في كفرهم وإعجاب به وإصرار عليه فذمهم بذلك، وقيل لهم بصيرة في أن الرسالة والآيات حق لكنهم كانوا مع ذلك يكفرون عنادا ويردهم الضلال إلى مجاهله ومتالفه، فيجري هذا مجرى قوله تعالى في غيرهم وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] ، وتزيين الشيطان هو بالوسواس ومناجاة ضمائر الناس، وتزيين الله تعالى الشيء هو بالاختراع وخلق محبته والتلبس به في نفس العبد. قوله عز وجل: ٣٩انظر تفسير الآية:٤٠ ٤٠وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) نصب قارُونَ إما بفعل مضمر تقديره اذكر وإما بالعطف على ما تقدم، وقارُونَ من بني إسرائيل وهو الذي تقدمت قصته في الكنوز وفي البغي على موسى بن عمران عليه السلام، وَفِرْعَوْنَ مشهور، وهامانَ وزيره، وهو من القبط، و «البينات» المعجزات والآيات الواضحة، وسابِقِينَ، معناه مفلتبن من أخذنا وعقابنا، وقيل معناه سابِقِينَ أولياءنا، وقيل معناه ما كانُوا سابِقِينَ الأمم إلى الكفر، أي قد كانت تلك عادة أمم مع رسل، والذين أرسل عليهم الحاصب قال ابن عباس: هم قوم لوط. قال الفقيه الإمام القاضي: ويشبه أن يدخل قوم عاد في «الحاصب» لأن تلك الريح لا بد أنها كانت تحصبهم بأمور مؤذية، و «الحاصب» هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء، ومنه قول الأخطل: [الكامل] ترمي العضاة بحاصب من ثلجها ... حتى يبيت على العضاة جفالا ومنه قول الفرزدق: [البسيط] مستقبلين شمال الشام تضربهم ... بحاصب كنديف القطن منثور والذين أخذتهم الصَّيْحَةُ قوم ثمود، قاله ابن عباس وقال قتادة: هم قوم شعيب، و «الخسف» كان بقارون، قاله ابن عباس. قال الفقيه الإمام القاضي: ويشبه أن يكون أصحاب الرجفة في هذا النوع من العذاب، والغرق كان في قوم نوح، وبه فسر ابن عباس وفي فرعون وحزبه، وبه فسر قتادة، وظلمهم أنفسهم كان بالكفر ووضع العبادة في غير موضعها وقدم المفعول على يَظْلِمُونَ للاهتمام وهذا نحو إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] وغيره، وحكى الطبري عن قتادة أن رجفة قوم شعيب كان صيحة أرجفتهم على هذا مع ثمود. قوله عز وجل: ٤١انظر تفسير الآية:٤٣ ٤٢انظر تفسير الآية:٤٣ ٤٣مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) شبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك ب الْعَنْكَبُوتِ التي تبني وتجتهد وأمرها كلها ضعيف متى مسته أدنى هابة أذهبته فكذلك أمر أولئك وسعيهم مضمحل لا قوة له ولا معتمد، ومن حديث ذكره النقاش «العنكبوت شيطان مسخه الله تعالى فاقتلوه» ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر» ، وقوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، أي يَعْلَمُونَ أن هذا مثلهم وأن حالهم ونسبتهم من الحق هذه الحال، وقوله إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ. قرأ أبو عمرو وسلام «يعلم ما» بالإدغام، وقرأ عامة القراء بالفك، وقرأ الجمهور «تدعون» بالتاء من فوق، وقرأ أبو عمرو وعاصم بخلاف «يدعون» بالياء من تحت على الغيبة، فأما موضع ما من الإعراب فقيل معناه أن الله يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء أن حالهم هذه وأنهم لا قدرة لهم، وقيل قوله إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إخبار تام، وقوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ متصل به، واعترض بين الكلامين ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وذلك على هذا النحو من النظر يحتمل معنيين أحدهما أن تكون ما نافية أي لستم تدعون شيئا له بال ولا قدر ولا خلاق فيصلح أن يسمى شيئا وفي هذا تعليق يَعْلَمُ وفيه نظر، الثاني أن تكون ما استفهاما كأنه قرر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ما هو إذ لم يكن الله تعالى أي ليس لهم على هذا التقرير جواب مقنع البتة، ف مِنْ على القول الأول والثالث للتبعيض المجرد، وعلى القول الوسط هي زائدة في الجحد ومعناها التأكيد، وقال أبو علي ما استفهام نصب ب يَدْعُونَ ولا يجوز نصبها ب يَعْلَمُ، والتقدير أن الله يعلم أوثانا تدعون من دونه أو غيره لا يخفى ذلك عليه، وقوله وَتِلْكَ الْأَمْثالُ إشارة إلى هذا المثل ونحوه، ونَضْرِبُها مأخوذ من الضرب أي النوع كما تقول هذان من ضرب واحد وهذا ضريب هذا أي قرينه وشبهه، فكأن ضرب المثل هو أن يجعل للأمر الممثل ضريب، وباقي الآية بين. وقرأت فرقة «يدعون» بالياء من تحت، وقرأت فرقة «تدعون» بالتاء على المخاطبة، وقال جابر: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله إِلَّا الْعالِمُونَ: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته» . قوله عز وجل: ٤٤انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٥خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) نبه في ذكر خلق السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على أمر يوقع الذهن على صغر قدر الأوثان وكل معبود من دون الله، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي بالواجب النير لا للعبث واللعب، بل ليدل على سلطانه ويثبت شرائعه ويضع الدلالات لأهلها ويعم بالمنافع إلى غير ذلك مما لا يحصى عدا، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه، وإقامة الصلاة أي إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكما منه إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى صاحبها وممتثلها عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ. قال الفقيه الإمام القاضي: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعالى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأعماله وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله، فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم في ذلك فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك الدنيا فكيف مع ملك الملوك. قال الفقيه الإمام القاضي: فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا» . وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح السند، سمعت أبي رضي الله عنه يقوله فإذا قررناه ونظرنا معناه فغير جائز أن نقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله تعالى بل تتركه في حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر تبعده، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان بسبيله، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله تعالى، وقيل لابن مسعود إن فلانا كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها، وقرأ الربيع بن أنس «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر» ، وقال ابن عمر الصَّلاةَ هاهنا القرآن، وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي: إن الصلاة تنهى ما دمت فيها. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذه عجمة وأنى هذا مما روى أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئا من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «إن صلاته ستنهاه» ، فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم» ؟ وقوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة: معناه، وَلَذِكْرُ اللَّهِ إياكم أَكْبَرُ من ذكركم إياه، وقيل معناه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، قال ابن زيد وقتادة معناه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ من كل شيء، وقيل لسلمان أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. ومنه حديث الموطأ عن أبي الدرداء «ألا أخبركم بخير أعمالكم؟» الحديث، وقيل معناه وَلَذِكْرُ اللَّهِ كبير كأنه يحض عليه في هذين التأويلين الأخيرين. قال الفقيه الإمام القاضي: وعندي أن المعنى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر. فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر مراقب، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى كما في الحديث «ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه» ، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى العبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال الله عز وجل فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: ١٥٢] ، وباقي الآية ضرب من التوعد والحث على المراقبة. قوله عز وجل: ٤٦وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) قرأ الجمهور «إلا» على الاستثناء، وقرأ ابن عباس «ألا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام، واختلف المفسرون في المراد بهذه الآية، فقال ابن زيد: معناها «لا تجادلوا» من آمن بمحمد من أَهْلَ الْكِتابِ فكأنه قال أَهْلَ الْكِتابِ المؤمنين إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك، وقوله تعالى على هذا التأويل إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يريد به من بقي على كفره منهم، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم، والآية على هذا محكمة غير منسوخة، وقال مجاهد: المراد ب أَهْلَ الْكِتابِ اليهود والنصارى الباقون على دينهم أمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من الدعاء إلى الله تعالى والتنبيه على آياته، وأن يزال معهم عن طريق الإغلاظ والمخاشنة، وقوله على هذا التأويل إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق يراد بهم من لم يؤد جزية الحرب، ومن قال وصرح بأن لله ولدا أو له شريك أو يده مغلولة، فالآية على هذا منسوخة في مهادنة من لم يحارب، قال قتادة هي منسوخة بقول الله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: ٢٩] . قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يتوجه في معنى الآية إنما يتضح مع معرفة الحال في وقت نزول الآية، وذلك أن السورة مكية من بعد الآيات العشر الأول، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك، وكانت اليهود بمكة وفيما جاورها فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين وتكذيب، فأمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم بالمحاجة إلا بالحسنى دعاء إلى الله تعالى وملاينة، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين إما بفعل، وإما بقول، وإما بإذاية محمد صلى الله عليه وسلم، وإما بإعلان كفر فاحش كقول بعضهم عزير ابن الله ونحو هذا، فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام مقارضتها بالتغيير عليها والخروج معها عن التي هي أحسن، ثم نسخ هذا بعد بآية القتال والجزية وهذا قول قتادة وقوله تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا الآية، قال أبو هريرة كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل» . قوله عز وجل: ٤٧انظر تفسير الآية:٤٩ ٤٨انظر تفسير الآية:٤٩ ٤٩وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) تقدم في الآية التي قبل هذه ما يتضمن نزول شرع وكتاب من عند الله على أنبياء قبل محمد عليه السلام فحسن لذلك عطف كَذلِكَ أَنْزَلْنا على ما في المضمر، أي وكما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا إليك، والْكِتابِ القرآن، وقوله فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد التوراة والإنجيل، أي فالذين كانوا في عصر نزول الكتاب وأوتوه حينئذ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي كانوا مصدقين بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، فالضمير في بِهِ عائد على القرآن، ثم أخبر عن معاصري محمد صلى الله عليه وسلم أن منهم أيضا مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ولم يكونوا آمنوا بعد، ففي هذا إخبار بغيب بينه الوجود بعد ذلك، ثم أنحى على الجاحدين من أمة قد آمن سلفها في القديم وبعضها في الحديث، وحصل الجاحدون في أخس رتبة من الضلال، ويشبه أن يراد أيضا في هذا الإنحاء كفار قريش مع كفار بني إسرائيل، ثم بين تعالى الحجة على «المبطلين» المرتابين ما وضح أن مما يقوي نزول هذا القرآن من عند الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمن للغيوب وغير ذلك وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتابا ولا يخط حرفا ولا سبيل له إلى العلم، فإنه لو كان ممن يقرأ لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده، وقال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا لا يخط ولا يقرأ كتابا فنزلت هذه الآية، وذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وأسند أيضا حديثا إلى أبي كبشة السلولي مضمنه أنه عليه السلام قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه، وقوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ إضراب عن مقدر من الكلام يقتضيه ما تقدم كأنه قال: ليس الأمر كما حسبوا بَلْ هُوَ وهذا الضمير يحتمل أن يعود على القرآن، ويؤيده أن في قراءة ابن مسعود «بل هي آيات» ، ويحتمل أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده أن قتادة قرأ «بل هو آية بينة» على الإفراد، وقال: المراد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يعود على أمر محمد صلى الله عليه وسلم في أنه لم يتل ولا خط، وبكل احتمال قالت فرقة، وكون هذا كله آياتٌ أي علامات فِي صُدُورِ العلماء من المؤمنين بمحمد، يراد به مع النظر والاعتبار. والظَّالِمُونَ والْمُبْطِلُونَ، قيل يعم لفظهما كل مكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن عظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم، قاله مجاهد، وقال قتادة: الْمُبْطِلُونَ اليهود. قوله عز وجل: ٥٠انظر تفسير الآية:٥٢ ٥١انظر تفسير الآية:٥٢ ٥٢وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) الضمير في قالُوا لقريش ولبعض اليهود، لأنهم كانوا يعلمون قريشا مثل هذه الحجة يقولون: لم لا يأتيكم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وعلي بن نضر عن أبي عمرو «آية من ربه» ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم «آيات من ربه» ، فأمر الله تعالى نبيه أن يعلم أن هذا الأمر بيد الله عز وجل ولا يستنزله الاقتراح ولا التمني وأنه بعث نذيرا ولم يؤمر بغير ذلك، وفي مصحف أبي بن كعب «قالوا لو ما يأتينا بآيات من ربه قل إنما الآيات» ، ثم احتج عليهم في طلبهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ومعجز للجن والإنس فقال: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ، ثم قرر ما فيه من «الرحمة والذكرى» للمؤمنين، فقوله أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ، جواب لمن قال لَوْلا أُنْزِلَ، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المؤمنين كتبوا عن اليهود بطائق أخبروهم بشيء من التوراة فكتبوه، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «كفى بها ضلالة قوم أن رغبوا عما آتاهم به نبيهم إلى ما أتى به غيره» ، ونزلت الآية بسببه. قال الفقيه الإمام القاضي: والتأويل الأول أجرى مع نسق الآيات، ثم أمر تعالى نبيه بالإسناد إلى أمر الله تعالى وأن يجعله حسبه شَهِيداً وحاكما بينه وبينهم بعلمه وتحصيله جميع أمورهم، وقوله بِالْباطِلِ، يريد بالأصنام والأوثان وما يتبع أمرها من المعتقدات، والباطل، هو أن يفعل فعل يراد به أمر ما، وذلك الأمر لا يكون عن ذلك الفعل، والأصنام أريد بأمرها الأكمل والأنجح في زعم عبادها وليس الأكمل والأنجح إلا رفضها فهي إذا باطل، وباقي الآية بين. قوله عز وجل: ٥٣انظر تفسير الآية:٥٥ ٥٤انظر تفسير الآية:٥٥ ٥٥وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) قوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ يراد به كفار قريش في قولهم ائتنا بما تعدنا، وغير ذلك من استدعائهم على جهة التعجيز والتكذيب عذاب الله الذي يتوعدهم محمد صلى الله عليه وسلم به، ثم أخبر تعالى أنه يأتيهم بَغْتَةً أي فجأة وهذا هو عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر في السنين السبع. ثم ذكر تعالى أن تأخره إنما هو حسب الأجل المقدور السابق، وقال المفسرون عن الضحاك: أن «الأجل المسمى» في هذه الآية الآجال.. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف يرده النظر، والآجال لا محالة أَجَلٌ مُسَمًّى ولكن ليس هذا موضعها، ثم توعدهم تبارك وتعالى بعد عذاب الآخرة في قوله يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ، كرر فعلهم وقبحه، وأخبر أن وراءهم إحاطة جهنم بهم وقال عكرمة فيما حكى الطبري إن جَهَنَّمَ هاهنا أراد بها البحر. قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف، وقوله تعالى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ ظرف يعمل فيه قوله «محيطة» ، ويَغْشاهُمُ معناه يغطيهم من كل جهة من جهاتهم، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ويقول» أي ويقول الله، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ونقول» بالنون، فإما أن تكون نون العظمة أو نون جماعة الملائكة، وقرأ ابن مسعود «ويقال» بياء وألف وهي قراءة ابن أبي عبلة، وقوله تعالى: ذُوقُوا توبيخ، وتشبيه مس العذاب بالذوق، ومنه قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] ، ومنه قول أبي سفيان: ذق عقق ونحو هذا كثير، وقوله تعالى: ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بما في أعمالكم من اكتسابكم. قوله عز وجل: ٥٦انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٧انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٨انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٩يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، فأخبرهم تعالى بسعة أرضه وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب، بل الصواب أن تلتمس عبادة الله في أرضه، وقال ابن جبير وعطاء ومجاهد: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق، وقاله مالك، وقال مطرف بن الشخير قوله إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ عدة بسعة الرزق في جميع الأرض، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «يا عبادي» بفتح الياء، وقرأ ابن عامر وحده «إن أرضي» بفتح الياء أيضا، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكونها، وكذلك قرأ نافع وعاصم «أرضي» ساكنة، وقوله تعالى: فَإِيَّايَ منصوب بفعل مقدر يدل عليه الظاهر تقديره فَإِيَّايَ اعبدوا فَاعْبُدُونِ على الاهتمام أيضا في التقديم، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا، فحقر الله تعالى شأن الدنيا، أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا، فالبدار إلى طاعة الله عز وجل والهجرة إليه أولى ما يمتثل، وقرأ الجمهور «ترجعون» بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم بالياء من تحت وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو، وقرأ أبو حيوة «كل نفس ذائقة» بالتنوين «الموت» بالنصب، ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه، وقرأ جمهور القراء «لنبوئنهم» من المباءة أي لننزلنهم ولنمكننهم ليدوموا فيها، وغُرَفاً مفعول ثان لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين، وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» من أثوى يثوي وهو معدى ثوى بمعنى أقام وهي قراءة على بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن وثاب وطلحة، وقرأها بعضهم «لنثوّينهم» بفتح الثاء وتشديد الواو معدى بالتضعيف لا بالهمزة، فقوله غُرَفاً نصب بإسقاط حرف الجر التقدير في غرف، وقرأ يعقوب «لنبوينهم» بالياء من تحت، وروي عن ابن عامر «غرفا» بضم الغين والراء، ثم وصفهم تعالى بالصبر والتوكل وهاتان جماع الخير كله أي الصبر على الطاعات وعن الشهوات. قوله عز وجل: ٦٠انظر تفسير الآية:٦٣ ٦١انظر تفسير الآية:٦٣ ٦٢انظر تفسير الآية:٦٣ ٦٣وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) كَأَيِّنْ بمعنى كم، وهذه الآية أيضا تحريض على الهجرة لأن بعض المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة وقالوا غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروي في رزقها، المعنى فهو يرزقكم أنتم، ففضلوا طاعته على كل شيء، وقوله تعالى: لا تَحْمِلُ يجوز أن يريد من الحمل أي لا تستقل ولا تنظر في ادخار، وقاله ابن مجلز ومجاهد وعلي بن الأقمر. قال الفقيه الإمام القاضي: والادخار ليس من خلق الموقنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة بضعف اليقين» ، ويجوز أن يريد من الحمالة أي لا تتكفل لنفسها ولا تروي فيه، ثم خاطبه تعالى بأمر الكفار وإقامة الحجة عليهم بأنهم إن سئلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى، ويُؤْفَكُونَ معناه يصرفون، ونبه تعالى على خلق السماوات وخلق الأرض وتسخير الكواكب وذكر عظمها فاقتضى ذلك ما دونه، ثم نبه على «بسط الرزق» وقدره لقوم، وإنزال المطر من السماء، وهذه عبر كفيلة لمن تأمل بالنجاة والمعتقد الأقوم، ثم أمر تعالى نبيه بحمده على جهة التوبيخ لعقولهم وحكم عليهم بأن أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ولا يتسدد منهم نظر. قوله عز وجل: ٦٤انظر تفسير الآية:٦٧ ٦٥انظر تفسير الآية:٦٧ ٦٦انظر تفسير الآية:٦٧ ٦٧وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وصف الله تعالى الدُّنْيا في هذه الآية بأنها لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي ما كان منها لغير وجه الله تعالى، فأما ما كان لله فهو من الآخرة، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قوام العيش والقوة على الطاعات فإنما هو لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وتأمل ذلك في المطاعم والملابس والأقوال والمكتسبات وغير ذلك، وانظر أن حالة الغني والفقير في الأمور الضرورية واحدة كالتنفس في الهواء وسد الجوع وستر العورة وتوقي الحر والبرد وهذه عظم أمر العيش، والْحَيَوانُ والْحَياةُ بمعنى واحد، وهو عند الخليل وسيبويه مصدر كالهيمان ونحوه، والمعنى لا موت فيها قاله مجاهد وهو حسن، ويقال أصله حييان فبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلين، ثم وقفهم تعالى على حالهم في البحر عند الخوف العظيم، فإن كل بشر ينسى كل صنم وغيره ويتمسك بالدعاء والرغبة إلى الله تعالى، وقوله إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي يرجعون إلى ذكر أصنامهم، وتعظيمها، وقوله لِيَكْفُرُوا نصب بلام كي، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «وليتمتعوا» بكسر اللام، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «وليتمتعوا» بسكون اللام على صيغة الأمر التي هي للوعيد والتهديد، والواو على هذا عاطفة جملة كلام، لا عاطفة فعل على فعل وفي مصحف أبي بن كعب «فتمتعوا فسوف تعلمون» ، وفي قراءة ابن مسعود «لسوف تعلمون» باللام، ثم عدد تعالى على كفار قريش نعمته عليهم في الحرم في أنه جعله لهم آمنا لا خوف فيه من أحوال العرب وغارتهم وسوء أفعالهم من القتل وأخذ الأموال ونحوه، وذلك هو «التخطف» الذي كان الناس بسبيله، ثم قررهم على جهة التوبيخ على إيمانهم بالباطل وكفرهم بالله وبنعمته، وقرأ جمهور القراء «يؤمنون» بالياء من تحت وكذلك «يكفرون» ، وقرأهما بالتاء من فوق الحسن وأبو عبد الرحمن. قوله عز وجل: ٦٨انظر تفسير الآية:٦٩ ٦٩وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩) قررهم عز وجل على حال من افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بآياته، وهذه كانت حالهم وأعلمهم أنه لا أحد أَظْلَمُ منهم، وهذا في ضمنه وعيد شديد، ثم بين الوعيد أيضا بالتقرير على أمر جهنم، و «المثوى» موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآيات في غاية الاقتضاب والإيجاز وجمع المعاني، ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه، وقرر ذلك بذكر الكفرة والظلمة ليبين تباين الحالتين، وقوله فِينا، معناه في مرضاتنا وبغية ثوابنا. قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال. قال الفقيه الإمام القاضي: فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العباد، وقال عياش وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعلمون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم» ، ونزع بعض العلماء بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: ٢٨٢] ، وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل وهو الجهاد الأكبر، قاله الحسن وغيره وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ، وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله يقول وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وقال الضحاك: معنى الآية وَالَّذِينَ جاهَدُوا في الهجرة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الثبوت على الإيمان، و «السبل» هاهنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة والعقائد النيرة، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النية في الأعمال وحب التزيد والتفهيم، وهذا هو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم يقتدح من علم متقدم وهي حال من رضي الله عنه، وباقي الآية وعد، و «مع» تحتمل أن تكون هنا اسما ولذلك دخلت عليها لام التأكيد، ويحتمل أن تكون حرفا ودخلت اللام لما فيها من معنى الاستقرار كما دخلت في «إن زيدا لفي الدار» . كمل تفسير سورة العنكبوت والحمد لله رب العالمين |
﴿ ٠ ﴾