٥

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)

الألف واللام في الْحَمْدُ لاستغراق الجنس على أتم عموم، لأن الْحَمْدُ بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى والشكر مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله، وفاطِرِ معناه خالق لكن يزيد في المعنى الانفراد بالابتداء لخلقها، ومنه قول الأعرابي المتخاصم في البئر عند ابن عباس: أنا فطرتها، أراد بدأت حفرها. قال ابن عباس ما كنت أفهم معنى فاطِرِ حتى سمعت قول الأعرابي، وقرأ الجمهور «الحمد لله فطر» ، وقرأ جمهور الناس «جاعل» بالخفض، وقرأت فرقة «جاعل» بالرفع على قطع الصفة، وقرأ خليد بن نشيط «جعل» على صيغة الماضي «الملائكة» نصبا، فأما على هذه القراءة الأخيرة فنصب قوله رُسُلًا على المفعول الثاني، وأما على القراءتين المتقدمتين فقيل أراد ب «جاعل» الاستقبال لأن القضاء في الأزل وحذف التنوين تخفيفا وعمل عمل المستقبل في رُسُلًا، وقالت فرقة جاعِلِ بمعنى المضي ورُسُلًا نصب بإضمار فعل، ورُسُلًا معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره، فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل رسل، والملائكة المتعاقبون رسل، والمسددون لحكام العدل رسل وغير ذلك، وقرأ الحسن «رسلا» بسكون السين، وأُولِي جمع واحده ذو، تقول ذو نهية والقوم أولو نهي، وروي عن الحسن أنه قال في تفسير قول مريم إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [مريم: ١٨] قال علمت مريم أن التقي ذو نهية، وقوله مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل للعدل والصفة، وفائدة العدل الدلالة على التكرار لأن مَثْنى بمنزلة قولك اثنين اثنين، وقال قتادة: إن أنواع الملائكة هي هكذا منها ما له جناحان، ومنها ما له ثلاثة، ومنها ما له أربعة، ويشذ منها ما له أكثر من ذلك، وروي أن لجبريل ستمائة جناح منها اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب، وقالت فرقة المعنى أن في كل جانب من الملك جناحين، ولبعضهم ثلاثة في كل جانب، ولبعضهم أربعة، وإلا فلو كانت ثلاثة لكل واحد لما اعتدلت في معتاد ما رأيناه نحن من الأجنحة، وقيل بل هي ثلاثة لكل واحد كالحوت والله أعلم بذلك، وقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عند الخبر بالملائكة أولي الأجنحة، أي ليس هذا يبدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء، وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا المزيد هو حسن الصوت قال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا، وقيل الزيادة الخط الحسن، وقال النبي عليه السلام: «الخط الحسن يزيد الحق وضوحا» ، وقال قتادة الزيادة ملاحة العينين.

قال القاضي أبو محمد: وقيل غير هذا وهذه الإشارة إنما ذكرها من ذكرها على جهة المثال لا أن المقصود هي فقط، وإنما مثل بأشياء هي زيادات خارجة عن الغالب الموجود كثيرا وباقي الآية بين، وقوله ما يَفْتَحِ اللَّهُ ما شرط، ويَفْتَحِ جزم بالشرط، وقوله مِنْ رَحْمَةٍ عام في كل خير يعطيه الله تعالى للعباد جماعتهم وأفذاذهم، وقوله مِنْ بَعْدِهِ فيه حذف مضاف أي من بعد إمساكه، ومن هذه الآية سمت الصوفية ما تعطاه من الأموال والمطاعم وغير ذلك الفتوحات، ومنها كان أبو هريرة يقول مطرنا بنوء الفتح، وقرأ الآية، وقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لقريش وهو متجه لكل كافر، ولا سيما لعباد غير الله، وذكرهم تعالى بنعمة الله عليهم في خلقهم وإيجادهم، ثم استفهمهم على جهة التقرير والتوقيف بقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي فليس إله إلا الخالق لا ما تعبدون أنتم من الأصنام، وقرأ حمزة والكسائي «غير» بالخفض نعتا على اللفظ وخبر الابتداء يَرْزُقُكُمْ وهي قراءة أبي جعفر وشقيق وابن وثاب، وقرأ الباقون غير نافع بالرفع، وهي قراءة شيبة بن نصاح وعيسى والحسن بن أبي الحسن، وذلك يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها النعت على الموضع والخبر مضمر تقديره في الوجود أو في العالم وأن يكون «غير» خبر الابتداء الذي هو في المجرور والرفع على الاستثناء، كأنه قال هل خالق إلا الله، فجرت «غير» مجرى الفاعل بعد إِلَّا، وقوله مِنَ السَّماءِ يريد بالمطر ومن الْأَرْضِ يريد بالنبات، وقوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ معناه فلأي وجه تصرفون عن الحق، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما سلف من حال الرسل مع الأمم، والْأُمُورُ تعم جميع الموجودات المخلوقات إلى الله مصير جميع ذلك على اختلاف أحوالها، وفي هذا وعيد للكفار ووعد للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم وعظ عز وجل جميع العالم وحذرهم غرور الدنيا بنعيمها وزخرفها الشاغلة عن المعاد الذي له يقول الإنسان: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر: ٢٤] ولا ينفعه ليت يومئذ، وحذر غرور الشيطان، وقوله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ عبارة عن جميع خبره عز وجل في خير وتنعم أو عذاب أو عقاب، وقرأ جمهور الناس «الغرور» بفتح الغين وهو الشيطان قاله ابن عباس، وقرأ سماك العبدي وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين وذلك يحتمل أن يكون جمع غار كجالس وجلوس، ويحتمل أن يكون جمع غر وهو مصدر غره يغره غرا، ويحتمل أن يكون مصدرا وإن كان شاذا في الأفعال المتعدية أن يجيء مصدرها على فعول لكنه قد جاء لزمه لزوما ونهكه المرض نهوكا فهذا مثله وكذلك هو مصدر في قوله فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الأعراف: ٢٢] .

قوله عز وجل:

﴿ ٥