بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة الدّخان هذه السورة مكية لا أحفظ خلافا في شيء منها. قوله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ١ انظر تفسير الآية:١٠ ٢ انظر تفسير الآية:١٠ ٣ انظر تفسير الآية:١٠ ٤ انظر تفسير الآية:١٠ ٥ انظر تفسير الآية:١٠ ٦ انظر تفسير الآية:١٠ ٧ انظر تفسير الآية:١٠ ٨ انظر تفسير الآية:١٠ ٩ انظر تفسير الآية:١٠ ١٠ حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) تقدم القول في: حم. وقوله: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قسم أقسم الله تعالى به. و: الْمُبِينِ يحتمل أن يكون من الفعل المتعدي، أي يبين الهدى والشرع ونحوه، ويحتمل أن يكون من غير المتعدي، أي هو مبين في نفسه. وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يحتمل أن يقع القسم عليه، ويحتمل أن يكون: إِنَّا أَنْزَلْناهُ من وصف الكتاب فلا يحسن وقوع القسم عليه، وهذا اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ويحسن القسم به، ويكون الذي وقع القسم عليه: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. واختلف الناس في تعيين الليلة المباركة، فقال قتادة والحسن: هي ليلة القدر، وقالوا: إن كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان: التوراة في أوله، والإنجيل في وسطه، والزبور في نحو ذلك ونزل القرآن في آخره في ليلة القدر، ومعنى هذا النزول: أن ابتداء النزول كان في ليلة القدر، وهذا قول الجمهور. وقالت فرقة: بل أنزله الله جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور، ومن هنالك كان جبريل يتلقاه. وقال عكرمة وغيره: الليلة المباركة هي النصف من شعبان. وقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا معناه: يفصل من غيره ويتخلص، وروي عن عكرمة في تفسير هذه الآية أن الله تعالى يفصل للملائكة في ليلة النصف من شعبان، وقال الحسن وعمير مولى غفرة ومجاهد وقتادة: في ليلة القدر كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل. قال هلال بن يساف كان يقال: انتظروا القضاء في شهر رمضان. وروي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الرجل يتزوج ويعرس وقد خرج اسمه في الموتى، لأن الآجال تقطع في شعبان» . وقرأ الحسن والأعرج والأعمش: «يفرق» بفتح الياء وضم الراء. و: حَكِيمٍ بمعنى محكم. وقوله: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على المصدر. وقوله: مِنْ عِنْدِنا صفة لقوله: أَمْراً. وقوله: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يحتمل أن يريد الرسل والأنبياء، ويحتمل أن يريد الرحمة التي ذكر بعد، وعلى التأويل الأول نصب قوله: رَحْمَةً على المصدر، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال. وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ تقرير وتثبيت، أي إن كنت موقنا بهذا يكون يقينك، كما تقول لإنسان تقيم نفسه: العلم غرضك إن كنت رجلا. وقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي مالككم ومالك آبائكم الأولين. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ربّ السماوات» بالرفع على القطع والاستئناف، وهي قراءة الأعرج وابن أبي إسحاق وأبي جعفر وشيبة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالكسر على البدل مِنْ رَبِّكَ المتقدم، وهي قراءة ابن محيصن والأعمش. وأما قوله تعالى: «ربّكم وربّ» فالجمهور على رفع الباء. وقرأ الحسن بالكسر، رواها أبو موسى عن الكسائي. وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إضراب قبله نفي مقدر، كأنه يقول: ليس هؤلاء ممن يؤمن ولا ممن يتبع وصاة، بل هم في شك يلعبون في أقوالهم وأعمالهم. واختلف الناس في الدخان الذي أمر الله تعالى بارتقابه، فقالت فرقة منها علي بن أبي طالب وزيد بن علي وابن عمر وابن عباس والحسن بن أبي الحسن وأبو سعيد الخدري: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين حتى تكون كأنها مصلية حنيذة. وقالت فرقة منها عبد الله بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي: هو الدخان الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجدب والجوع دخانا بينه وبين السماء، وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل. وقال ابن مسعود: خمس قد مضين، الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم وذكر الطبري حديثا عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول آيات الساعة الدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن» ، وضعف الطبري سند هذا الحديث، واختار قول ابن مسعود رضي الله عنه في الدخان قال: ويحتمل إن صح حديث حذيفة أن يكون قد مر دخان ويأتي دخان. قوله عز وجل: ١١ انظر تفسير الآية:١٨ ١٢ انظر تفسير الآية:١٨ ١٣ انظر تفسير الآية:١٨ ١٤ انظر تفسير الآية:١٨ ١٥ انظر تفسير الآية:١٨ ١٦ انظر تفسير الآية:١٨ ١٧ انظر تفسير الآية:١٨ ١٨ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) يَغْشَى معناه: يغطي. وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى، كأنه يعجب منه على نحو من قوله تعالى لما وصف قصة الذبح: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: ١٠٦] ، ويحتمل أن يكون هذا عَذابٌ أَلِيمٌ من قول الناس، كأن تقدير الكلام: يقولون هذا عذاب أليم، ويؤيد هذا التأويل سياقه حكاية عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، وعلم الله تعالى أن قولهم في حال الشدة إِنَّا مُؤْمِنُونَ إنما هو عن غير حقيقة منهم، فدل على ذلك بقوله: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى، أي من أين لهم أن يتذكروا وهم قد تركوا الذكرى وراء ظهورهم بأن جاءهم رسول مبين، وهو محمد عليه السلام فكفروا به. وتَوَلَّوْا عَنْهُ أي أعرضوا، وقالوا إنه يعلم هذا الكلام الذي يتلو وأنه مَجْنُونٌ، وإخباره تعالى بأنه يكشف عنهم الْعَذابِ قَلِيلًا إخبار عن إقامة الحجة عليهم ومبالغة في الإملاء لهم، ثم أخبرهم بأنهم عائدون إلى الكفر. وقال قتادة: هو توعد بمعاد الآخرة، ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم بسبب هذا كله في يوم البطشة، وقدم اليوم وذكره على الذي عمل فيه تهمما به وتخويفا منه، والعامل فيه مُنْتَقِمُونَ، وقد ضعف البصريون هذا من حيث هو خبر إن، وأبعدوا أن يعمل خبرها فيما قبلها، وقالوا العامل فعل مضمر يدل عليه مُنْتَقِمُونَ. واختلف الناس في يوم الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، فقال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة: هو يوم القيامة وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس أيضا وأبي بن كعب ومجاهد: هو يوم بدر. وقرأ جمهور الناس: «نبطش» بفتح النون وكسر الطاء. وقرأ الحسن بن أبي الحسن: بضم الطاء. وقرأ الحسن أيضا وأبو رجاء وطلحة بن مصرف: بضم النون وكسر الطاء، ومعناها: نسلط عليهم من يبطش بهم، ثم ذكر تعالى قوم فرعون على جهة المثال لقريش. و: فَتَنَّا معناه: امتحنا واختبرنا. والرسول الكريم: قال قتادة: هو موسى عليه السلام، ومعنى الآية يعطي ذلك بلا خلاف وهنا متروك يدل عليه الظاهر، تقديره قال لهم: أَدُّوا هذا، مأخوذ من الأداء، كأنه يقول: أن ادفعوا إلي وأعطوني ومكنوني. واختلف المتأولون في الشيء المؤدى في هذه الآية ما هو؟ فقال مجاهد وابن زيد وقتادة: طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل وإياهم أراد بقوله: عِبادَ اللَّهِ وقال ابن عباس المعنى: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق، فقوله: عِبادَ اللَّهِ منادى مضاف، والمؤدى هي الطاعة والإيمان والأعمال. قال القاضي أبو محمد: والظاهر من شرع موسى عليه السلام أنه بعث إلى دعاء فرعون إلى الإيمان، وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى أن يؤمن، ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، وفي إرسالهم هو قوله: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي بني إسرائيل، ويقوي ذلك قوله بعد: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: ٢١] ، وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل فقط، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبادِي فيظهر أنه إياهم أراد موسى بقوله: عِبادَ اللَّهِ وقوله: رَسُولٌ أَمِينٌ معناه على وحي الله تعالى أؤديه إلى عباده. قوله عز وجل: ١٩ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٠ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢١ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٢ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٣ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٤ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٥ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٦ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٧ انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٨ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) المعنى كانت رسالته وقوله: أَنْ أَدُّوا [الدخان: ١٨] وَأَنْ لا تَعْلُوا وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله. وقرأ الجمهور: «إني آتيكم» بكسر الألف على الإخبار المؤكد، والسلطان: الحجة، فكأنه قال: لا تكفروا، فإن الدليل المؤدي إلى الإيمان بيّن. وقرأت فرقة: «أني آتيكم» بفتح الألف. و «أن» في موضع نصب بمعنى: لا تكفروا من أجل أني آتيكم بسلطان مبين، فكأن مقصد هذا الكلام التوبيخ، كما تقول لإنسان: لا تغضب، لأن الحق قيل لك. وقوله: وَإِنِّي عُذْتُ الآية، كلام قاله موسى عليه السلام لخوف لحقه من فرعون وملئه و: عُذْتُ معناه: استجرت وتحرمت. وأدغم الدال في التاء الأعرج وأبو عمرو. واختلف الناس في قوله: أَنْ تَرْجُمُونِ فقال قتادة وغيره: أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل. وقال ابن عباس وأبو صالح: أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه، والأول أظهر، لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر، بل قيل فيه عليه السلام وله. وقوله: تُؤْمِنُوا لِي بمعنى: تؤمنوا بي. والمعنى: تصدقوا. وقوله: فَاعْتَزِلُونِ مشاركة صريحة. قال قتادة: أراد خلّوا سبيلي. وقوله: فَدَعا رَبَّهُ قبله محذوف من الكلام، تقديره: فما كفوا عنه، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته فَدَعا رَبَّهُ. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى «إن هؤلاء» بكسر الألف من «إن» على معنى «قال إن» ، وقرأ جمهور الناس والحسن أيضا: «أن هؤلاء» بفتح الألف، والقراءتان حسنتان. وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم، وهنا أيضا محذوف من الكلام تقديره: فقال الله له: فَأَسْرِ بِعِبادِي وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله إلى موسى بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء وغيرها. وقرأ جمهور الناس: «فاسر» موصولة الألف. وقرأ: «فأسر» بقطع الألف: الحسن وعيسى، ورويت عن أبي عمرو. وأعلمه تعالى بأنهم مُتَّبَعُونَ، أي يتبعهم فرعون وجنوده. واختلف المفسرون في قوله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة: هو كلام متصل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ إذا انفرق لك رَهْواً. وقال قتادة وغيره: خوطب به بعد ما اجتاز البحر وخشي أن يدخل فرعون وقومه وراءه، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل، فهم موسى أن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله، فقيل له عند ذلك: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً. واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو، فقال مجاهد وعكرمة معناه: يبسا من قوله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طه: ٧٧] . وقال الضحاك بن مزاحم معناه: دمثا لينا. وقال عكرمة أيضا: جردا. وقال ابن زيد: سهلا. وقال ابن عباس معناه: ساكنا، أي كما جزته، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة، فإن العيش الواهي هو الذي هو في خفض ودعة وسكون، حكاه المبرد وغيره. والرهو في اللغة هو هذا المعنى، ومنه قول عمرو بن شييم القطامي: يمشون رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل فإنما معناه: يمشون اتئادا وسكونا وتماهلا. ومنه قول الآخر: وأمة خرجت رهوا إلى عيد أي خرجوا في سكون وتماهل، فقيل لموسى عليه السلام: اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق ليقضي الله أمرا كان مفعولا. والرهو: من أسماء الكركي الطائر، ولا مدخل له في تفسير هذه الآية، ويشبه عندي أن سمي رهوا لسكونه، وأنه أبدا على تماهل. وقوله: كَمْ تَرَكُوا الآية، قبله محذوف تقديره: فغرقوا وقطع الله دابرهم، ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة الغبيطة في الدنيا، و: كَمْ خبر للتكثير. والجنات والعيون: روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان. وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت كما يعتري في كثير من بقاع الأرض. وقرأ قتادة ومحمد بن السميفع اليماني ونافع في رواية خارجة عنه: «ومقام» بضم الميم، أي موضع إقامة. وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن إلا في مريم خَيْرٌ مَقاماً [مريم: ٧٣] فكأن المعنى: كَمْ تَرَكُوا من موضع حسن كريم في قدره ونفعه. وقرأ جمهور الناس ونافع: «ومقام» بفتح الميم، أي موضع قيام، فعلى هذه القراءة قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: أراد المنابر. وعلى ضم الميم في: «مقام» قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها، والقول بالمنابر بهي جدا. والنعمة بفتح النون: غضارة العيش ولذاذة الحياة، والنعمة بكسر النون أعم من هذا، لأن النعمة بالفتح هي من جملة النعم بالكسر، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعما، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. وقرأ أبو رجاء: «ونعمة» بالنصب. وقرأ جمهور الناس: «فاكهين» بمعنى: ناعمين. والفاكه: الطيب النفس: أو يكون بمعنى أصحاب فاكهة كلابن وتامر. وقرأ أبو رجاء والحسن بخلاف عنه، وابن القعقاع: «فكهين» ، ومعناه قريب من الأول، لأن الفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ، فكأنه هنا يقول: كانوا في هذه النعمة مستخفين بشكرها والمعرفة بقدرها. وقوله: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها معناه الأمر كذلك، وسماها وراثة من حيث كانت أشياء أناس وصلت إلى قوم آخرين من بعد موت الأولين، وهذه حقيقة الميراث في اللغة وربطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث، والآخرون من ملك مصر بعد القبط. وقال قتادة: القوم الآخرون، هم بنو إسرائيل، وهذا ضعيف، لأنه لم يرو أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط، إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشام، وقد ذكر الثعلبي عن الحسن أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون. قوله عز وجل: ٢٩ انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٠ انظر تفسير الآية:٣٦ ٣١ انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٢ انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٣ انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٤ انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٥ انظر تفسير الآية:٣٦ ٣٦ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) نفت هذه الآية أن تكون السماء والأرض بكت على قوم فرعون، فاقتضى أن للسماء والأرض بكاء. واختلف المتأولون في معنى ذلك فقال علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد وابن جبير: إن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحا، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله، قالوا فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله، فهذا معنى الآية. وقال السدي وعطاء: بكاء السماء: حمرة أطرافها. وقالوا إن السماء احمرت يوم قتل الحسين بن علي، وكان ذلك بكاء عليه، وهذا هو معنى الآية. قال القاضي أبو محمد: والمعنى الجيد في الآية أنها استعارة باهية فصيحة تتضمن تحقير أمرهم، وأنهم لم يتغير عن هلاكهم شيء، وهذا نحو قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ [إبراهيم: ٤٦] على قراءة من قرأ «لتزول» بكسر اللام ونصب الفعل وجعل إِنْ [إبراهيم: ٤٦] نافية، ومثل هذا المعنى قول النبي عليه السلام: «لا ينتطح فيها عنزان» فإنه يتضمن التحقير، لكن هذه الألفاظ هي بحسب ما قيلت فيه، وهو قتل المرأة الكافرة التي كانت تؤذي النبي عليه السلام. وعظم قصة فرعون وقومه يجيء بحسبها جمال الوصف وبهاء العبارة في قوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ومن نحو هذا أن يعكس قول جرير: [الكامل] لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع فيقال في تحقير: مات فلان فما خشعت الجبال، ونحو هذا، وفي الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما مات مؤمن في غربة غاب عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ، ثم قرأ هذه الآية، وقال: «إنهما لا يبكيان على كافر» . ومن التفخيم ببكاء المخلوقات العظام قول يزيد بن مفرغ [مجزوء الكامل] : الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه وقول الفرزدق: فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا و: مُنْظَرِينَ معناه: مؤخرين وممهلين. ثم ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل في إنجائهم من فرعون وقومه، والْعَذابِ الْمُهِينِ هو ذبح الأبناء والتسخير في المهن كالبنيان والحفر وغيره. وفي قراءة ابن مسعود: «من عذاب المهين» ، بسقوط التعريف بالألف واللام من العذاب. وقوله: مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من قوله: مِنَ الْعَذابِ. و: «من» بكسر الميم هي قراءة الجمهور. وروى قتادة أن ابن عباس كان يقرأها «من» بفتح الميم «فرعون» برفع النون. وقوله: عَلى عِلْمٍ أي على شيء سبق عندنا فيهم وثبت في علمنا أنه سينفذ. وقوله: عَلَى الْعالَمِينَ يريد على جميع الناس، هذا على التأويل المتقدم في العلم. والمعنى: لقد اخترناها لهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم وخصصناهم بذلك دون العالم، ويحتمل قوله: عَلى عِلْمٍ أن يكون معناه: على علم وفضائل فيهم، والمعنى: اخترناهم للنبوءات والرسالات، فيكون قوله: عَلَى الْعالَمِينَ في هذا التأويل، معناه: على عالم زمانهم، وذلك بدليل فضل أمة محمد لهم وعليهم، وأن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس. وقوله تعالى: وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ لفظ جامع لمعجزات موسى وللعبر التي ظهرت في قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك، ولما أنعم به على بني إسرائيل من تظليل الغمام والمن والسلوى وغير ذلك، فإن لفظ الْآياتِ يعم جميع هذا. والبلاء في هذا الموضع: الامتحان والاختبار، وهذا كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: ٣٥] و: مُبِينٌ بمعنى بين. ثم ذكر تعالى قريشا وحكى عنهم على جهة الإنكار لقولهم حين أنكروا فيه ما هو جائز في العقل فقال: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا، وما نحن بمبعوثين من القبور، يقال أنشر الله الميت فنشر هو، وقول قريش: فَأْتُوا مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه من حيث كان النبي عليه السلام مسندا في أقواله وأفعاله إلى الله تعالى وبواسطة ملك خاطبوه كما تخاطب الجماعة، وهم يريدونه وربه وملائكته. واستدعاء الكفار في هذه الآية أن يحيي لهم بعض آبائهم وسموا قصيا لكي يسألوهم عما رأوا في آخرتهم، ولم يستقص في هذه الآية الرد عليهم لبيانه، ولأنه مبثوث في غير ما آية من كتاب الله، فإن الله تعالى قد جزم البعث من القبور في أجل مسمى لا يتعداه أحد، وقد بينت الأمثلة من الأرض الميتة وحال النبات أمر البعث من القبور. قوله عز وجل: ٣٧ انظر تفسير الآية:٤٤ ٣٨ انظر تفسير الآية:٤٤ ٣٩ انظر تفسير الآية:٤٤ ٤٠ انظر تفسير الآية:٤٤ ٤١ انظر تفسير الآية:٤٤ ٤٢ انظر تفسير الآية:٤٤ ٤٣ انظر تفسير الآية:٤٤ ٤٤ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) قوله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ الآية تقرير فيه وعيد، و: تُبَّعٍ ملك حميري، وكان يقال لكل ملك منهم: (تبع) ، إلا أن المشار إليه في هذه الآية رجل صالح من التبابعة. قال كعب الأحبار: ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، ونهى العلماء عن سبه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد: أن تبعا هذا أسلم وآمن بالله، وروي أن ذلك كان على يد أهل كتاب كانوا بحضرته. وقال ابن عباس: كان (تبع) نبيا. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أدري أكان (تبع) نبيا أم غير نبي؟. وقال ابن جبير: هو الذي كسا الكعبة، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة، والله أعلم. وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ يريد بالكفر. وقرأت فرقة: «أنهم» بفتح الألف. وقرأ الجمهور بكسرها. وقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ الآية، إخبار فيه تنبيه وتحذير. وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ يريد بالواجب المقتضي للخيرات وفيض الهبات. و: يَوْمَ الْفَصْلِ هو يوم القيامة، وهذا هو الإخبار بالبعث، وهو أمر جوزه العقل وأثبته الشرع بهذه الآية وغيرها. والمولى في هذه الآية: يعم جميع الموالي من القرابات وموالي العتق وموالي الصداقة. وقوله: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إن كان الضمير يراد به العالم، فيصح أن يكون من قوله: إِلَّا مَنْ في موضع نصب على الاستثناء المتصل، وإن كان الضمير يراد به الكفار فالاستثناء منقطع، ويصح أن يكون في موضع رفع علة الابتداء والخبر تقديره: فإنه يغني بعضهم عن بعض في الشفاعة ونحوها، أو يكون تقديره: فإن الله ينصره. وقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ روي عن ابن زيد الْأَثِيمِ المشار إليه: أبو جهل، ثم هي بالمعنى تتناول كل أثيم، وهو كل فاجر يكتسب الإثم، وروي عن ابن زيد أن أبا الدرداء أقرأ أعرابيا فكان يقول: «طعام اليتيم» ، فرد عليه أبو الدرداء مرارا فلم يلقن، فقال له: قل «طعام الفاجر» ، فقرئت كذلك، وإنما هي على التفسير. و: شَجَرَةَ الزَّقُّومِ هي الشجرة الملعونة في القرآن، وهي تنبت في أصل الجحيم، وهي التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وروي أن أبا جهل لما نزلت هذه الآية فيه، وأشار الناس بها إليه، جمع عجوة بزبد ودعا إليها ناسا وقال لهم: «تزقموا، فإن الزقوم هو عجوة يثرب بالزبد، وهو طعامي الذي حدّث به محمد» ، وإنما قصد بذلك ضربا من المغالطة والتلبيس على الجهلة. قوله عز وجل: ٤٥ انظر تفسير الآية:٥٩ ٤٦ انظر تفسير الآية:٥٩ ٤٧ انظر تفسير الآية:٥٩ ٤٨ انظر تفسير الآية:٥٩ ٤٩ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٠ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥١ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٢ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٣ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٤ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٥ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٦ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٧ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٨ انظر تفسير الآية:٥٩ ٥٩ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما: «المهل» : دردي الزيت وعكره. وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «المهل» ما ذاب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص ونحوه. قال الحسن: كان ابن مسعود على بيت المال لعمر بالكوفة، فأذاب يوما فضة مكسرة، فلما انماعت، قال: يدخل من بالباب، فدخلوا، فقال لهم: هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمهل. والمعنى أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق والإفساد. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «تغلي» بالتاء على معنى: تغلي الشجرة، وهي قراءة عمرو بن ميمون وأبي رزين والحسن والأعرج وابن محيصن وطلحة. وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص: «يغلي» على معنى: يغلي الطعام، وهي قراءة مجاهد وقتادة والحسن بخلاف عنه. و: الْحَمِيمِ: الماء الساخن الذي يتطاير من غليانه. وقوله تعالى: خُذُوهُ الآية، معناه: يقال يومئذ للملائكة عن هذا الأثيم خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ. والعتل: السّوق بعنف وإهانة ودفع قوي متصل، كما يساق أبدا مرتكب الجرائم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: بضم التاء، والباقون بكسرها، وقد روي الضم عن أبي عمرو، وكذلك روي الوجهان عن الحسن وقتادة والأعرج. والسواء: الوسط، وقيل المعظم وذلك متلازم في العظم أبدا من مثل هذا إنما هو في الوسط، وفي الآية ما يقتضي أن الكافر يصب على رأسه من حميم جهنم، وهو ما يغلى فيها من ذوب، وهذا كما في قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: ١٩] وإلى هذا نظر بعض ولاة المدينة فإنه كان يصب الخمر على رأس الذي شربها أو توجد عنده عقوبة له وأدبا، ذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة. وقوله تعالى: ذُقْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ مخاطبة على معنى هذا التقريع، ويروى عن قتادة أن أبا جهل لما نزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: ٤٣- ٤٤] قال أيتهددني محمد وأنا ما بين جبليها أعزمني وأكرم، فنزلت هذه الآيات، وفي آخرها: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي على قولك، وهذا كما قال جرير: ألم يكن في وسوم قد وسمت بها ... من خان موعظة يا زهرة اليمن يقولها للشاعر الذي سمى نفسه به، وذلك في قوله: أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأعز وأني زهرة اليمن فجاء بيت جرير على هذا الهزء. وقرأ الجمهور: «إنك» بكسر الهمزة. وقرأ الكسائي وحده: «أنك» بفتح الألف، والمعنى واحد في المقصد وإن اختلف المأخذ إليه، وبالفتح قرأها على المنبر الحسين بن علي بن أبي طالب أسنده إليه الكسائي وأتبعه فيها. وقوله تعالى: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ عبارة عن قول يقال للكفرة عند عذابهم، أي هذه الآخرة وجهنم التي كنتم تشكون فيها. ثم ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة الكافر ليبين الفرق. وقرأ نافع وابن عامر: «في مقام» بضم الميم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وقتادة وعبد الله بن عمر بن الخطاب والحسن والأعرج. وقرأ الباقون: «في مقام» بفتحها، وهي قراءة أبي رجاء وعيسى ويحيى والأعمش. و: أَمِينٍ يؤمن فيه الغير، فكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون فيه. وكسر عاصم العين من «عيون» . قال أبو حاتم: وذلك مردود عند العلماء، ومثله شيوخ وبيوت، بكسر الشين والباء. والسندس: رقيق الحرير. والإستبرق: خشينه. وقرأ ابن محيصن: «وإستبرق» بالوصل وفتح القاف. وقوله: مُتَقابِلِينَ وصف لمجالس أهل الجنة، لأن بعضهم لا يستدبر بعضا في المجالس، وقوله: كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ تقديره: والأمر كذلك. وقرأ الجمهور: «عين» وهو جمع عيناء. وقرأ ابن مسعود: «عيس» ، وهو جمع عيساء، وهي أيضا البيضاء، وكذلك هي من النوق. وقرأ عكرمة: «بحور عين» على ترك التنوين في «حور» وأضافها إلى «عين» . قال أبو الفتح: الإضافة هنا تفيد ما تفيد الصفة، وروى أبو قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إخراج القمامة من المسجد من مهور الحور العين. وقوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ معناه: يدعون الخدمة والمتصرفين. وقوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قدر قوم إِلَّا بسوى، وضعف ذلك الطبري، وقدرها ببعد، وليس تضعيفه بصحيح، بل يصح المعنى بسوى ويتسق، وأما معنى الآية: فبين أنه نفى عنهم ذوق الموت، وأنه لا ينالهم من غير ذلك ما تقدم في الدنيا، والضمير في قوله: يَسَّرْناهُ عائد على القرآن. وقوله: بِلِسانِكَ معناه بلغة العرب ولم يرد الجارحة. وقوله: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ معناه: فَارْتَقِبْ نصرنا لك، إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ فيما يظنون الدوائر عليك، وفي هذه الآية وعد له، ووعيد لهم، وفيها متاركة، وهذا وما جرى منسوخ بآية السيف. |
﴿ ٠ ﴾