بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة قوهي مكية بإجماع من المتأولين، روى أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سورة «ق» هون الله عليه الموت وسكراته» . قوله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ١انظر تفسير الآية:٨ ٢انظر تفسير الآية:٨ ٣انظر تفسير الآية:٨ ٤انظر تفسير الآية:٨ ٥انظر تفسير الآية:٨ ٦انظر تفسير الآية:٨ ٧انظر تفسير الآية:٨ ٨ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) قال ابن عباس: ق اسم من أسماء القرآن. وقال أيضا اسم من أسماء الله تعالى. وقال قتادة والشعبي: هو اسم السورة، وقال يزيد وعكرمة ومجاهد والضحاك: هم اسم الجبل المحيط بالدنيا، وهو فيما يزعمون من زمردة خضراء، منها خضرة السماء وخضرة البحر. والْمَجِيدِ الكريم في أوصافه الذي جمع كل معلوة. و: ق على هذه الأقوال: مقسم به وب الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وجواب القسم منتظر. واختلف الناس فيه، فقال ابن كيسان جوابه: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق: ١٨] ، وقيل الجواب: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: ٣٧] وقال الزهراوي عن سعيد الأخفش الجواب: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وضعفه النحاس، وقال الكوفيون من النحاة الجواب: بَلْ عَجِبُوا، والمعنى: لقد عجبوا. قال منذر بن سعيد: إن جواب القسم في قوله: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩] ، وفي هذه الأقوال تكلف وتحكم على اللسان. وقال الزجاج والمبرد والأخفش: الجواب مقدر تقديره: ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لتبعثن، وهذا قول حسن وأحسن منه: أن يكون الجواب الذي يقع عنه الإضراب ب بَلْ، كأنه قال. ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ما ردوا أمرك بحجة، أو ما كذبوك ببرهان، ونحو هذا مما لا بد لك من تقديره بعد الذي قدر الزجاج، لأنك إذا قلت الجواب: لتبعثن فلا بد بعد ذلك أن يقدر خبر عنه يقع الإضراب، وهذا الذي جعلناه جوابا وجاء المقدر أخصر. وقال جماعة من المفسرين في قوله: ق إنه حرف دال على الكلمة، على نحو قول الشاعر [الوليد بن المغيرة] : [الرجز] قلت لها قفي فقالت قاف واختلفوا بعد، فقال القرطبي: هو دال على أسماء الله تعالى هي: قادر، وقاهر، وقريب، وقاض، وقابض، وقيل المعنى: قضي الأمر من رسالتك ونحوه، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، فجواب القسم في الكلام الذي يدل عليه قاف. وقال قوم المعنى: قف عند أمرنا. وقيل المعنى: قهر هؤلاء الكفرة، وهذا أيضا وقع عليه القسم ويحتمل أن يكون المعنى: قيامهم من القبور حق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، فيكون أول السورة من المعنى الذي اطرد بعد، وعلى هذه الأقوال فثم كلام مضمر عنه وقع الإضراب، كأنه قال: ما كذبوك ببرهان، ونحو هذا مما يليق مظهرا. وقرأ جمهور من القراء ق بسكون الفاء. قال أبو حاتم: ولا يجوز غيرها إلا جواز سوء. قال القاضي أبو محمد: وهذه القراءة تحسن مع أن يكون ق حرفا دالا على كلمة. وقرأ الثقفي وعيسى: قاف بفتح الفاء، وهذه تحسن مع القول بأنها اسم للقرآن أو لله تعالى، وكذلك قرأ الحسن وابن أبي إسحاق بكسر الفاء، وهي التي في رتبة التي قبلها في أن الحركة للالتقاء وفي أنها اسم للقرآن. والْمَجِيدِ الكريم الأوصاف الكثير الخير. واختلف الناس في الضمير في: عَجِبُوا لمن هو فقال جمهور المتأولين: هو لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن كل مفطور عجب من بعثة بشر رسول الله، لكن المؤمنون نظروا واهتدوا، والكافرون بقوا في عمايتهم وصموا وحاجوا بذلك العجب، ولذلك قال تعالى: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. وقال آخرون بل الضمير في عَجِبُوا للكافرين، وكرر الكلام تأكيدا ومبالغة. والإشارة بهذا يحتمل أن تكون إلى نفس مجيء البشر. ويحتمل أن تكون إلى القول الذي يتضمنه الإنذار، وهو الخبر بالبعث، ويؤيد هذا القول ما يأتي بعد. وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر «إذا» على الخبر دون استفهام، والعامل رَجْعٌ بَعِيدٌ، قال ابن جني ويحتمل أن يكون المعنى «أإذا متنا بعد رجعنا» ، فيدل: ذلك رَجْعٌ بَعِيدٌ على هذا الفعل الذي هو بعد ويحل محل الجواب لقولهم: «إذا» . والرجع: مصدر رجعته. وقوله بَعِيدٌ في الأوهام والفكر كونه فأخبر الله تعالى ردا على قولهم بأنه يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقى منه، وإن ذلك في الكتاب، وكذلك يعود في الحشر معلوما ذلك كله. و «الحفيظ» : الجامع الذي لم يفته شيء. وقال الرماني: حَفِيظٌ متبع أن يذهب ببلى ودروس، وروي في الخبر الثابت: أن الأرض تأكل ابن آدم إلا عجب الذنب، وهو عظم كالخردلة، فمنه يركب ابن آدم، وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة، وهذا هو «الحق» . وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعثرة المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه، وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله ولو كانت غيرها فكيف كانت تشهد الأيدي والأرجل على الكفرة إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود. وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور، المعنى: ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم. وقال السدي معنى قوله: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما يحصل في بطنها من موتاهم، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد. وقال ابن عباس أيضا في ما حكى الثعلبي، معناه: قد علمنا ما تنقص أرض الإيمان من الكفرة الذين يدخلون في الإيمان، وهذا قول أجنبي من المعنى الذي قبل وبعد، وقيل قوله: بَلْ كَذَّبُوا مضمر، عنه وقع الإضراب تقديره: ما أجادوا النظر أو نحو هذا، والذي يقع عنه الإضراب ب بَلْ، الأغلب فيه أنه منفي تقضي بَلْ بفساده، وقد يكون أمرا موجبا تقضي بَلْ بترك القول فيه لا بفساده، وقرأ الجمهور: «لمّا» بفتح اللام وشد الميم. وقرأ الجحدري: «لما» بكسر اللام وتخفيف الميم، قال أبو الفتح: هي كقولهم: أعطيته لما سأل، وكما في التاريخ: لخمس خلون، ونحو هذا، ومنه قوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها [الأعراف: ١٨٧] ومنه قول الشاعر: [الوافر] إذا هبت لقاربها الرياح و: «المريج» : معناه: المختلط، قاله ابن زيد، أي بعضهم يقول ساحر، وبعضهم كاهن، وبعضهم شاعر إلى غير ذلك من تخليطهم، وكذلك عادت فكرة كل واحد منهم مختلطة في نفسها، قال ابن عباس: المريج: المنكر. وقال مجاهد: الملتبس، والمريج المضطرب أيضا، وهو قريب من الأول، ومنه الحديث: مرجت عهود الناس ومنه مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان: ٥٣، الرحمن: ١٩] وقال الشاعر [أبو دؤاد] : مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد ثم دل تعالى على العبرة بقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ الآية، وَزَيَّنَّاها معناه: بالنجوم. و «الفروج» الفطور والشقوق خلالها وأثناءها، قاله مجاهد وغيره، وحكى النقاش أن هذه الآية تعطي أن السماء مستديرة، وليس الأمر كما حكي، إذا تدبر اللفظ وما يقتضي. و «الرواسي» : الجبال. و «الزوج» : النوع. و «البهيج» قال ابن عباس وقتادة وابن زيد هو: الحسن المنظر، وقوله عز وجل: تَبْصِرَةً وَذِكْرى منصوب على المصدر بفعل مضمر. و: «المنيب» الراجع إلى الحق عن فكرة ونظر. قال قتادة: هو المقبل بقلبه إلى الله وخص هذه الصنيفة بالذكر تشريفا من حيث هي المنتفعة بالتبصرة والذكرى، وإلا فهذه المخلوقات هي تبصرة وذكرى لكل بشر. وقال بعض النحويين: تَبْصِرَةً وَذِكْرى مفعولان من أجله، وهذا يحتمل والأول أرجح. قوله عز وجل: ٩انظر تفسير الآية:١٥ ١٠انظر تفسير الآية:١٥ ١١انظر تفسير الآية:١٥ ١٢انظر تفسير الآية:١٥ ١٣انظر تفسير الآية:١٥ ١٤انظر تفسير الآية:١٥ ١٥وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) قوله تعالى: ماءً مُبارَكاً قيل يعني جميع المطر، كله يتصف بالبركة وإن ضر بعضه أحيانا، فقيه مع ذلك الضر الخاص البركة العامة. وقال أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء المطر فسالت الميازيب قال: «لا محل عليكم العام» وقال بعض المفسرين: ماءً مُبارَكاً يريد به ماء مخصوصا خالصا للبركة ينزله الله كل سنة، وليس كل المطر يتصف بذلك. وَحَبَّ الْحَصِيدِ الحنطة. و: باسِقاتٍ معناه: طويلات ذاهبات في السماء، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة: [مجزوء الكامل مرفّل] يا ابن الذين لمجدهم ... بسقت على قيس فزاره وروى قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: «باصقات» بالصاد، قال أبو الفتح الأصل: السين وإنما الصاد بدل منه، لاستعلاء القاف. و «الطلع» أول ظهور التمر في الكفرى وهو أبيض منضد كحب الرمان. فما دام ملتصقا بعضه ببعض فهو نَضِيدٌ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد. و: رِزْقاً نصب على المصدر والضمير في: بِهِ عائد على المطر. ووصف البلدة ب «ميت» على تقدير القطر والبلد. وقرأ الناس «ميتا» مخففا، وقرأ أبو جعفر وخالد «ميّتا» بالتثقيل. ثم بين تعالى موضع الشبه فقال: كَذلِكَ الْخُرُوجُ، هذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث. والْخُرُوجُ يريد به من القبور، وَأَصْحابُ الرَّسِّ قوم كان لهم بئر عظيمة وهي الرَّسِّ، وكل ما لم يطو من بئر أو معدن أو نحوه فهو رسّ. وأنشد أبو عبيدة للنابغة الجعدي: سبقت إلى قرطبا هل ... تنابلة يحفرون الرساسا وجاءهم نبي يسمى حنظلة بن صفوان فيما روي فجعلوه في الرَّسِّ وردموا عليه. فأهلكهم الله، وقال كعب الأحبار في كتاب الزهراوي: أَصْحابُ الرَّسِّ هم أصحاب الأخدود وهذا ضعيف. لأن أصحاب الأخدود لم يكذبوا نبيا، إنما هو ملك أحرق قوما. وقال الضحاك الرَّسِّ: بئر قتل فيها صاحب ياسين، قال منذر وروي عن ابن عباس أنهم قوم عاد. والْأَيْكَةِ: الشجر الملتف، وهم قوم شعيب، والألف واللام من الْأَيْكَةِ غير معرفة، لأن «أيكة» اسم علم كطلحة يقال أيكة وليكة، فهي كالألف واللام في الشمس والقمر وفي الصفات الغالبة وفي هذا نظر. وقرأ «الأيكة» بالهمز أبو جعفر ونافع وشيبة وطلحة. وَقَوْمُ تُبَّعٍ هم حمير وتُبَّعٍ- سم فيهم، يذهب تبع ويجيء تبع ككسرى في الفرس وقيصر في الروم، وكان أسعد أبو كرب أحد التبابعة رجلا صالحا صحب حبرين فتعلم منهما دين موسى عليه السلام ثم إن قومه أنكروا ذلك عليه فندبهم إلى محاجة الحبرين، فوقعت بينهم مجادلة، واتفقوا على أن يدخلوا جميعهم النار التي في القربان، فمن أكلته فهو المبطل، فدخلوها فاحترق قَوْمُ تُبَّعٍ، وخرج الحبران تعرق جباههما، فهلك القوم المخالفون وآمن سائر قَوْمُ تُبَّعٍ بدين الحبرين. وفي الحديث اختلاف كثير. أثبت أصح ذلك على ما في سير ابن هشام. وذكر الطبري عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلعنوا تبعا، فإنه كان قد أسلم» وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن تبعا كان نبيا. وقوله تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ قال سيبويه، التقدير: كلهم وحذف لدلالة كل عليه إيجازا. و «الوعيد» الذي حق: هو ما سبق به القضاء من تعذيب الكفرة وإهلاك الأمم المكذبة، ففي هذا تخويف من كذب محمدا صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: أَفَعَيِينا توقيف للكفار وتوبيخ وإقامة للحجة الواضحة عليهم، وذلك أن جوابهم على هذا التوقيف هو لم يقع عي، ثم هم مع ذلك في لبس من الإعادة. وهذا تناقض، ويقال عيى يعيى إذا عجز عن الأمر ويلح به، ويدغم هذا الفعل الماضي من هذا الفعل ولا يدغم المستقبل منه فيقال عي، ومنه قول الشاعر [عبيد بن الأبرص] : عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامه و «الخلق الأول» إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج المعلوم، وقال الحسن: «الخلق الأول» آدم عليه السلام، حكاه الرماني، واللبس: الشك والريب واختلاط النظر. والخلق الجديد: البعث في القبور. قوله عز وجل: ١٦انظر تفسير الآية:٢١ ١٧انظر تفسير الآية:٢١ ١٨انظر تفسير الآية:٢١ ١٩انظر تفسير الآية:٢١ ٢٠انظر تفسير الآية:٢١ ٢١وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث والجزاء. والخلق: إنشاء الشيء على ترتيب وتقدير حكمي. و: الْإِنْسانَ اسم الجنس. قال بعض المفسرين الْإِنْسانَ هنا آدم عليه السلام وتُوَسْوِسُ معناه: تتحدث في فكرتها، وسمي صوت الحلي وسواسا لخفائه، والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير، وقوله تعالى: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ عبارة عن قدرة الله على العبد، وكون العبد في قبضة القدرة، والعلم قد أحيط به، فالقرب هو بالقدرة والسلطان، إذ لا ينحجب عن علم الله باطن ولا ظاهر، وكل قريب من الأجرام فبينه وبين قلب الإنسان حجب. و: الْوَرِيدِ عرق كبير في العنق، يقال: إنهما وريدان عن يمين وشمال. قال الفراء: هو ما بين الحلقوم والعلباوين وقال الحسن: الْوَرِيدِ الوتين. قال الأثرم: هو نهر الجسد هو في القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ: الأكحل والنسا وفي الخنصر: إلا سليم، «والحبل» : اسم مشترك فخصصه بالإضافة إلى الْوَرِيدِ، وليس هذا بإضافة الشيء إلى نفسه بل هي كإضافة الجنس إلى نوعه كما تقول: لا يجوز حي الطير بلحمه. وأما قوله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ فقال المفسرون العامل في: إِذْ، أَقْرَبُ، ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلا مضمرا تقديره: اذكر إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ، ويحسن هذا المعنى، لأنه أخبر خبرا مجردا بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب بالقدرة والملك، فلما تم الإخبار، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتبين وروده عند السامع، فمنها إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ، ومنها مجيء سكرة الموت، ومنها النفخ في الصور ومنها مجيء كل نفس، والْمُتَلَقِّيانِ: الملكان الموكلان بكل إنسان: ملك اليمين الذي يكتب الحسنات، وملك الشمال الذي يكتب السيئات. قال الحسن: الحفظة: أربعة، اثنان بالنهار واثنان باليل. قال القاضي أبو محمد: ويؤيد ذلك الحديث، «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث بكامله. ويروى أن ملك اليمين أمير على ملك الشمال، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر تثبت لعله يتوب رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري. وقَعِيدٌ معناه: قاعد، وقال قوم هو بمنزلة أكيل، فهو بمعنى مقاعد وقال الكوفيون: أراد قعودا فجعل الواحد موضع الجنس، والأول أصوب لأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان، وقال مجاهد: قَعِيدٌ: رصد ومذهب سيبويه أن التقدير عن اليمين قعيد، فاكتفى بذكر الآخر عن ذكر الأول ومثله عنده قول الشاعر [كثير عزة] : [الطويل] وعزة ممطول معنّى غريمها ومثله قول الفرزدق: [الكامل] إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبي وكان وكنت غير غدور وهذه الأمثلة كثيرة، ومذهب المبرد: أن التقدير عن اليمين قَعِيدٌ وعن الشمال فأخر قَعِيدٌ عن مكانه ومذهب الفراء أن لفظ قَعِيدٌ يدل على الاثنين والجمع فلا يحتاج إلى تقدير غير الظاهر وقوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: يكتب الملكان الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات، والسيئات، ويمحو غير ذلك، وهذا هو ظاهر الآية، قال أبو الجوزاء ومجاهد: يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: المعنى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ خير أو شر، وأما ما خرج من هذا فإنه لا يكتب والأول أصوب، وروي أن رجلا قال لجمله: حل، فقال ملك اليمين لا أكتبها، وقال ملك الشمال لا أكتبها، فأوحى الله إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك ملك اليمين، وروي نحوه عن هشام الحمصي وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه ببعيره، فإن كان في طاعة فحل حسنة، وإن كان في معصية فهي سيئة والمتوسط بين هذين عسير الوجود ولا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه. وحكى الثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مقعد الملكين على الثنيتين، قلمهما اللسان، ومدادهما الريق» وقال الضحاك والحسن: مقعدهما تحت الشعر، وكان الحسن يحب أن ينظف غفقته لذلك قال الحسن: حتى إذا مات طويت صحيفته وقيل له يوم القيامة: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: ١٤] عدل والله عليه من جعله حسيب نفسه. والرقيب: المراقب. والعتيد: الحاضر وقوله: وَجاءَتْ عطف عندي على قوله: إِذْ يَتَلَقَّى فالتقدير: وإذ تجيء سكرة الموت، وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقا وتثبيتا للأمر، وهذا أحث على الاستعداد واستشعار القرب، وهذه طريقة العرب في ذلك، ويبين هذا في قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ فإنها ضرورة بمعنى الاستقبال. وقرأ أبو عمرو: وَجاءَتْ سَكْرَةُ بإدغام التاء في السين. وسَكْرَةُ الْمَوْتِ: ما يعتري الإنسان عند نزاعه والناس فيها مختلفة أحوالهم، لكن لكل واحد سكرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزاعه يقول: «إن للموت لسكرات» . وقوله: بِالْحَقِّ معناه: بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «وجاءت سكرة الحق بالموت» . وقرأها ابن جبير وطلحة، ويروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالها كذلك لابنته عائشة وذلك أنها قعدت عند رأسه وهو ينازع فقالت: [الطويل] لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ففتح أبو بكر رضي الله عنه عينه فقال: لا تقولي هكذا، وقولي: «وجاءت سكرة الحق بالموت» ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وقد روي هذا الحديث على مشهور القراءة وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ فقال أبو الفتح: إن شئت علقت الباء ب جاءَتْ، كما تقول: جئت بزيد، وإن شئت كانت بتقدير: ومعها الموت. واختلف المتأولون في معنى: «وجاءت سكرة الحق بالموت» فقال الطبري وحكاه الثعلبي: «الحق» الله تعالى، وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بعد وإن كان ذلك سائغا من حيث هي خلق له، ولكن فصاحة القرآن ورصفه لا يأتي فيه هذا. وقال بعض المتأولين المعنى: وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان ويحيد منه بأمله. ومعنى هذا الحيد: أنه يقول: أعيش كذا وكذا، فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمن، وأيضا فحذر الموت وتحرزاته ونحو هذا حيد كله. وقد تقدم القول في النفخ في الصور مرارا. و: يَوْمُ الْوَعِيدِ هو يوم القيامة وأضافه إلى الوعيد تخويفا. وقوله تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها وقرأ طلحة بن مصرف: «محّها» بالحاء المثقلة. والسائق: الحاث على السير. واختلف الناس في السائق والشهيد، فقال عثمان بن عفان ومجاهد وغيره: ملكان موكلان بكل إنسان أحدهما يسوقه والآخر من حفظته يشهد عليه. وقال أبو هريرة: السائق ملك، والشهيد: العمل وقال منذر بن سعيد: السائق: الملك والشهيد: النبي صلى الله عليه وسلم، قال وقيل: الشهيد: الكتاب الذي يلقاه منشورا. وقال بعض النظار: سائِقٌ، اسم جنس، وشَهِيدٌ كذلك، فالساقة للناس ملائكة يوكلون بذلك، والشهداء: الحفظة في الدنيا وكل ما يشهد. وقال ابن عباس والضحاك: السائق ملك، والشهيد: جوارح الإنسان، وهذا يبعد على ابن عباس، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي. وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ يعم الصالحين، فإنما معناه: وشهيد بخيره، وشره، ويقوى في: شَهِيدٌ اسم الجنس، فتشهد بالخير الملائكة والبقاع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» . وكذلك يشهد بالشر الملائكة والبقاع والجوارح. وقال أبو هريرة: السائق: ملك، والشهيد: العمل. وقال ابن مسلم: السائق: شيطان. حكاه عنه الثعلبي والقول في كتاب منذر بن سعيد وهو ضعيف. قوله عز وجل: ٢٢انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٣انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٤انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٥انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٦انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٧انظر تفسير الآية:٢٨ ٢٨لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) قرأ الجحدري: «لقد كنت» على مخاطبة النفس وكذلك كسر الكافات بعد. وقال صالح بن كيسان والضحاك وابن عباس معنى قوله: لَقَدْ كُنْتَ أي يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عن النظر فيها، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك أي بصيرتك وهذا كما تقول: فلان حديد الذهن والفؤاد ونحوه، وقال مجاهد: هو بصر العين إذا احتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة. وقال زيد بن أسلم قوله تعالى: ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: ١٩] وقوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ الآية، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، وهذا التأويل يضعف من وجوه، أحدها أن الغفلة إنما تنسب أبدا إلى مقصر، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده وثان: أن قوله: بعد هذا: وَقالَ قَرِينُهُ يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور، وهو الذي يقال له فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وإن جعلناه عائدا على ذي النفس في الآية المتقدمة جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن فتأمله. وثالث: أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط، وهو أحرى بالآية وأولى بالرصف، والوجه عندي ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر. و: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ، قال ابن عباس: هي الحياة بعد الموت، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» . وقوله تعالى: وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ، قال جماعة من المفسرين: قَرِينُهُ من زبانية جهنم، أي قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد، ففي هذا تحريض على الكافر واستعجال به. وقال قتادة وابن زيد: قَرِينُهُ الملك الموكل بسوقه، فكأنه قال: هذا الكافر الذي جعل إلى سوقه، فهو لدي حاضر. وقال الزهراوي وقيل: قَرِينُهُ شيطانه. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف. ولفظ القرين: اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبه من الزبانية قرين، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين وتحتمله هذه الآية، أي هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي، وهو موجب عذابه، ومماشي الإنسان في طريقه قرين، وقال الشاعر [عدي بن زيد العبادي] : [الطويل] عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي والقرين الذي في هذه الآية، غير القرين الذي في قوله: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ إذ المقارنة تكون على أنواع، وقال بعض العلماء: قَرِينُهُ في هذه الآية: عمله قلبا وجازحا، وقوله عز وجل: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ معناه: يقال أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ. واختلف الناس لم يقال ذلك؟ فقال جماعة من المفسرين: هو قول الملكين من ملائكة العذاب. وقال عبد الرحمن بن زيد في كتاب الزهراوي: هو قول للسائق والشهيد، وحكى الزهراوي أن المأمور بإلقاء الكافر في النار اثنان، وعلى هذين القولين لا نظر في قوله: أَلْقِيا. وقال مجاهد وجماعة من المتأولين: هو قول للقرين: إما السائق، وإما الذي هو من الزبانية حسبما تقدم واختلف أهل هذه المقالة في معنى قوله: أَلْقِيا وهو مخاطبة لواحد، فقال المبرد معناه: الق الق، فإنما أراد تثنية الأمر مبالغة وتأكيدا، فرد التثنية إلى الضمير اختصارا كما قال [امرؤ القيس] : لفتك الأمين على نابل يريد ارم ارم. وقال بعض المتأولين: «ألقين» فعوض من النون ألف كما تعوض من التنوين. وقال جماعة من أهل العلم بكلام العرب: هذا جرى على عادة العرب، وذلك أنها كان الغالب عندها أن تترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة، فكل واحد منهم يخاطب اثنين، فكثر ذلك في أشعارها وكلامها حتى صار عرفا في المخاطبة، فاستعمل في الواحد، ومن هذا قولهم في الأشعار: خليلي، وصاحبي، وقفا نبك ونحوه، وقد جرى المحدثون على هذا الرسم، فيقول الواحد: حدثنا، وإن كان سمع وحده، ونظير هذه الآية في هذا القول قول الزجاج: يا حارسي اضربا عنقه، وهو دليل على عادة العرب، ومنه قول الشاعر [سويد بن كراع العكلي] : [الطويل] فإن تزجراني بابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ألقين» بتنوين الياء و: كَفَّارٍ مبالغة. و: عَنِيدٍ معناه: عاند عن الحق أي منحرف عنه. وقوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ لفظ عام للمال والكلام الحسن والمعاون على الأشياء. وقال قتادة ومجاهد وعكرمة، معناه: الزكاة المفروضة، وهذا التخصيص ضعيف، و: مُعْتَدٍ معناه: بلسانه ويده. و: مُرِيبٍ معناه: متلبس بما يرتاب به، أراب الرجل: إذا أتى بريبة ودخل فيها. قال الثعلبي قيل نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال الحسن: مُرِيبٍ شاك في الله تعالى ودينه. وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ الآية يحتمل أن يكون الَّذِي بدلا من كَفَّارٍ ويحتمل أن يكون صفة له من حيث تخصص كَفَّارٍ بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه بهذه المعرفة، ويحتمل أن يكون الَّذِي ابتداء وخبره قوله: فَأَلْقِياهُ ودخلت الفاء في قوله: فَأَلْقِياهُ للإبهام الذي في الَّذِي، فحصل الشبه بالشرط وفي هذا نظر. قال القاضي أبو محمد: ويقوى عندي أن يكون الَّذِي ابتداء، ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا، ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي في الدنيا، فرام أن يبرئ نفسه ويخلصها بقوله: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لأنه كذب من نفي الإطغاء عن نفس جملة، والحقيقة أنه أطغاه بالوسوسة والتزين، وأطغاه الله بالخلق، والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه، لا رب غيره، وبوصف الضلال بالبعيد مبالغة، أي لتعذر رجوعه إلى الهدى. وقوله تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ معناه: قال الله لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئا إذ قد استوجب جميعكم النار، وقد أخبر بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اختصاص. واقتضاء فائدة بقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: ٣١] ، وجمع الضمير في قوله: لا تَخْتَصِمُوا يريد بذلك مخاطبة جميع القرناء، إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط، وهذا كما يقول الحاكم لخصمين: لا تغلطوا علي، يريد الخصمين ومن هو في حكمهما. وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل والكتب من تعظيم الكفرة. قوله عز وجل: ٢٩انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٠انظر تفسير الآية:٣٥ ٣١انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٢انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٣انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٤انظر تفسير الآية:٣٥ ٣٥ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) المعنى: قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري، فلا يبدل قولي ولا ينقص ما أبرمه كلامي، ثم أزال عز وجل موضع الاعتراض بقوله: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي هذا عدل فيهم، لأني أعذرت وأمهلت وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل وقال الفراء معنى قوله: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ما يكذب لدي، لعلمي بجميع الأمور. قال القاضي أبو محمد: فتكون الإشارة على هذا إلى كذب الذي قال: ما أَطْغَيْتُهُ [ق: ٢٧] وقوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ يجوز أن يعمل في الظرف قوله: بِظَلَّامٍ ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر. وقرأ جمهور من القراء وحفص عن عاصم: «نقول» بالنون، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله: «قدمت وما أنا» وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر: «يقول» على معنى يقول الله، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة، وقرأ ابن مسعود والحسن والأعمش أيضا: «يقال» على بناء الفعل للمفعول. وقوله: هَلِ امْتَلَأْتِ تقرير وتوقيف، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير؟ وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ على معنى التقرير ونفي المزيد، أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل منزلا» ، وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل، ومن قال: إنها كانت غير ملأى جعل قولها هَلْ مِنْ مَزِيدٍ على معنى السؤال والرغبة في الزيادة. قال الرماني وقيل المعنى: وتقول خزنتها، والقول إنها القائلة أظهر. واختلف الناس أيضا في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز؟ أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى: شكا إلي جملي طول السرى، ومجرى قول ذي الرمة: تكلمني أحجاره وملاعبه. والذي يترجح في قول جهنم: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أنها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول أنس بن مالك، وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله لجهنم هل امتلأت؟ وتقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض» واضطرب الناس في معنى هذا الحديث، وذهبت جماعة من المتكلمين، إلى أن الجبار اسم جنس، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخرا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعا» ويعظم بدنه على هذه النسبة، وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى، وهذا هو الصحيح، فإن في الحديث الصحيح: «فيضع رب العالمين فيها قدمه» وتأويل هذا: ان القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها، ومنه قول الله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: ٢] فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر [الوضاح الخصي] : [المنسرح] صل لربك واتخذ قدما ... ينجيك يوم العثار والزلل ومنه قول العجاج: [الرمل] وسنى الملك لملك ذي قدم أي ذي شرف متقدم، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك وعن النضر بن شميل، وهو قول الأصوليين. وفي كتاب مسلم بن الحجاج: فيضع الجبار فيها رجله، ومعناه: الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس: رجل تشبيها برجل الجراد، قال الشاعر: فمر بها رجل من الناس وانزوى ... إليها من الحي اليمانين أرجل. وملاك النظر في هذا الحديث: أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب. و: أُزْلِفَتِ معناه: قربت، و: غَيْرَ بَعِيدٍ تأكيد وبيان أن هذا التقدير هو في المسافة، لأن قربت كان يحتمل أن معناه: بالوعد والإخبار، فرفع الاحتمال بقوله: غَيْرَ بَعِيدٍ. وقوله تعالى: هذا ما تُوعَدُونَ الآية، يحتمل أن يكون معناه: يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة هذا هو الذي كنتم توعدون في الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي هذا الذي توعدون به أيها الناس لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. والأواب: الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه. وقال ابن عباس وعطاء: الأواب: المسبح لقوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: ١٠] . وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر. وقال المحاسبي: هو الراجح بقلبه إلى ربه. وقال عبيد بن عمير: كنا نحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. والحفيظ معناه: بأوامر الله فيمتثلها، أو لنواهيه فيتركها. وقال ابن عباس: حَفِيظٍ لذنوبه حتى يرجع عنها. وقوله تعالى: مَنْ خَشِيَ يحتمل أن يكون مَنْ نعت الأواب أو بدلا. ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء والخبر يقال لهم (ادخلوا) ، ويحتمل أن تكون شرطية فيكون الجواب يقال لهم ادخلوها. وقوله: بِالْغَيْبِ أي غير مشاهد له إنما يصدق رسوله ويسمع كلامه وجاء معناه يوم القيامة. والمنيب الراجع إلى الخير المائل إليه. وقوله تعالى: ادْخُلُوها تقديره يقال لهم على ما تقدم. وبِسَلامٍ معناه بأمن وسلامة من جميع الآفات. وقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ معادل لقوله قبل في الكفار ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: ٢٠] . وقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع. ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧] وقد فسر ذلك الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما أطلعتهم عليه» . وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة وأشياء ضعيفة، لأن الله تعالى يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: ١٧] وهم يعينونها تكلفا وتعسفا. وروي عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن المزيد: النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. قوله عز وجل: ٣٦انظر تفسير الآية:٤٠ ٣٧انظر تفسير الآية:٤٠ ٣٨انظر تفسير الآية:٤٠ ٣٩انظر تفسير الآية:٤٠ ٤٠وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) كَمْ للتكثير وهي خبرية، المعنى كثيرا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ. والقرن: الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن. واختلف الناس في ذلك القدر، فقال الجمهور: مائة سنة، وقيل غير هذا، وقد تقدم القول فيه غير مرة. وشدة البطش: هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك. وقرأ جمهور من الناس: «فنقّبوا» بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية، والمعنى: ولجوا البلاد من أنقابها. وفي الحديث: «أن على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» . والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر [امرؤ القيس] : [الوافر] وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب ومنه قول الحارث بن حلزة: [الخفيف] نقبوا في البلاد من حذر الموت ... وجالوا في الأرض كل مجال وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية: «فنقّبوا» بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين. و: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ توقيف وتقرير، أي لا محيص، والمحيص: المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد، قال قتادة: حاص الكفرة فوجدوا أمر الله منيعا مدركا، وفي صدر البخاري فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب. وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته: [الوافر] إذا حاص الدليل رأيت منها ... جنوحا للطريق على اتساق وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه: «فنقبوا» بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد، واللفظة أيضا قد تقال بمعنى البحث والطلب، تقول: نقب عن كذا أي استقصى عنه، ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب. وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني إهلاك من مضى، والذكرى: التذكرة، والقلب: عبارة عن العقل إذ هو محله. والمعنى: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ واع ينتفع به. وقال الشبلي معناه: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين. وقوله تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبته في سماعها، فذلك إلقاء له عليها، ومنه قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩] أي أثبتها عليك، وقال بعض الناس قوله تعالى: أَلْقَى السَّمْعَ، وقوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف: ١١] وقوله: سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الأعراف: ١٤٩] هي كلها مما قل استعمالها الآن وبعدت معانيها. قال القاضي أبو محمد: وقول هذا القائل ضعيف، بل هي بينة المعاني، وقد تقدمت في موضعها. وقوله تعالى: وَهُوَ شَهِيدٌ قال بعض المتأولين: معناه: وهو مشاهد مقبل على الأمر غير معرض ولا منكر في غير ما يسمع. وقال قتادة: هي إشارة إلى أهل الكتاب، فكأنه قال: إن هذه العبرة التذكرة لمن له فهم فيتدبر الأمر أو لمن سمعها من أهل الكتاب فيشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني إسرائيل: ف شَهِيدٌ على التأويل الأول من المشاهدة، وعلى التأويل الثاني من الشهادة. وقرأ السدي: «ألقى السمع» قال ابن جني ألقى السمع منه حكى أبو عمرو الداني أن قراءة السدي ذكرت لعاصم فمقت السدي وقال: أليس الله يقول: يُلْقُونَ السَّمْعَ [الشعراء: ٢٢٣] . وقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية خبر مضمنه الرد على اليهود الذين قالوا إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام ثم استراح يوم السبت فنزلت: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ واللغوب: الإعياء والنصب والسأم، يقال لغب الرجل يلغب إذا أعيى. وقرأ السلمي وطلحة: «لغوب» بفتح اللام. وتظاهرت الأحاديث بأن خلق الأشياء كان يوم الأحد وفي كتاب مسلم وفي الدلائل لثابت حديث مضمنه: أن ذلك كان يوم السبت وعلى كل قول فأجمعوا على أن آدم خلق يوم الجمعة. فمن قال إن البداءة يوم السبت جعل خلق آدم كخلق بنيه لا يعد مع الجملة الأولى وجعل اليوم الذي كملت المخلوقات عنده يوم الجمعة. وقوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ قال بعض المفسرين: أراد أهل الكتاب لقولهم، ثم استراح يوم السبت. قال القاضي أبو محمد: وهذه المقالات من أهل الكتاب كانت بمكة قبل الهجرة. وقال النظار من المفسرين قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة، وعم بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم، وعلى هذا التأويل يجيء قول من قال: الآية منسوخة بآية السيف. وَسَبِّحْ معناه: صل بإجماع من المتأولين وقوله: بِحَمْدِ رَبِّكَ الباء للاقتران أي سبح سبحة يكون معها حمد ومثله «تنبت بالدهن» على بعض الأقوال فيها و: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هي الصبح وَقَبْلَ الْغُرُوبِ هي العصر قاله قتادة وابن زيد والناس، وقال ابن عباس: قَبْلَ الْغُرُوبِ هي العصر والظهر وَمِنَ اللَّيْلِ هي صلاة العشاءين وقال ابن زيد هي العشاء فقط. وقال مجاهد: هي صلاة الليل وقوله: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأبو هريرة والحسن والشعبي وإبراهيم، ومجاهد والأوزاعي: هي الركعتان بعد المغرب وأسنده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه روعي إدبار صلاة النهار كما روعي إدبار النجوم في صلاة الليل، فقيل هي الركعتان مع الفجر. وروي عن ابن عباس أن أَدْبارَ السُّجُودِ: الوتر، حكاه الثعلبي وقال ابن زيد وابن عباس أيضا ومجاهد: هي النوافل إثر الصلوات وهذا جار مع لفظ الآية، وقال بعض العلماء العارفين: هي صلاة الليل، قال الثعلبي: وقال بعض العلماء في قوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هي ركعتا الفجر وَقَبْلَ الْغُرُوبِ الركعتان قبل المغرب وقال بعض التابعين: رأيت أصحاب محمد يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة، وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين قبل المغرب إلا أنسا وأبا برزة. وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى وشبل وطلحة والأعمش «وإدبار» بكسر الألف وهي مصدر أضيف إليه وقت، ثم حذف الوقت، كما قالوا: جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم ونحوه، وقرأ الباقون والحسن والأعرج، «وأدبار» بفتح الهمزة وهو جمع دبر كطنب وأطناب، أي وفي «أدبار السجود» أي في أعقابه وقال أوس بن حجر: [الطويل] على دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمع قوله عز وجل: ٤١انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٢انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٣انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٤انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٥وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥) قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ بمنزلة، وانتظر، وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء، لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار، وقيل لمحمد تحسس وتسمع هذا اليوم وارتقبه، وهذا كما تقول لمن تعده بورود فتح استمع كذا وكذا، أي كن منتظرا له مستمعا، وعلى هذا فنصب يَوْمَ إنما هو على المفعول الصريح. وقرأ ابن كثير: «المنادي» بالياء في الوصل والوقف على الأصل الذي هو ثبوتها، إذا الكلام غير تام وإنما الحذف أبدا في الفواصل، والكلام التام تشبيها بالفواصل. وقرأ أبو عمرو ونافع، بالوقف بغير ياء لأن الوقف موضع تغيير، ألا ترى أنها تبدل من التاء فيه الهاء في نحو طلحة وحمزة، ويبدل من التنوين الألف ويضعف فيه الحرف كقولك هذا فرج، ويحذف فيه الحرف في القوافي، وقرأ الباقون وطلحة والأعمش وعيسى بحذف الياء في الوصل والوقف جميعا وذلك اتباع لخط المصحف، وأيضا فإن الياء تحذف مع التنوين فوجب أن تحذف مع معاقب التنوين وهي الألف واللام. وقوله تعالى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن ملكا ينادي من السماء: أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة، هلم إلى الحساب الوقوف بين يدي الله» . وقال كعب الأحبار وقتادة وغيرهما: المكان صخرة بيت المقدس واختلفوا في معنى صفته بالقرب فقال قوم: وصفها بذلك لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم أي من مكة. وقال كعب الأحبار: وصفه بالقرب من السماء، وروي أنها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا، وهذا الخبر إن كان بوحي، وألا سبيل للوقوف على صحته. و: الصَّيْحَةَ هي صيحة المنادي و: الْخُرُوجِ هو من القبور، و: «يومه» هو يوم القيامة، ويَوْمُ الْخُرُوجِ في الدنيا هو يوم العيد قال حسان بن ثابت: [الكامل] ولأنت أحسن إذ برزت لنا ... يوم الخروج بساحة القصر من درة أغلى الملوك بها ... مما تربّب حائر البحر وقوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ العامل في يَوْمَ، الْمَصِيرُ. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: «تشّقق» بتشديد الشين. وقرأ الباقون: «تشقق» بتخفيف الشين و: سِراعاً حال قال بعض النحويين وهي من الضمير في قوله: عَنْهُمْ والعامل في الحال تَشَقَّقُ وقال بعضهم التقدير: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ يخرجون سِراعاً فالحال من الضمير في: «يخرجون» ، والعامل «يخرجون» . وقوله تعالى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ كلام معادل لقول الكفرة: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: ٣] . وقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وعيد محض للكفرة. واختلف الناس في معنى قوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فقال قتادة: نهى الله عن التجبر وتقدم فيه، فمعناه: وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت. وقال الطبري وغيره معناه: وما أنت عليهم بمسلط تجبرهم على الإيمان، ويقال جبرته على كذا، أي قسرته ف «جبار» بناء مبالغة من جبر وأنشد المفضل: [الوافر] عصينا عزمة الجبار حتى ... صحبنا الخوف إلفا معلمينا قال: أراد ب «الجبار» النعمان بن المنذر لولايته، ويحتمل أن نصب عزمة على المصدر وأراد عصينا مقدمين عزمة جبار، فمدح نفسه وقومه بالعتو والاستعلاء أخلاق الجاهلية والحياة الدنيا، وروى ابن عباس أن المؤمنين قالوا: يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ. قال القاضي أبو محمد: ولو لم يكن هذا سببا فإنه لما أعلمه أنه ليس بمسلط على جبرهم، أمره بالاقتصار على تذكير الخائفين من الناس. |
﴿ ٠ ﴾