٣٦

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦)

قوله: يَسْئَلُهُ يحتمل أن يكون في موضع الحال من الوجه، والعامل فيه يَبْقى [الرحمن: ٢٧] أي هو دائم في هذه الحال، ويحتمل أن يكون فعلا مستأنفا إخبارا مجردا. والمعنى أن كل مخلوق من الأشياء فهو في قوامه وتماسكه ورزقه إن كان مما يرزق بحال حاجة إلى الله تعالى، فمن كان يسأل بنطق فالأمر فيه بين، ومن كان من غير ذلك فحاله تقتضي السؤال، فأسند فعل السؤال إليه.

وقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي يظهر شأن من قدرته التي قد سبقت في الأزل في ميقاته من الزمن من إحياء وإماتة ورفعة وخفض، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلا هو تعالى. والشأن: اسم جنس للأمور. قال الحسين بن الفضل: معنى الآية، سوق المقادير إلى المواقيت. وورد في بعض الأحاديث، «إن الله تعالى له كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستون نظرة، يعز فيها ويذل، ويحيي ويميت، ويغني ويعدم إلى غير ذلك من الأشياء، لا إله إلا هو» . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل له ما هذا الشأن يا رسول الله؟ قال: يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع ويضع.

وذكر النقاش أن سبب هذه الآية قول اليهود: إن الله استراح يوم السبت، فلا ينفذ فيه شيئا.

وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى أن ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة، وليس المعنى: أن ثم شغلا يتفرغ منه، وإنما هي إشارة وعيد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأزب العقبة لأفرغن لك يا خبيث» والتفرغ من كل آدمي حقيقة.

وفي قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ جرى على استعمال العرب، ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا والأول أبين.

وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: «سنفرغ» بضم الراء وبالنون. وقرأ الأعرج وقتادة:

ذلك بفتح الراء والنون، ورويت عن عاصم، ويقال فرغ بفتح الراء وفرغ بكسرها. ويصح منهما جميعا أن يقال يفرغ بفتح الراء وقرأ عيسى بفتح النون وكسر الراء. وقال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بالياء المفتوحة، قرأ حمزة والكسائي: بضم الراء. وقرأ أبو عمرو: بفتحها. وقرأ الأعمش بخلاف، وأبو حيوة: «سيفرغ» بضم الياء وفتح الراء وبناء الفعل للمفعول. وقرأ عيسى بن عمر أيضا: «سنفرغ» ، بفتح النون وكسر الراء. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «سنفرغ لكم أيها» .

والثَّقَلانِ الإنس والجن، ويقال لكل ما يعظم أمره ثقل، ومنه: أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: ٢] . وقال النبي عليه السلام: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» . ويقال لبيض النعام ثقل. وقال لبيد: [الكامل]

فتذكرا ثقلا رئيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر

وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه: سمي الإنس والجن ثقلين، لأنهما ثقلا بالذنوب وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من طين ونار.

وقرأ ابن عامر: «أيّه الثقلان» بضم الهاء.

واختلف الناس في معنى قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا الآية، فقال الطبري، قال قوم: في الكلام محذوف وتقديره: يقال لكم يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قالوا وهذه حكاية عن حال يوم القيامة في يَوْمَ التَّنادِ [غافر: ٣٢] على قراءة من شدد الدال. قال الضحاك: وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض، والجن كذلك، لما يرون من هول يوم القيامة، فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت بالأرض، فيرجعون من حيث جاؤوا، فحينئذ يقال لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وقال بعض المفسرين: بل هي مخاطبة في الدنيا. والمعنى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ الفرار من الموت ب أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقال ابن عباس المعنى: إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض. والأقطار: الجهات.

وقوله: فَانْفُذُوا صيغة الأمر ومعناه التعجيز، والسلطان هنا القوة على غرض الإنسان، ولا يستعمل إلا في الأعظم من الأمر والحجج أبدا من القوي في الأمور، ولذلك يعبر كثير من المفسرين عن السلطان بأنه الحجة. وقال قتادة: السلطان هنا الملك، وليس لهم ملك، والشواظ: لهب النار. قاله ابن عباس وغيره. وقال أبو عمرو بن العلاء: لا يكون الشواظ إلا من النار وشيء معها، وكذلك النار كلها لا تحس إلا وشيء معها. وقال مجاهد: الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع، ويؤيد هذا القول. قول حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت:

هجوتك فاختضعت حليفا ذل ... بقافية تؤجج كالشواظ

وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب وليس بدخان الحطب.

وقرأ الجمهور: «شواظ» بضم الشين. وقرأ ابن كثير وحده وشبل وعيسى: «شواظ» بكسر الشين وهما لغتان.

وقال ابن عباس وابن جبير: النحاس الدخان، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]

تضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا

السليط دهن السراج. في النسخ التي بأيدينا دهن الشيرج.

وقرأ جمهور القراء: «ونحاس» بالرفع عطفا على شُواظٌ، فمن قال إن النحاس: هو المعروف، وهو قول مجاهد وابن عباس أيضا قال يرسل عليهما نحاس: أي يذاب ويرسل عليهما. ومن قال هو الدخان، قال ويعذبون بدخان يرسل عليهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والنخعي وابن أبي إسحاق:

«ونحاس» بالخفض عطفا على نارٍ، وهذا مستقيم على ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء. ومن رأى الشواظ يختص بالنار قدر هنا: وشيء من نحاس. وحكى أبو حاتم عن مجاهد أنه قرأ: «ونحاس» بكسر النون والجر. وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قرأ: «ونحسّ» بفتح النون وضم الحاء والسين المشددة، كأنه يقول: ونقتل بالعذاب. وعن أبي جندب أنه قرأ: «ونحس» ، كما تقول: يوم نحس، وحكى أبو عمرو مثل قراءة مجاهد عن طلحة بن مصرف، وذلك لغة في نحاس، وقيل هو جمع نحس.

ومعنى الآية: مستمر في تعجيز الجن والإنس، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا ينتصر.

قوله عز وجل:

﴿ ٣٦