٥

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥)

قرأ جمهور الناس «قل أوحي إلي» من أوحى يوحي. وقرأ أبو أناس جوية بن عائذ: «قل أوحى إلي» ، من وحي يحي ووحي وأوحى، بمعنى واحد، وقال العجاج: «وحي لها القرار فاستقرت» . وقرأ أيضا جوية فيما روى عنه الكسائي، «قل أحي» أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة، وغير ذلك.

وكذلك قرأ ابن أبي عبلة، وحكى الطبري عن عاصم أنه كان يكسر كل ألف في السورة من «أن» و «إن» إلا قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: ١٨] . وحكي عن أبي عمرو أنه يكسر من أولها إلى قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الجن: ١٦] فإنه كان يفتح همزة وما بعدها إلى آخر السورة. فعلى ما حكي يلزم أن تكون الهمزة مكسورة في قوله «إنه استمع» ، وليس ما ذكر بثابت. وذكر أبو علي الفارسي أن ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك أَنَّهُ اسْتَمَعَ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا [الجن: ١٦] ، وَأَنَّ الْمَساجِدَ [الجن: ١٨] ، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ [الجن: ١٩] ، وأن نافعا وعاصما في رواية أبي بكر والمفضل وافقا في الثلاثة وكسرا وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ [الجن: ١٩] مع سائر ما في السورة. وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرأون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء، وكذلك حفص عن عاصم، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من أَنَّهُ اسْتَمَعَ و «أن لو استقاموا» «وأن المساجد» . وذكر الزهراوي عن علقمة أنه كان يفتح الألف في السورة كلها. واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافا كثيرا يطول ذكره وحصره وتقصي معانيه. قال أبو حاتم: أما الفتح فعلى أُوحِيَ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول. وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ. وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: ٢٩] .

وقول الجن: إِنَّا سَمِعْنا الآيات، هو خطاب منهم لقومهم الذين ولوا إليهم منذرين، وقُرْآناً عَجَباً معناه ذا عجب، لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته وفصاحته ومضمناته، وليس نفس القرآن هو العجب. وقرأ جمهور الناس «إلى الرّشد» بضم الراء وسكون الشين. وقرأ عيسى الثقفي «إلى الرّشد» بفتح الراء والشين. وقرأ عيسى «إلى الرّشد» ومن كسر الألف من قوله «وإنه تعالى» فعلى القطع ويعطف الجملة على قوله إِنَّا سَمِعْنا، ومن فتح الألف من قوله وَأَنَّهُ تَعالى اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم هي عطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ، فيجيء على هذا قوله تَعالى مما أمر أن يقول إنه أوحي إليه وليس يكون من كلام الجن، وفي هذا قلق. وقال بعضهم بل هي عطف على الضمير في بِهِ فكأنه يقول فآمنا به وبأنه تعالى. وهذا القول ليس في المعنى، لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض وذلك لا يحسن. وقرأ جمهور الناس «جدّ ربنا» بفتح الجيم وضم الدال وإضافته إلى الرب، وقال جمهور المفسرين معناه عظمته.

وروي عن أنس أنه قال: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد في أعيننا أي عظم. وقال أنس بن مالك والحسن: جَدُّ رَبِّنا معناه، فهذا هو من الجد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:

«ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ، وقال مجاهد: ذكره كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة، فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان الباهر والصفات العلية والعظمة، ومن هذا قول اليهودي حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: «يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون» أي حظكم من الخيرات وبختكم. وقال علي بن الحسين رضي الله عنه وأبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس ليس لله جد، وهذه مقالة قوم جهلة من الجن، جعلوا الله جدا أبا أب. قال كثير من المفسرين هذا قول ضعيف. وقوله: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً يدفعه، وكونهم فيما روي على شريعة متقدمة وفهمهم للقرآن. وقرأ محمد بن السميفع اليماني «جد ربنا» وهو من الجد والنفع. وقرأ عكرمة «جدّ ربّنا» بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب كأنه يقول تعالى عظيم هو ربنا ف «ربنا» بدل والجد العظيم في اللغة.

وقرأ حميد بن قيس «جد ربنا» بضم الجيم. ومعناه ربنا العظيم حكاه سيبويه وبإضافته إلى الرب فكأنه قال عظيم، وهذه إضافة تجديد يوقع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف، كما تقول جاءني كريم زيد تريد زيدا الكريم ويجري مجرى هذا عند بعضهم.

قول المتنبي [البسيط] عظيم الملك في المقل أراد الملك العظيم قال بعض النحاة، وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير، وقرأ عكرمة أيضا «جدا ربّنا» بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع الرب ونصب «جدا» على التمييز كما تقول تفقأت شحما وتصببت عرقا، وقرأ قتادة «جدا ربّنا» بكسر الجيم ورفع الباء وشد الدال، فنصب جدا على الحال ومعناه تعالى حقيقة ومتمكنا. وهذا معنى غير الأول، وقرأ أبو الدرداء «تعالى ذكر ربنا» ، وروي عنه «تعالى جلال ربنا» . وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ لا خلاف أن هذا من قول الجن، وكسر الألف فيه أبين وفتحها لا وجه له إلا اتباع العطف على الضمير. كأنهم قالوا الآن بأن سَفِيهُنا كان قوله شَطَطاً. والسفيه المذكور قال جميع المفسرين هو إبليس لعنه الله. وقال آخرون هو اسم جنس لكل سفيه منهم. ولا محالة أن إبليس صدر في السفهاء وهذا القول أحسن. والشطط: التعدي وتجاوز الحد بقول أو فعل ومنه قول الأعشى: [البسيط]

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وقوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا هو كلام أولئك النفر لا يحتمل غير ذلك، وكسر الألف فيه أبين.

والمعنى: إنا كنا نظن قبل إيماننا أن الأقوال التي تسمع من إبليس وغواة الجن والإنس في جهة الآلهة وما يتعلق بذلك حق وليست بكذب، لأنا كنا نظن بهم أنهم لا يكذبون على الله ولا يرضون ذلك. وقرأ جمهور الناس «تقول» . وقرأ الحسن والجحدري وابن أبي بكرة ويعقوب «تقوّل» بفتح القاف والواو وشد الواو، والتقول خاص بالكذب، والقول عام له وللصدق، ولكن قولهم كَذِباً يرد القول هنا معنى التقول.

قوله عز وجل:

﴿ ٥