٢٦٠

وسئل عن قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ ٢٦٠ ] أفكان شاكاً في إيمانه حتى سأل ربه أن يريه آية ومعجزة ليصح معها إيمانه؟ فقال سهل : لم يكن سؤاله ذلك عن شك ، وإنما كان طالباً زيادة يقين إلى إيمان كان معه ، فسأل كشف غطاء العيان بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقيناً في قدرة اللّه ، وتمكيناً في خلقه ، ألا تراه كيف قال :

{ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ ٢٦٠ ] فلو كان شاكاً لم يجب ب ( بلى ) ، ولو علم اللّه منه الشك وهو أخبر ب ( بلى ) وستر شكه لكشف اللّه تعالى ذلك ، إذ كان مثله مما لا يخفى عليه ، فصح أن طلب طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه . فقيل : إن أصحاب المائدة طلبوا الطمأنينة بإنزال المائدة ، وكان ذلك شكاً ، فكيف الوجه فيه؟ فقال : إن إبراهيم عليه السلام أخبر أنه مؤمن ، وإنما سأل الطمأنينة بعد الإيمان زيادة ، وأصحاب المائدة أخبروا أنهم يؤمنون بعد أن تطمئن قلوبهم ، كما قال : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [ المائدة : ١١٣ ] فأخبروه أن علمهم بصدقة بعد طمأنينتهم إلى معاينتهم المائدة يكون ابتداء إيمان لهم . وقال أبو بكر : وسمعته مرة أخرى يقول :

{ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ ٢٦٠ ] أي لست آمنُ أن يعارضني عدو لك

قلنا فقوله :

{ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ ٢٦٠ ] أي خلتي ، هذا لما أعلمه أنك تحيي وتميت .

وسئل سهل : إذا بلغ العبد إلى كفاح العيان ما علامته في البيان؟ فقال : يغلب بطرد الشيطان ، وهو أن النفس في معاينة الهوان ، ولا سبيل إليه للنفس والشيطان بعزلهما عن الشيطان إلاَّ بحفظ الرحمن . وقال : [ من الوافر ]

كفاياتُ الكِفاح بِحُسْنِ ظنِّي ... كنسجِ العنكبوتِ بباب غارِ

وحسنُ الظَّنِّ جاوزَ كُلَّ حجبٍ ... وحُسْنُ الظَّنِّ جاوز نُورَ نار

علاماتُ الْمُقَرَّبِ واضحاتٌ ... بعيدٌ أمْ قريبٌ ليلُ سارِ

فمنْ كانَ الإِله لهُ عِياناً ... فلا نومَ القرارِ إلى النهارِ

تقاضاه الإله لَهم ثلاثاً ... فهل من سائلٍ من لطف بارِ

متى نَجس الولوغ ببحر ود ... فدع شقي النباح بباب داري

ألا يا نفس والشيطان أخسوا ... كبطلان الوساوس والغمارِ

قوله : ( كفايات الكفاح بحسن ظني ) كأنه أشار إلى قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } [ فصلت : ٥٣ ] فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( بلى يا رب ) وكذلك لما أنزلت { أَلَيْسَ اللّه بِأَحْكَمِ الحاكمين } [ التين : ٨ ] قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( بلى يا رب ) ومن طريق فهمهم القرآن : أو لم يَكْفِ بِرَبِّكَ يا محمد بنصرتك في الدنيا على أعدائك بالقتل والهزيمة ، وفي العقبى بالمقام المحمود والشفاعة ، وفي الجنة باللقاء والزيارة ، وقوله : ( كنسج العنكبوت بباب غار ) وذلك أنَّ غار العارفين هو السر ، واطلاع رب العالمين إذا بلغوا إلى مقام الكفاح ، وهو عيان العيان بعد البيان ، فليس بينهم وبين اللّه تعالى إلاَّ حجاب العبودية بنظره إلى صفات الربوبية والهوية والإلهية والصمدية إلى السرمدية بلا منع ولا حجاب ، مثل من طريق الأمثال كنسيج العنكبوت حول قلبه ، وسره فؤاده بلطف الربوبية وكمال الشفقة بلا حجاب بينه وبين اللّه تعالى كنسج العنكبوت بباب غار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صرف اللّه به جميع أعدائه من صناديد قريش بدلالة إبليس إياهم عليه ، كذلك أهل المعرفة إذا بلغوا إلى مقام العيان بعد البيان انقطع وصرف وساوس الشيطان وسلطان النفس ، وصار كيدهم ضعيفاً ، بيانه قوله :

{ إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : ٧٦ ] يعني صار عليهم ضعيفاً كما قال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : ٤٢ ] لأن العبد إذا جاوز بحسن ظنه جميع الحجب ، حتى لا يكون بينه وبين اللّه حجاب ، فليس للنفس والشيطان والدنيا دخول على قلبه وفؤاده بالوساوس ، ولذلك قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( رأيت البارحة عجباً عبد بينه وبين اللّه حجاب فجاء حسن ظنه باللّه فأدخله الحجاب ) .

وقوله : ( وحسن الظن جاوز نور نار ) كأنه أشار إلى متابعة الرسول شرفاً بتفضيله على الخليل والكليم ، لأن الأنبياء والأولياء في مقام رؤية النار والنور على مقامات شتى ، فالخليل رأى النار وصارت عليه برداً وسلاماً ، والكليم رأى النار نوراً بيانه قوله : { إني ءَانَسْتُ نَاراً } [ طه : ١٠ ] وكان في الأصل نوراً مع قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : ٨ ] يعني موسى في وسط النور فاشتغل بالنور فعاتبه فقال : لا تشتغل بالنور فإني منور النور ، بيانه : { إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ } [ طه : ١٢ ] وأما الحبيب صلى اللّه عليه وسلم فأراه النار والنور ، وجاوز حجاب النار والنور ، ثم أدناه بلا نار ولا نور ، حتى رأى في دنوه الأدنى منوّر الأنوار ، بيانه قوله : { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } [ النجم : ١١ ] فرفع الحبيب عن مقام الخليل والكليم ومقامات جميع الأنبياء المقربين ، حتى صار مكلماً باللّه بلا وحي ولا ترجمان أحد ، بيانه قوله : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى } [ النجم : ١٠ ] يعني قال الحبيب للحبيب سراً وعلمه وأكرمه بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة .

وقوله : ( علامات المقرب واضحات ) أراد أن جميع الأنبياء والملائكة لهم قربة ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم أقربهم قربة ، على وزن أفعل ، يقول قريب وأقرب ، فالقريب يدخل في الفهم والوهم والتفسير ، وأما الأقرب خارج عن الفهم والوهم والتفسير ، وما بعده لا يدخل في العبارة ولا في الإشارة ، وذلك أن موسى عليه السلام لما سمع ليلة النار نداء الوحدانية من الحق فقال : إلهي أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فنادى الكليم من مكان القريب والبعيد أنه قريب . ولم يكن هذا في وصف الرسول حينئذ صيره مقرباً ، حتى سلم اللّه عليه فقال : السلام عليكم ، وإن اللّه تعالى مدح أمته فقال :

{ والسابقون السابقون أولئك المقربون } [ الواقعة : ١٠-١١ ] ولم يقل القريبون ، وعلامات المقرب واضحات من هذه الأمة ، فالقريب وجد من اللّه المنة والكرامة ، والبعيد وجد من اللّه العذاب والعقوب ، والمبعد وجد من اللّه الحجاب والقطيعة ، والمقرب وجد من اللّه اللقاء والزيارة .

قوله : ( فمن كان الإله له عياناً ) علامات المشتاقين ، فليس لهم نوم ولا قرار لا بالليل ولا بالنهار ، والمخصوص بهذه الصفة صهيب وبلال ، لأن بلالاً كان من المشتاقين ، وكذلك صهيب ، لم يكن لهما نوم ولا قرار ، وقد حكي أن امرأة كانت اشترت صهيباً فرأته كذلك فقالت : لا أرضى حتى تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي ، فبكى صهيب وقال : إن صهيباً إذا ذكر النار طار نومه ، وإذا ذكر الجنة جاء شوقه ، وإذا ذكر اللّه تعالى طال شوقه .

وقوله : ( تقاضاه الإله لهم ثلاثاً ) لأن ( هل ) من حروف الاستفهام ، وأن اللّه عزَّ وجلَّ يرفع الحجاب كل ليلة فيقول : ( هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيب دعوته؟ ) فإذا كانت ليلة القدر رفع اللّه الشرط فقال : ( غفرت لكم وإن لم تستغفروني ، وأعطيتكم وإن لم تسألوني ، وأجبت لكم قبل أن تدعوني ) ، وهذا غاية الكرم .

قوله : ( متى نجس الولوغ ببحر ود ) أشار إلى ولوغ الكلب ، إذا ولغ في الإناء يغسل سبع مرات أو ثلاثاً ، باختلاف الألفاظ الواردة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فكيف ولو أن ألف ألف كلب ولغوا في بحر؟ فلا اختلاف بين الأمة أن البحر لا ينجس بوساوس الشيطان ، وولوغه في قلوب العارفين والمحبين في بحر الوداد متى يوجب التنجس ، لأنه كلما ولغ فيه جاءه موج فطهره .

وقوله : ( فدع شقي النباح بباب داري ) يعني دع يشقى إبليس يصيح على باب الدنيا بألوان الوساوس ، فإنه لا يضرني ، كقوله : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُوا } [ الأعراف : ٢٠١ ] بالوحدانية مع قوله : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوا على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [ الإسراء : ٤٦ ] .

قوله : ( اخسؤوا ) تباعدوا عني ، يقال للكلب اخسأ على كمال البعد والطرد ، وبهذا عاقبهم في آخر عقوباته إياهم ، كقوله : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : ١٠٨ ]

﴿ ٢٦٠