سورة الانعام٥٢ سئل عن قوله : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ ٥٢ ] قال : أي يريدون وجه اللّه ورضاه ، ولا يغيبون عنه ساعة . ثم قال : أزهد الناس أصفاهم مطعماً ، وأعبد الناس أشدهم اجتهاداً في القيام بالأمر والنهي ، وأحبهم إلى اللّه أنصحهم لخلقه . وسئل عن العمر قال : الذي يضيع العمر . قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ ٥٢ ] فهو قصد العبد في حركاته وسكونه إليه ، كما قال : { والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصلاة } [ الشورى : ٣٨ ] فكل من وجد حال المريد والمراد فهو من فضل اللّه عليه ، ألا ترى أنه جمع بينهما في قوله تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّه } [ النحل : ٥٣ ] قيل له : فما الفصل بينهما؟ فقال : المريد الذي يتكلف القصد إليه والعبادة للّه تعالى ويطلب الطريق إليه ، فهو في الطلب بعد ، والمراد قيام اللّه تعالى له بها ، والرجل يجد في نفسه ما يدل على المريد ، والمراد يدخل في الطاعات وقتاً يجد ما يحمله على الأعمال من غير تكلف وجهد نظراً من اللّه تعالى له ، ثم يخرج بعد ذلك إلى علو المقامات ورفيع الدرجات . قيل له : ما معنى المقامات؟ فقال : هي موجودة في كتاب اللّه تعالى في قصة الملائكة : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : ١٦٤ ] . ٥٤ قوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ ٥٤ ] وقد حكي أن اللّه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود من عرفني أرادني ، ومن أرادني أحبني ، ومن أحبني طلبني ومن طلبني وجدني ، ومن وجدني حفظني . فقال داود صلوات اللّه عليه : إلهي ، أين أجدك إذا طلبتك؟ فقال : عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي . فقال : إلهي ، أتيت أطباء عبادك للتداوي فكلهم دلوني عليك ، فبؤساً للقانطين من رحمتك ، فهل لي وجه أن تداويني؟ فقال اللّه عزَّ وجلَّ : الذين أتيتهم كلهم دلوك علي؟ فقال : نعم . قال : فاذهب فبشر المذنبين ، وأنذر الصديقين . فتحير داود فقال : يا رب ، غلطت أنا أم لا؟ قال : ما غلطت يا داود . قال : وكيف ذلك؟ قال : بشر المذنبين بأني غفور ، وأنذر الصديقين بأني غيور . فسئل : من الصديقون؟ فقال : الذين عدوا أنفاسهم بالتسبيح والتقديس ، وحفظوا الجوارح والحواس ، فصار قولهم وفعلهم صدقاً ، وصار ظاهرهم وباطنهم صدقاً ، وصار دخولهم في الأشياء وخروجهم عنها بالصدق ، ومرجعهم إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر . ٦٩ وقوله سبحانه وتعالى : { ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ ٦٩ ] قال : إن اللّه تعالى أخذ على أوليائه التذكرة لعباده ، كما أخذ التبليغ على أنبيائه صلوات اللّه عليهم أجمعين . فعلى أولياء اللّه أن يدلوا عليه ، فمتى قعدوا عن ذلك كانوا مقصرين . قيل له : فقد رأينا كثيراً منهم قعدوا عن ذلك . فقال : إنهم لم يقعدوا عنه إلاَّ عند عدم الاحتياج إليه ، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد كان عندنا رجل بالبصرة له منزلة رفيعة ، لزمه فرض من ذلك في وقت من الأوقات ، فبادر نحوه ، فلقيه رجل آخر وقال له : إن اللّه تعالى أمرني بما عزمت عليه ، وكفاك إياه ، فرجع إلى منزله ، وحمد اللّه تعالى على حسن الكفاية ، واللّه أعلم . ٧٦ قوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي } [ ٧٦ ] فقال : كان هذا القول منه تعريضاً لقومه عند حيرة قلوبهم ، لأنه كان أوتي رشده من قبل ، كما قال : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض } . ٧٧ قيل : ما معنى قوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } [ ٧٧ ] قال : يعني لئن لم يدم لي الهداية ، { لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين } [ ٧٧ ] ثم قال : كانت ملة إبراهيم عليه السلام السخاوة ، وحالة التبري من كل شيء سوى اللّه تعالى ، ألا تراه حين قال جبريل عليه السلام : هل لك حاجة؟ قال : أما إليك فلا . لم يعتمد على أحد سواه في كل حال . ٩٨ قوله تعالى : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [ ٩٨ ] أي مستقر في أرحام النساء و ( مستودع ) يعني النطفة في صلب آدم عليه السلام . ١٢٠ وقوله : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ } [ ١٢٠ ] يعني اتركوا المعاصي بالجوارح ، ومحبتها بالقلب ، وبالإصرار عليها . ١٢٥ وقوله : { فَمَن يُرِدِ اللّه أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ ١٢٥ ] قال سهل : إن اللّه ميز بين المريد والمراد في هذه الآية ، وإن كان الجميع من عنده ، وإنما أراد أن يبين موضع الخصوص من العموم ، فخص المراد في هذه السورة وغيرها ، وذكر المريد وهو موضع العموم في هذه السورة أيضاً . ١٢٧ قوله : { لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ } [ ١٢٧ ] قال : يعني سلم فيه من هواجس نفسه ووساوس عدوه . ١٢٩ قوله تعالى : { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ ١٢٩ ] أي ينتقم اللّه تعالى من الظالم بالظالم ، ثم ينتقم من الجميع بنفسه . ١٣٢ وقال : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } [ ١٣٢ ] ، وقال في صفة المريد : شغل المريد إقامة الفرض والاستغفار من الذنب وطلب السلامة من الخلق . وقال سهل : إن اللّه عزَّ وجلَّ ينظر في القلوب والقلوب عنده ، فما كان أشدها تواضعاً له خصه بما شاء ثم بعد ذلك ما كان أسرعها رجوعاً ، وهما هاتان الخصلتان . وقال : ما اطلع اللّه على قلب فرأى فيه همّ الدنيا إلاَّ مقته ، والمقت أن يتركه ونفسه . والقلب لا يملكه أحد إلاَّ اللّه تعالى ، ولا يطيع أحداً إلاَّ اللّه ، فإذا ذكرت به فضع سرك مع اللّه ، فإنه ليس من أحد وضعت سرك عنده إلاَّ هتكه ، إلاَّ اللّه عزَّ وجلَّ . ١٤٧ قوله تعالى : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } [ ١٤٧ ] قال سهل : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من أعرض عنك فرغبه فيَّ ، فإن من رغب فينا ففيك رغب لا غير ، فأطمعهم في الرحمة ، ولا تقطع قلبك عنهم { فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } [ ١٤٧ ] . ١٥١ قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوا الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ ١٥١ ] ما ظهر منها ما نهى عن إتيانه بالجوارح الظاهرة ، وما بطن يعني الإصرار عليه هو على ضربين : فواحد يأتي بمعصية ويبقى مصراً عليها مقيماً على إتيانها ، وآخر مصرّ على المعصية لمحبتها في القلب ، ولا يقدر أن يفعلها متى وجدها لضعف جوارحه ، وهو على أن يفعلها ، وهذا من أعظم الإصرار . وقال سهل : من أكل الحلال بالشهوة فهو مصرّ ، ومن جاوز حاله إلى الغد ما لم يأت الغد فهو مصر . فسئل عن الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين في التفكر فيما لا يعنيهم ، فقال : يجوز عليهم الفعل بالجوارح حتى تابوا إلى اللّه تعالى عن ذلك ، فكيف الفكرة . قيل له : هل للقلب من تعبد استعبده اللّه به دون الجوارح؟ فقال : نعم سكون القلب . قيل له : السكون هو الغرض أم العلم الذي به السكون؟ فقال : هو علم اسميه السكون ، يجر ذلك السكون إلى اليقين ، فالسكون مع اليقين فريضة . ١٥٢ قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } [ ١٥٢ ] قال : تكلم أهل الصدق على أربعة أوجه ، قوم تكلموا في اللّه وباللّه وللّه ومع اللّه ، وقوم تكلموا في أنفسهم لأنفسهم فسلموا من آفة الكلام وقوم تكلموا في الخلق ونسوا أنفسهم وابتدعوا وضلوا ، وبئس ما صنعوا إلى أنفسهم . فاتركوا الكلام للعلم ، ثم تكلموا على الضرورة تسلموا من آفات الكلام . يعني أن لا تتكلم حتى تخاف من الإثم . ثم قال : من ظن [ ظن السوء ] حرم اليقين ، ومن تكلم بما لا يعنيه حرم الصدق ، ومن شغل جوارحه في غير اللّه حرم الورع ، فإذا حرم العبد هذه الثلاث هلك ، وهو مثبت في ديوان الأعداء . وقد حكي عن الربيع بن خيثم رحمه اللّه أنه قال : ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذم نفسي إلى ذم الناس ، خافوا اللّه في ذنوب العباد ، وتواثبوا في ذنوب أنفسهم . ١٥٣ قوله عزَّ وجلَّ : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً } [ ١٥٣ ] قال : الطريق المستقيم هو الذي لا يكون لأصحاب الأهواء والبدع في الدين ، هم ليست لهم توبة ، كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : ( لكل ذنب توبة ، إلاَّ لأصحاب البدع والأهواء ، وإني منهم بريء وهم مني براء ، وإن اللّه عزَّ وجلَّ حجز عنهم التوبة ) ، أي ضيق عليهم التوبة . ١٥٩ قوله تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً } [ ١٥٩ ] قال : المحجوب الذي يسلط اللّه عليه عدوه ، لا يجول قلبه في الملكوت ، ولا تظهر له القدرة ، ولا يشاهد اللّه ، والقلب القاسي أن يكله اللّه إلى تدبيره وأسبابه ، وإنما مثل ميل القلب اللسان إذا تكلم اللسان بشيء لم يتكلم بغيره؛ كذلك القلب؛ إذا هم بشيء لم يكن معه غيره ، واللّه سبحانه وتعالى أعلم . ١٦٥ قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ ١٦٥ ] قال : يعني عقوبة القلب وهو الستر والحجاب ، حتى يميل إلى من سواه ، وما من عبد يطلع اللّه على قلبه فيرى في قلبه غيره إلاَّ سلط عليه عدوه ، وإنه لغفور لمن تاب منه . قال : ولا يقال لشيء من المضار عقوبة ، فإنها طهارة وكفّارة ، إلاَّ قسوة القلب فإنها عقوبة ، وعقوبات العلانية العذاب ، وعقوبات القلب درجات ، فالقلب للنفس فيه حظ ومراد . |
﴿ ٠ ﴾