سورة الاحزاب

٤

قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ ٤ ] قال : المتوجه إلى اللّه عزَّ وجلَّ قصداً من غير التفات ، فمن نظر إلى شيء سوى اللّه فما هو بقاصد إلى ربه ، وإن اللّه تعالى يقول :

{ مَّا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ ٤ ] قيل : قلب يقبل به على ربه ، وقلب يدبر به أمور الدنيا . وللعقل طبعان : طبع للدنيا وطبع للآخرة مؤتلف بطبع نفس الروح ، فطبع الآخرة منطبع بطبع نفس الروح ، وطبع الدنيا مؤتلف بالنفس الشهوانية . ولهذا قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : ( لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) ، فإن العبد ما دام مشتغلاً بنفسه فهو محجوب عن اللّه عزَّ وجلَّ .

٦

قوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ ٦ ] قال : من لم ير نفسه في ملك الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولم ير ولاية الرسول صلى اللّه عليه وسلم في جميع الأحوال لم يذق حلاوة سنته بحال ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ) .

٨

قوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } [ ٨ ] قال عبد الواحد بن زيد : الصدق الوفاء للّه بالعمل . وسئل سهل عن الصدق فقال : الصدق خوف الخاتمة ، والصبر شاهد الصدق ، وإنما صعب الصدق على الصديقين ، والإخلاص على المخلصين ، والتوبة على التائبين ، لأن هذه التلبية لها حكم بدل الروح . قيل لأحمد بن متى : ما معناه؟ قال : أن لا يبقى للنفس نصيب . وقال سهل : لا يشم أحد رائحة الصدق ما دام يداهن نفسه أو غيره . بل الصدق أن يكون في سره أنه ليس على وجه الأرض أحد طالبه اللّه بالعبودية غيره ، ويكون رجاؤه خوفه ، وخوفه انتقاله ، فإذا رآهم اللّه تعالى على هذه الحالة تولى أمورهم وكفاهم ، فصارت كل شعرة من شعورهم تنطق مع اللّه بالمعرفة ، فيقول اللّه تعالى لهم يوم القيامة : ( لمن عملتم ، ماذا أردتم؟ فيقولون : لك عملنا ، وإياك أردنا . فيقول : صدقتم ) فوعزته فقوله لهم في المشاهدة : ( صدقتم ) ألذ عندهم من نعيم الجنة . فقيل لأحمد بن متى : ما معنى قوله : رجاء الصدق خوفه ، وخوفه انتقاله؟ فقال : لأن الصدق رجاؤهم وطلبهم ، ويخافون في طلبهم أن لا يكونوا صادقين ، فلا يقبل اللّه منهم ، كما قال : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [ المؤمنون : ٦٠ ] أي وجلة في الطاعة خوف الرد عليهم .

٣٥

قوله : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ ٣٥ ] قال : الإيمان أفضل من الإسلام ، والتقوى في الإيمان أفضل من الإيمان ، واليقين في التقوى أفضل من التقوى ، والصدق في اليقين أفضل من اليقين ، وإنما تمسكتم بالأنا فإياكم أن تنفلت من أيديكم . وقال : الإيمان باللّه في القلب ثابت ، واليقين بالصدق راسخ ، فصدق العين ترك النظر إلى المحظورات ، وصدق اللسان في ترك ما لا يعني ، وصدق اليد ترك البطش للحرام ، وصدق الرجلين ترك المشي إلى الفواحش ، وحقيقة الصدق من دوام النظر فيما مضى ، وترك النظر فيما بقي ، وإن اللّه تعالى أعطى الصديقين من العلم ما لو نطقوا به لنفذ البحر من نطقهم ، وهم مختفون لا يظهرون للناس إلا فيما لا بد لهم منه ، حتى يخرج العبد الصالح ، فعند ذلك يظهرون ، ويعلمون العلماء من علومهم .

قوله تعالى : { والذاكرين اللّه كَثِيراً والذاكرات } [ ٣٥ ] قال : الذاكر على الحقيقة من يعلم أن اللّه مشاهده فيراه بقلبه قريباً منه ، فيستحي منه ، ثم يؤثره على نفسه وعلى كل شيء من جميع أحواله . وسئل سهل مرة أخرى : ما الذكر؟ فقال : الطاعة . قيل : ما الطاعة؟ قال : الإخلاص قيل : ما الإخلاص؟ قال : المشاهدة . قيل : ما المشاهدة؟ قال : العبودية . قيل : ما العبودية؟ قال : الرضا . قيل : ما الرضا؟ قال : الافتقار . قيل : ما الافتقار؟ قال : التضرع والالتجاء سلم سلم إلى الممات . وقال ابن سالم : الذكر ثلاث : ذكر باللسان فذاك الحسنة بعشر ، وذكر بالقلب فذاك الحسنة بسبعمائة ، وذكر لا يوزن ثوابه وهو الامتلاء من المحبة .

٣٨

قوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللّه قَدَراً مَّقْدُوراً } [ ٣٨ ] قال : أي معلوماً قبل وقوعه عندكم ، وهل يقدر أحد أن يتقي المقدور؟ وقد قال عمر رضي اللّه عنه لما طعن :

( { وَكَانَ أَمْرُ اللّه قَدَراً مَّقْدُوراً } [ ٣٨ ] ، ولقد أخبرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم سيفعلون هذا ) . وحكي عن الضحاك أنه ينزل ملكان من السماء ومع أحدهما صحيفة فيها كتاب ، ومع الآخر صحيفة ليس فيها كتاب ، فيكتب عمل العبد وأثره ، فإذا أراد أن يصعد قَال لصاحب الصحيفة المكتوبة : عارضني فيعارضه ، فلا يخطئ حرفاً .

٧١

قوله : { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ ٧١ ] قال : من وفقه اللّه لصالح الأعمال فذاك دليل على أنه مغفور له ، لأن اللّه تعالى قال :

{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ ٧١ ] .

واللّه سبحانه وتعالى أعلم .

﴿ ٠