سورة الحديد

٣

قوله تعالى : { هُوَ الأول والآخر } [ ٣ ] قال : اسم اللّه الأعظم مكنى عنه في ست آيات من أول سورة الحديد من قوله :

{ هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن } [ ٣ ] وليس المعنى في الأسماء إلا المعرفة بالمسمى ، والمعنى في العبادة إلا المعرفة في العبودية . ومعنى الظاهر ظاهر العلو والقدرة والقهر ، والباطن الذي عرف ما في باطن القلوب من الضمائر والحركات .

٤

قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض } [ ٤ ] قال : باطن الآية الأرض نفس الطبع ، فيعلم ما يدخل القلب الذي فيها له من الصلاح والفساد .

{ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } [ ٤ ] من فنون الطاعات ، فتبين آثارها وأنوارها على الجوارح .

{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } [ ٤ ] عليها من آداب اللّه تعالى إياه .

{ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [ ٤ ] إلى اللّه من الروائح الطيبة والذكر .

٦

قوله تعالى : { وَيُولِجُ النهار فِي الليل } [ ٦ ] قال : باطنها الليل نفس الطبع والنهار نفس الروح ، فإذا أراد اللّه تعالى بعبده خيراً ألّف بين طبعه ونفس روحه على إدامة الذكر ، فأظهر ذلك على مقابلة أنوار الخشوع .

٧

قوله تعالى : { آمِنُوا باللّه وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ ٧ ] قال : يعني ورثكم من آبائكم وملككم ، فأنفقوا عيش أنفسكم الطبيعية من الدنيا في طاعته وطاعة رسوله .

{ فالذين آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا } [ ٧ ] أعمارهم في الوجوه التي أمرهم اللّه بالإنفاق فيها .

{ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } [ ٧ ] وهو البقاء مع الباقي في جنته ورضاه .

١١

قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ اللّه قَرْضاً حَسَناً } [ ١١ ] قال : أعطى اللّه عباده فضلاً ، ثم سألهم قرضاً حسناً ، والقرض الحسن المشاهدة فيه ، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( اعبد اللّه كأنك تراه ) .

وحكي عن أبي حازم أنه قال : إن بضاعة الآخرة كاسدة ، فاستكثروا من أوان كسادها ، فإذا جاء يوم نفاقها لم تقدروا منها على قليل ولا على كثير .

١٢

قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ ١٢ ] قال : نور المؤمن يسعى بين يديه ، له هيبة في قلوب الموافقين والمخالين ، يعظمه الموافق ويعظم شأنه ، ويهابه المخالف ويخافه ، وهو النور الذي جعله اللّه تعالى لأوليائه ، ولا يظهر ذلك النور لأحد إلا إن انقاد له وخضع ، وهو من نور الإيمان ، ثم وصف المنافقين أنهم يقولون لهم :

{ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [ ١٣ ] فنمضي معكم على الصراط فإنا في الظلمة ، فتقول لهم الملائكة :

{ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً } [ ١٣ ] بعقولكم التي كنتم تدبرون بها أموركم في الدنيا ، فيرجعون إلى ورائهم ، فيضرب اللّه بين أنفسهم وبين عقولهم سوراً وقد ستر الخيرة ، فلا يصلون إلى طريق هدى ، حتى إذا انتهوا في السير على الصراط سقطوا في جهنم خالدين فيها .

١٥

قوله تعالى : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [ ١٥ ] يعني لا يؤخذ منكم فداء عن أنفسكم . قال ابن سالم : خدمت سهل بن عبداللّه ستين سنة ، فما تغير في شيء من الذكر أو غيره ، فلما كان آخر يوم من عمره قرأ رجل بين يديه هذه الآية :

{ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [ ١٥ ] فرأيته ارتعد واضطرب حتى كاد يسقط ، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك وقلت : لم يكن عهدي بك هذا . فقال : نعم يا حبيبي قد ضعفت . فقلت : ما الذي يوجب قوة الحال؟ فقال : لا يرد عليه وارد إلا هو يبتلعه بقوته ، فمن كان كذلك لا تغيره الواردات ، وإن كانت قوية . وكان يقول : حالي في الصلاة وقبل الدخول فيها سواء . وذلك أنه كان يراعي قلبه ، ويراقب اللّه تعالى بسره قبل دخوله ، فيقوم إلى الصلاة بحضور قلبه وجمع همته .

١٦

قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه } [ ١٦ ] قال : ألم يحن لهم أوان الخشوع عند سماع الذكر ، فيشاهدوا الوعد والوعيد مشاهدة الغيب .

قوله تعالى :

{ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ ١٦ ] قال يعني باتباع الشهوة .

٢٠

قوله تعالى : { أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [ ٢٠ ] قال : الدنيا نفس نائمة ، والآخرة نفس يقظانة . قيل : فما النجاة منها؟ قال : أصل ذلك العلم ، ثم ثمرته مخالفة الهوى في اجتناب المناهي ، ثم مكابدة النفس على أداء الأوامر على الطهارة من الأدناس ، فيورث السهولة في التعبد والحلول بعده في مقامات العابدين ، ثم يذيقه اللّه ما أذاق أولياءه وأصفياءه وهي درجة المذاق .

قال : وذكر لنا أن إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام أصابه يوماً عطش شديد في مفازة يوم شديد الحر ، فنظر إلى حبشي يرعى الإبل فقال : هل عندك ماء؟ فقال : يا إبراهيم أيما أحب إليك الماء أو اللبن؟ فقال : الماء . قال : فضرب بقدمه على صخرة فنبع الماء ، فتعجب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فأوحى اللّه إلى إبراهيم : لو سألني هذا الحبشي أن أزيل السماوات والأرض لأزلتهما . فقال : ولم ذلك يا رب؟ قال : لأنه ليس يريد من الدنيا والآخرة غيري .

وقال عامر بن عبد القيس : وجدت الدنيا أربع خصال فأما خصلتان فقد طابت نفسي عنهما : النساء وجمع الماء ، وأما الخصلتان فلا بد منهما وأنا مصرفهما ما استطعت : النوم والطعام .

٢٣

قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوا على مَا فَاتَكُمْ } [ ٢٣ ] قال : في هذه الآية دليل على الرضا في الشدة والرخاء .

٢٧

قوله عزَّ وجلَّ : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } [ ٢٧ ] قال : الرهبانية مأخوذة من الرهبة ، وهو الخوف ، ومعناه ملازمة الخوف من غير طمع .

{ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ ٢٧ ] أي ما تعبدناهم بذلك .

٢٨

قوله عزَّ وجلَّ : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ ٢٨ ] قال : يعني الرحمة وعين الرحمة ، فالسر سر المعرفة ، والعين عين الطاعة للّه ولرسوله .

واللّه سبحانه وتعالى أعلم .

﴿ ٠